الصحابية المهاجرة: أم كلثوم بنت عقبة
سبحان الذي يُخرج الحي من الميت. فكما أخرج عكرمة من صُلب أبي جهل فرعون هذه الأمة، أخرج أم كلثوم من صُلب عقبة بن أبي مُعيط الذي كان يضع سلا الجزور على ظهر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وحاول مرةً أن يخنقه.
روى البخاري: بينما النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلّي في حِجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي مُعَيط فوضع ثوبه على عنقه، فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وروى البخاري ومسلم: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ساجدٌ، وحوله ناس من قريش، إذ جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور فقذفه على ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة فأخذته عن ظهره.
وكانت نهاية عقبة أن حضر مع المشركين يوم بدر، ثم إنه وقع أسيراً، فأمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم فضُرب عنقه، ثم ألقي في القليب.
فهذا هو عقبة، وأما ابنته أم كلثوم فهي الصحابية الجليلة المهاجرة، أسلمت بمكة قبل أن يأخذ النساءُ في الهجرة إلى المدينة، ثم إنها هاجرت وبايعت، وكانت هجرتها سنة سبع في هدنة الحديبية. وذكر ابن سعد أنها أول مَن هاجر من النساء. ولنستمع إليها وهي تروي قصة هجرتها، كما في كتاب صفة الصفوة. قالت: "كنتُ أخرج الى بادية لنا فيها أهلي، فأقيم بها الثلاث والأربع، وهي ناحية التنعيم، ثم أرجع إلى أهلي فلا ينكرون ذهابي البادية، حتى أجمعتُ المسير فخرجت يوماً من مكة كأني أريد البادية، فلما رجع مَن تبعني إذا رجل من خزاعة قال: أين تريدين؟. قلتُ: ما مسألتكَ؟ ومَن أنتَ؟. قال: رجلٌ من خزاعة. فلمّا ذكر خزاعة اطمأننت إليه لدخول خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده. فقلتُ: إني امرأة من قريش، وإني أريد اللحوق برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا علم لي بالطريق. فقال: أنا صاحبك حتى أُوردك المدينة. ثم جاءني ببعير فركبته، فكان يقود بي البعير، ولا والله ما يكلمني بكلمة. حتى إذا أناخ البعير تنحّى عني، فإذا نزلت جاء إلى البعير فقيّده بالشجرة وتنحّى إلى فيء شجرة، حتى إذا كان الرواح حَدَجَ البعير [شدّ عليه الهودج] فقرّبه وولّى عني، فإذا أركبت أخذ برأسه فلم يلتفت وراءه حتى أنزل، فلم يزل كذلك حتى قدمنا المدينة، فجزاه الله من صاحب خيراً. فدخلتُ على أم سلمة وأنا متنقبة فما عرفتني، حتى انتسبت وكشفت النقاب فالتزمتني وقالت: هاجرتِ إلى الله عز وجل وإلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟. قلتُ: نعم، وأنا أخاف أن يردّني كما رد أبا جندل وأبا بصير، وحالُ الرجال ليس كحال النساء، والقوم مصبّحي، قد طالت غيبتي اليوم عنهم خمسة أيام منذ فارقتهم، وهم يتحيّنون قدر ما كنت أغيب، ثم يطلبوني، فإن لم يجدوني رحلوا".
وفي سِيَر أعلام النبلاء: "فخرج في إثرها أخواها: الوليد وعمارة، فوصلا المدينة وقالا: يا محمد، فِ لنا بشرطنا. فقالت: أتردّني يا رسول الله إلى الكفار يفتنوني عن ديني ولا صبر لي، وحال النساء في الضعف ما قد علمت؟. فنزل قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجراتٍ فامتحنوهن. الله أعلم بإيمانهن).".
ولما قَدِمَت المدينة، ولم يكن لها زوج بمكة، تزوّجها زيد بن حارثة، فكان هذا الزواج إيضاحاً لمعنى المساواة بين المؤمنين، المساواة بين المرأة القرشية الأموية وبين مولى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وحين قُتل زيد بن حارثة رضي الله عنه في غزوة مؤتة، تزوّجها بعده الزبير بن العوام رضي الله عنه.
وقد رَوَت عدداً من أحاديث النبي صلّى الله عليه وسلّم. ففي مسند بقي بن مخلد لها عشرة أحاديث، ولها في الصحيحين حديث: "ليس الكذّاب الذي يُصلح بين الناس فيَنْمي خيراً أو يقول خيراً"، وحديث: "لم أسمعه [أي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم] يرخّص في شيء مما يقول الناس من الكذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل لامرأته وحديث المرأة لزوجها".
وقد توفيت رضي الله عنها سنة أربعين للهجرة.
وسوم: العدد 1027