الإمام الشهيد
(1)
الإمام الشهيد حسن البنا
مكرم عبيد باشا(*)
تفضلت مجلة "الدعوة" الغراء فطلبت إليّ أن أكتب كلمة في ذكرى الراحل الكريم، الذي شاءت له رحمة الله أن يغادر هذه الدنيا الغادرة، إلى جوار ربه الرحمن الرحيم، كما شاءت لنا نحن رحمة الله أن يظل الراحل الذي فقدناه، ماثلاً بيننا بذكراه، وبتقواه.
وهل هذا الراحل الماثل، إلا فضيلة المرشد المغفور له الشيخ حسن البنا؟
إي نعم، فإذا كنتم أيها الإخوان المسلمون، قد فقدتم الحاكم الأكبر، الخالد الذكر، فحسبكم أن تذكروا أن هذا الرجل الذي أسلم وجهه لله حنيفاً، قد أسلم روحه للوطن عفيفاً، حسبكم أن تذكروه حيًّاً في مجده، كلما ذكرتموه ميتاً في لحده.
وإذا كان الموت والحياة يتنازعان السيطرة في مملكة الإنسان، ويتبادلان النصر والهزيمة فيتساويان، فالغلبة للحياة مع الذكرى، وللموت مع النسيان، ولهذا فالميت حي لديك إذا ذكرته، والحي ميت لديك إذا نسيته.
وما من شك أن فضيلة الشيخ حسن البنا هو حي لدينا جميعاً في ذكراه، بل كيف لا يحيا ويخلد في حياته رجل استوحى في الدين هدى ربه، ففي ذكره حياة له ولكم.
ومن ذا الذي يقول بهذا؟ هو مكرم عبيد صديقه المسيحي الذي عرف في أخيه المسلم الكريم الصدق والصداقة معاً، ولئن ذكرت فكيف لا أذكركم تزاورنا وتآزرنا إبان حياته؟ ولئن شهدت فكيف لا أشهد بفضله بعد مماته؟ وما هي - وأيم الحق - إلا شهادة صدق أُشْهد عليها ربي؛ إذ ينطق بها لساني من وحي قلبي.
بل هي شهادة رجل يجمع بينه وبين الفقيد العزيز الإيمان بوحدة ربه، وبوحدة شعبه، والتوحيد في جميع الأديان المنـزَّلة لا يكفي فيه أن نوحد الله بل يجب أن نتوحد في الله، كما أن وحدة الوطن لا يكفي فيها وحدة أرجائه، بل يجب أن تتوافر لها قبل كل شيء وحدة أبنائه!.
ولقد كان الإخوان المسلمون والكتلة الوفدية هما الهيئتين الوحيدتين اللتين تبادلتا الزيارة في دار الإخوان ونادي الكتلة، بل كان لي الحظ أن يزورني - رحمه الله - في منزلي، وأن نتبادل خلال حديث طويلٍ المشاعر الشخصية والوطنية، وكنت أراه في حديثه أبعد ما يكون عن الشكليات والصغائر، مما جعلني أعتقد أنه رجل قَلَّ مثيله بيننا في التعمق تفكيراً، وفي التنزه ضميراً.
ولقد زرته - رحمه الله - إثر موته في منزله، فكانت زيارة لن أنسى - ما حييت - أثرها الفاجع والدامع، ولقد هالني أن أجد قوة من البوليس تحاصر الشارع الذي به منزل الفقيد، ولولا أن ضابط البوليس عرفني فسمح لي بالمرور لما تيسر لي أن أؤدي واجب العزاء.
ولئن نسيت فلن أنسى كيف كان والده الشيخ البار متأثراً بهذه الزيارة، حتى إنه قصَّ علينا - والدمع يفيض من عينيه - كيف منعوا الناس من تشييع جنازة الفقيد، ولم يسمح لغير والده بالسير وراء نعشه، كما لم يسمح للمُعَزّين بالعزاء في منزله، وراح الوالد الكريم يشكرني، ويدعو لي دعواته المباركات التي ما زلت أتبرك بها، ولو أني قلت له: إن واجب العزاء هو فرض واجب الأداء، فإذا ما قصرت فيه أنا أو أي مصري كان في ذلك تنكُّر لتقاليدنا وأوليات الوفاء .
إخواني:
إي نعم، فأنتم إخواني أيها الإخوان المسلمون.
أنتم إخواني وطناً وجنساً، بل إخواني نفساً وحساً، بل أنتم لي إخوان ما أقربكم إخواناً؛ لأنكم في الوطنية إخواني إيماناً، ولما كانت الوطنية من الإيمان فنحن إذن إخوان في الله الواحد المنان.
وإذا ما ذكرتم اليوم الفضيلة في قبرها، فاذكروا أيضاً ما كان يذكره هو على الدوام؛ إذ يذكر الحرية في سجنها.
فلنطالب إذن بتحرير بلادنا، وتحرير أولادنا المساجين المساكين، فإن الإفراج عنهم عزاء وجزاء في وقت معاً.
(*) أحد الزعماء الوطنيين، انضم لحزب الوفد في بداية حياته السياسية وتولى منصب السكرتير العام للوفد لفترة طويلة، وكان من أهم شخصيات حزب الوفد، واستقل عنه في الأربعينيات وأسس "حزب الكتلة" وكان له جريدة تنطق باسم الحزب، دافع عن الإخوان عقب استشهاد الإمام البنا – رحمه الله – على صفحات الكتلة، وكان من النفر القلائل الذين تمكنوا من أداء واجب العزاء في الإمام الشهيد.
(1) الدعوة – السنة الثانية – العدد (52) - 16جمادى الأولى 1371هـ / 12 من فبراير 1952م.