عبد الرزاق عبد الوهاب علي
عبد الرزاق عبد الوهاب علي
فارس حكيم وقف في مواجهة التحديات الصعبة
فنجح في انتشال الموانئ من تحت الأنقاض
كاظم فنجان الحمامي
هذه حكاية الرجل الشهم الذي وجد نفسه واقفا في نهاية عام 1988 بين مخلفات الغارات الجوية الضارية, وأنقاض هجماتها الحربية المتعاقبة, التي سحقت الموانئ العراقية, ودمرتها تدميراً شاملاً, فنسفت أرصفتها, وحطمت سفنها, وهشمت فناراتها, وأحرقت سقائفها, وخربت رافعاتها, وبعثرت مواردها, وهبطت بمستوى قواها العاملة نحو الركود, وطمرت ممراتها الملاحية بالأطيان والغوارق.
رجل كُفء يمتلك المواهب الهندسية والخبرات الميدانية, وجد نفسه واقفاً وسط أكوام من الركام والرماد والغوارق, ووجد نفسه واقفاً بين صفوف تشكيلات مؤسسة مينائية عملاقة, لكنها كانت وقتذاك مؤسسة عاطلة معطلة, فقدت قدراتها المينائية والملاحية تماماً, ولم تعد تمتلك الحد الأدنى من طاقاتها التشغيلية, خصوصاً بعد أن خسرت أكثر من ثلثي ملاكاتها التشغيلية التخصصية.
رجل وطني غيور وجد نفسه واقفاً تحت ضغوط وأعباء وتداعيات التركات الثقيلة المرهقة, التي كانت تستدعي استنفار طاقات الشركات الأوربية كلها لإسعاف ما يمكن إسعافه, وانتشال ما يمكن انتشاله من تحت الرماد, ووجد نفسه واقفاً أمام تحديات أخرى تتطلب منه إنعاش الموانئ, والعودة بها بقوة وبسرعة وبكفاءة عالية, حتى تكون مؤهلة لخوض غمار حلبة التنافس المينائي في حوض الخليج العربي.
هذه حكاية المهندس المبدع الذي انبرى لإدارة الموانئ للمدة من 20/10/1988 لغاية 5/9/1994, وهي أطول فترة قضاها مدير عراقي منذ عام 1953, العام الذي تحولت فيه إدارة موانئنا من الإدارة البريطانية إلى العراقية, على يد الراحل (محمد سعيد القزاز), وثاني أطول فترة في تاريخها بعد الكولونيل (السير جي سي وورد), الذي مكث في موقعه مديراً عاماً للموانئ من عام 1919 إلى عام 1943, وبالتالي فأننا نتحدث هنا عن مرحلة حرجة, تعد في نظري بمثابة الولادة الثانية للموانئ العراقية, لأنها الولادة التي انطلقت فيها من الصفر لتسجل أرقاماً قياسية مذهلة, لا تخطر على البال, لذ فإننا سنتحدث بإسهاب عن عودة الروح لمنشآتنا المينائية المعطلة, وكيف استردت أنفاسها بالتدريج, حتى استعادت عافيتها بالكامل.
لقد سمعته يردّد ولأكثر من مرة: (كم تمنيت أن يوفقني الله, ويوفر لي مستلزمات النجاح, فأنهض بالموانئ إلى المستوى الرائع الذي كانت عليه في الخمسينيات, وأعود بها إلى الزمن الجميل, الذي ازدهرت فيه على يد الراحل مزهر الشاوي).
الموانئ قبل عام 1980
يتعذر علينا أن نقدم للقارئ الكريم صورة وصفية واضحة المعالم, نرسم فيها ملامح الانهيار الذي أطاح بقدرات الموانئ, وهبط بمؤشراتها نحو الصفر بعد عام 1980, ما لم نتطرق إلى قدراتها وطاقاتها ومستواها الأدائي في المرحلة التي سبقت اندلاع حرب الخليج الأولى.
كانت الموانئ حتى الشهر التاسع من عام 1980 تعمل بوتيرة متسارعة, وبقدرات تشغيلية استثنائية, لا تخلو من القرارات الارتجالية, ولا تخلو من الأساليب العشوائية في التعامل الحازم مع بعض الحالات المستعصية, التي فرضتها وقتذاك تداعيات مشكلة الاكتضاض, وما نجم عنها من تكدس مئات السفن التجارية في منطقة الانتظار, والتي تصاعدت فيها المعدلات الزمنية للانتظار, حتى تجاوزت حاجز الستة أشهر.
كان إجمالي القوى العاملة عام 1980 في حدود (22000) مُنتسب, وكان أجمالي المعدات المينائية والبحرية بكل أنواعها في حدود (1000) قطعة, تشمل الرافعات الثابتة والمتحركة والشوكية, وتشمل الحاضنات والسيارات والشاحنات والباصات والحوضيات والبلدوزرات.
كان عدد الأرصفة العاملة في المعقل وأبي الفلوس وخور الزبير وأم قصر والفاو والمعامر, والمراسي الوسطية الصالحة لتفريغ حمولات السفن على العوامات المثبتة في مناطق الخورة والصنكر وأبي الخصيب في حدود (40) رصيفاً ومرسى.
وكانت طاقاتها الإجمالية لا تقل عن (12) مليون طن سنوياً, وكانت شبكات الماء والكهرباء والإطفاء والهاتف جميعها صالحة, وتعمل في أوضاع جيدة وأحياناً مقبولة, بينما كانت الممرات الملاحية لشط العرب في وضعها التشغيلي الطبيعي, وكان غاطس السفن المسموح لها بالدخول في حدود ثمانية أمتار ونصف المتر, بينما كان غاطس السفن المسموح لها بدخول قناة خور عبد الله في حدود (12) متراً في الجزر الواطئ.
أما الزوارق والسفن والوحدات العائمة التابعة للموانئ فكانت في حدود (80) قطعة بحرية, تشتمل على سفن الحفر, وسفن القطر والتنوير والمسح والنقل والخزن وخدمات الأرصفة, وسفن الإرشاد, وجنائب ورافعات عائمة.
الموانئ بعد عام 1988
تردّى مستوى الموانئ وتدهورت أحوالها عام بعد عام, حتى أصيبت بالشلل التام, واستقرت مؤشراتها التشغيلية والإنتاجية في الشهر الثامن من عام 1988 على خط الصفر, فتراجع تعداد مواردها البشرية من (22000) إلى (7000) منتسب, وتناقصت معداتها المينائية والبحرية من (1000) إلى (100) قطعة معظمها عاطلة أو رديئة, في حين تعطلت أنشطة الأرصفة في موانئ شط العرب, وتعرضت محطات السيطرة الملاحية وأبراجها اللاسلكية في الواصلية والفاو للقصف المدفعي الشديد, فتحولت إلى أثر بعد عين, وتعطلت معها المراسي الوسطية والمرافئ الثانوية في هذا المجرى الملاحي الحيوي بسبب الجسور العسكرية الفولاذية المقامة من الضفة إلى الضفة في المقطع المحصور بين الفاو ورأس البيشة, ما أدى إلى انسداد الممر الملاحي في أكثر من موقع, ناهيك عن تعرض حوض منطقة السد الخارجي (قناة الروكا) لسلسلة من الأضرار والعوامل الطبيعية, وبخاصة في منطقة المصب, بسبب توقف عمليات الحفر والتعميق والتهذيب, وغياب الصيانة الدورية, فتغيرت مساراتها, وتردت أعماقها إلى أربعة أمتار, وانحرفت مسالكها, وفقدت فناراتها وعواماتها وعلاماتها الملاحية (الليلية والنهارية), وتراكمت في قيعانها الزوارق والدبابات والطائرات الحربية والكتل الخراسانية, وطفت على سطحها الألغام الحية والمتفجرات غير المنفلقة, وتبعثرت على جنباتها أشلاء السفن التجارية المعطوبة, حتى أصبحت من العلامات الفارقة على طول المجرى الملاحي الممتد من ميناء المعقل إلى ميناء خور العُميَّة, فلم يُسمح للسفن القادمة والمغادِرة بسلوك هذا الممر الملاحي المحفوف بالمخاطر, ما لم تُزلْ الجسور, وتُرفعْ الألغام, وتُنتشل الغوارق, وما لم تخضع المسطحات المائية برمتها للمسح الهيدروغرافي الشامل, وهكذا ظلت موانئ المعقل والفاو والمعامر وأبو فلوس معطلة وغير فاعلة.
لم تكن الممرات الملاحية في خور عبد الله أوفر حظاً من شط العرب, فقد تدهورت أعماقها حتى بلغت سبعة أمتار, ولم تعد قادرة على استقبال السفن الكبيرة, وتراكمت في أعماقها أشلاء السفن والناقلات العملاقة, وتوزعت الأضرار الجسيمة بالطول والعرض حتى شملت الممرات المؤدية إلى ميناء خور الزبير.
أما الوحدات البحرية الكبيرة فقد زُج بها في الحرب, وأسندت إليها الواجبات التعبوية لتقديم الإسناد والدعم البحري فغرقت وتحطمت وجنحت على الشواطئ البعيدة, وتعرض المتبقي منها إلى التلف بسبب التقادم, فخرجت من الخدمة, ولم تتجاوز نسبة الصالحة منها 10% بالمقارنة مع ما كانت عليه عام 1980.
إدارة خلية الأزمة
أدرك الأستاذ عبد الرزاق بفطنته المعهودة, أن لا قدرة له في التصدي وحده لهذا الكم الهائل من الأزمات الموروثة والمشاكل المستعصية, وأدرك انه لن يحرز النجاح في تنفيذ مهمته على الوجه الأكمل ما لم يستعن بفريق من الخبراء والاختصاصيين, إذ يتعذر على أي قائد أعزل أن ينبري وحده لإزالة هذه التراكمات الثقيلة من دون أن يشكل خلية مركزية لإدارة الأزمة, فسارع إلى تشكيل فرق محورية لتذليل أزمات الموانئ العراقية, وكانت في بداية تشكيلها تتألف من ثلاثة مستويات قيادية:
المستوى القيادي الأول (برئاسته): يتألف من مدير الشؤون الهندسية (الراحل ناصر محمد محمد علي خان), ومدير الشؤون البحرية (رئيس المهندسين عصمت مصطفى, ثم تلاه الدكتور محمد صابر الموسوي), ومدير الشحن والتفريغ (الأستاذ طالب هاشم عباس), ومدير الملاحة البحرية (الربان محسن عبد الله السالم). كانوا يجتمعون مساء كل يوم تقريباً.
المستوى القيادي الثاني (برئاسته أيضاً): يتألف من مدير الدائرة الإدارية والمالية, ومدير التخطيط والمتابعة, ومدير قسم الهندسة المدنية, ومدير الهندسة البحرية, ومدير ميناء أم قصر, ومدير ميناء خور الزبير, ومدير قسم الماء والكهرباء, ومدير المخازن والمشتريات, ومدير الحفر البحري, ومدير الإنقاذ والانتشال. كان يجتمع بهم أسبوعياً, أو كلما دعت الحاجة.
المستوى القيادي الثالث (برئاسته أيضاً): يضم أعضاء الهيئة الاستشارية, ومدراء الدوائر الرئيسة, ومدراء الأقسام كافة, وأصحاب الاختصاص الذين تتطلب الحاجة حضورهم, وكان يجتمع بهم شهرياً.
لقد عمل أعضاء هذه الفرق بتفان وإخلاص, وروح وطنية عالية, وحماس منقطع النظير, كانوا جميعاً في منتهى العفة والنزاهة, وظلت أسمائهم محفورة في ذاكرة الموانئ حتى يومنا هذا, وهم اليوم من الأمثلة النادرة, التي ستحتذي بها الأجيال القادمة.
يعود الفضل كله إلى الأستاذ عبد الرزاق, الذي نجح في استنفار طاقات تلك النخبة المنتخبة من الرجال الأفذاذ, ونجح في توظيف خبراتهم ومهاراتهم ومواهبهم, فوجههم بالاتجاهات الصحيحة طيلة المدة الطويلة, التي أمضاها في مركز القيادة العليا للموانئ, والتي بلغت (2146) يوماً بالتمام والكمال, كان كل يوم من تلك الأيام المتفجرة بالطاقات يرسم في حياته المهنية علامة لا تنسى, ويشكل في سجل الموانئ نقلة نوعية نحو الأفضل. .
بدايات الأسطول الخدمي
كان أسطول الموانئ مدمراً بالكامل باستثناء بعض السفن والزوارق, التي كانت تعمل بنصف طاقاتها التشغيلية, وربما أقل من ذلك, فباشر على الفور بإصلاح ما يمكن إصلاحه من الوحدات المعطوبة, وإعادتها إلى الخدمة, فتبنى حملة هندسية مكثفة في حوض المسفن البحري في (الجبيلة), وحوض المزلق البحري في (الداكير), خضعت فيها السفن الخدمية للإعمار والصيانة الفورية, وكان العمل في الحوضين يجري بوتيرة متسارعة على مدار الساعة, ومن دون توقف, توزعت فيهما الطاقات الإنتاجية على وجبتين مسائية وصباحية, وبساعات عمل إضافية مدعومة بمكافئات وحوافز مالية مجزية, فكانت هي الروافد المثمرة, التي عززت قدرات الأسطول, بما أضافته له من وحدات بحرية صالحة للعمل, بمعدل وحدة بحرية واحدة في الأسبوع.
كان المدير العام مخولاً وقتذاك باستئجار ما يشاء من الوحدات البحرية الخليجية, فاستأجر من دولة الإمارات سفينتين خدميتين من سفن القطر, بقدرة (5000) حصاناً لكل سفينة, أرسلها للعمل في الموانئ النفطية, وأرسل السفن الخدمية الوطنية للعمل في موانئ أم قصر وخور الزبير.
ثم تحسنت قدرات الأسطول عام 1989 بعودة أربع سفن عراقية جديدة كانت محجوزة في ميناء (جيزان), وهي من سفن القطر, التي تبلغ قدرتها الحصانية (3000) حصاناً لكل سفينة, وهي (العلياء), و(الشموخ), و(الانتصار), و(النهوض), فتحركت تلك السفن من ميناء (جيزان) في البحر الأحمر إلى ميناء أم قصر, عبر مضيق باب المندب وبحر العرب وخليج عمان ومن ثم عبر مضيق هرمز فالخليج العربي, في قافلة جماعية طويلة قادها الربان المبدع (عبد المحسن عبد الله السالم), وكانت سفينة الحفر القاطعة الماصة (سيف سعد) من ضمن السفن العائدة من (جيزان), ومن ضمنها أيضاً المسفن البحري العائم (حطين), والجنائب الحوضية المخصصة لنقل الماء والوقود, فأرسل سفينة الحفر (سيف سعد) إلى أم قصر للمباشرة بحفر وتعميق نهر رقم (1), وأرسل سفينتين من سفن القطر الأربع إلى الموانئ النفطية لتحل محل السفن المؤجرة, وخصص سفينتين للموانئ التجارية. كانت هذه هي البدايات الصحيحة التي استعاد فيها الأسطول المينائي الخدمي عافيته.
غوارق وخوانق ومعوقات
تنوعت القطع المغمورة في جوف الممرات الملاحية, وتباينت في أحجامها وأشكالها وأوزانها ومواقعها ودرجات خطورتها, فتبعثرت أشلاء السفن والزوارق والمخلفات الحربية في كل مكان تقريباً, وتكدست الجسور والقناطر الحربية الفولاذية في شط العرب بين الفاو ورأس البيشة, وبات من المتعذر على الزوارق الصغيرة التحرك بحريتها المعهودة, فما بالك بالسفن التجارية الكبيرة الوافدة إلى موانئنا.
كان المدير المسؤول عن إدارة قسم الإنقاذ هو الربان (ثامر والي زنبور), وهو من الربابنة الأذكياء الطموحين, كان يجد في نفسه القدرة على إدارة ما هو أكبر من قسم الإنقاذ والانتشال, فخصص له المدير العام حصة من وقته الثمين للاجتماع بفرق الغوص والغطس, ومناقشة الكابتن (ثامر) بالأمور الفنية والملاحية المتعلقة بكيفية إزالة الغوارق الثقيلة, ووفر له المدير الأستاذ عبد الرزاق ما يحتاجه من دعم وإسناد ومؤازرة, وكانت معظم متطلبات فرق الإنقاذ من ضمن الطلبات المعقولة والمتيسرة, كمعدات الغوص, والأسلاك والأصفاد والسلاسل والمخاطيف, والزوارق المطاطية, ومعدات القطع تحت الماء, وتهيئة معدات السلامة, وصرف الحوافز المالية, وأجور الأعمال الإضافية.
أدرك الأستاذ عبد الرزاق أهمية الارتقاء بمهارات فرق الغوص والانتشال, فأرسل مجموعة منهم للتدريب في ماليزيا على القطع واللحام تحت الماء.
لقد أدى قسم الإنقاذ جهداً رائعاً ومتميزاً, وكان للربان (ثامر والي) دوراً رائداً, ولزملائه في العمل دوراً لا يقل إبداعاً عنه, لكن اندلاع حرب الخليج الثانية عام 1991, وتكرّر غاراتها الجوية الساحقة, أجهضت انجازات قسم الإنقاذ, وأضافت أعباءً جديدة للأعباء القديمة الموروثة من حرب الخليج الأولى.
القائد المناسب في المركز المناسب
لم تتدخل الصدف ولا المحسوبية ولا المنسوبية ولا القرارات الارتجالية في اختيار هذا الرجل الحكيم لانتشال سفينة الموانئ من الغرق, فقد كان يحمل من المؤهلات الهندسية والإدارية والقيادية ما يجعله جديراً بهذه المهمة الصعبة, فكان هو الرجل المناسب الذي شغل المركز المناسب في التوقيت المناسب.
كان قبل أن يأتي إلى الموانئ رائداً ميدانياً موهوباً من رواد الهندسة المدنية في معظم آفاقها التطبيقية الرحبة, كان مبدعاً وطنياً, ثاقب البصر والبصيرة, يمتلك أرفع المؤهلات الأكاديمية, وأغنى الخبرات, وأعلى المهارات, شغوفاً بالتنظيم والانضباط, له قدرات رائعة على التأثير في العاملين من حوله, يتقاسم المسؤولية مع موظفيه, لا يتحرج من استشارة من حوله, يتعامل مع المشاكل أولاً بأول, فيستدل على الحلول الناجعة بأيسر الطرق, يتفنن في توفير أجواء التحفيز والعصف بالطاقات الكامنة, يعرف مفاتيح الدخول إلى عقول العاملين معه.
كان من الطبيعي أن يمنحه عمله الدؤوب في المشاريع الهندسية الخبرات التراكمية المكتسبة, ويمنحه القدرات الاستثنائية في التخطيط الاستراتيجي, وهكذا علمته خبراته الطويلة المكتسبة كيفية التعامل مع الكتل البشرية الكبيرة على الرغم من اختصاصاتها المتنوعة, وعلّمته كيفية التعامل مع المشاكل المستعصية, وكيفية مواجهة المخاطر الداهمة, فوظَّفَ مهاراته كلها في نطاق الحدود الحرجة, وأطلقها لخوض المغامرات المحسوبة المخاطر.
وما أن انتهت الحرب حتى أدركت الدولة العراقية (بعد خراب البصرة) حجم الأضرار الجسيمة التي سحقت بنيتنا التحتية والفوقية في موانئنا الوطنية, وأدركت حجم الفواتير المالية المرهقة, التي يتوجب على العراق دفعها (بالعملة الصعبة) لإدارات الموانئ البديلة في الأردن وتركيا والكويت وقطر, فتوجهت الدولة بثقلها كله نحو الاعتماد على موانئنا والنهوض بها من جديد, فكلفت هذا الرجل بتشكيل لجنة برئاسته وعضوية ممثلين من الوزارات المعنية, كان الراحل (الأستاذ فالح الموسى) يمثل وزارة النقل والمواصلات في تشكيلة اللجنة, التي اجتمعت في صيف عام 1988 لإعداد دراسة مستفيضة عن الأوضاع المزرية للموانئ, وتحديد متطلبات النهوض بها وإعادة تشغيلها, فاستفادت اللجنة كثيراً من معلومات (الموسى) في إعداد التقرير النهائي, وفي تثبيت الاستنتاجات والتوصيات, التي حددت المتطلبات العامة في إطار تشخيصي شامل.
رفعت اللجنة توصياتها المرفقة بالدراسة إلى الجهات المعنية, فصدرت الأوامر المركزية بتعيين الأستاذ (عبد الرزاق عبد الوهاب علي) مديراً عاماً لموانئ العراقية, ومنحته الجهات المعنية صلاحيات وزير من أجل تجاوز العقبات وتنفيذ المتطلبات على وجه السرعة.
لم يكن يحمل في يده أي شيء عندما التحق بالموانئ في 22/10/1988 سوى توصيات اللجنة ومقترحاتها, فاجتمع بمدراء الدوائر الرئيسة بعد التحاقه بالموانئ, كان على رأسهم الراحل (ناصر محمد محمد علي خان) تحاور معهم بشفافية تامة حول سبل النهوض بالموانئ, استمع لآرائهم, سجل مقترحاتهم, ثم طلب من مدراء الأقسام كافة إعداد ملفات خاصة تتضمن احتياجات كل قسم, ومتطلبات النهوض بواجباته, وأوصاهم أن يرفقوا الملفات بكشوفات تحليلية وتفصيلية, على أن تقدم للمناقشة خلال أسبوع من تاريخه, وهكذا تجمعت لديه الملفات والكشوفات والتقارير والجداول والخرائط, فكرس وقته كله لمناقشة مدراء الأقسام , الواحد بعد الآخر, بحضور مدراء دوائرهم الرئيسة, وكانوا في حينها: الأستاذ (ناصر خان) مديراً للشؤون الهندسية, والأستاذ (طالب هاشم عباس) مديراً للشحن والتفريغ, والأستاذ (إبراهيم محمد سعيد) مديرا للشؤون الإدارية والمالية, والأستاذ (عصمت مصطفى) مديراً للشؤون البحرية, ثم استبدل عام 1989 بالدكتور محمد صابر الموسوي, واستبدل الأستاذ (إبراهيم) بالأستاذ (عبد الوهاب النائب) وظل الأستاذ (إبراهيم) مستشاراً للمدير العام.
لقد ساعدته هذه الخطوة كثيراً في صياغة الأفكار الإستراتيجية الناضجة, ورسم المسارات المستقبلية الصحيحة, فنجح في تثبيت تفاصيل خطته التنفيذية, وحدد مسؤوليات الأقسام وصلاحياتها.
سر النجاح والتفوق
لم يكن متعذراً عليه التصدي لمشاكل الموانئ وتعقيداتها, فقد تراكمت لديه خبرات كبيرة بفضل المدة الطويلة التي أمضاها في إدارة وتنفيذ المشاريع الهندسية المتوالية, فلم يكن من الصعب عليه التعامل مع الروتين القاتل, لأنه كان مخولاً بصلاحيات استثنائية واسعة (صلاحيات وزير), أما في الحالات النادرة التي كانت تتجاوز تلك الصلاحيات وتتعداها, فكان يلجأ إلى الجهات العليا ليحصل منها على الموافقات الفورية, التي كانت تأتيه هاتفياً لضمان سرعة الحسم والتنفيذ.
على الرغم من ابتعاد مؤهلاته الهندسية الأكاديمية عن مناهج ومقررات الدراسات البحرية والمينائية والملاحية, لكنه كان واسع الإطلاع في الشأن البحري, لحرصه الشديد على مراجعة الدراسات والإصدارات المتعلقة بإدارة الموانئ وتشغيلها وتطويرها, فقرأ الدوريات التي تصدرها منظمة التجارة والتنمية (الأونكتاد), وقرأ منشورات الموانئ الخليجية, والمنشورات الصادرة من ميناء روتردام, والموانئ الأخرى, ناهيك عن مراجعته للدراسات القديمة التي أعدتها الموانئ في السنوات السابقة.
كان يمتلك أفضل مقومات الثقة العالية بالنفس, لم يكن أنانياً ولا فاسداً ولا مفسداً. لم يستغل منصبه لجني الثروات وإقامة العلاقات. كان صارماً من دون تشدد. لم يكن متردداً في اتخاذ القرارات المصيرية المباشرة. كانت مقرات الدوائر في زمنه خالية من المراجعين والمتطفلين, فالعامل في ورشته, والربان في سفينته, وموظف الميناء في رصيفه, والإداري في مكتبه, كانت الموانئ العراقية في زمنه عبارة عن خلية عملاقة منتجة, تعمل ليل نهار من دون توقف. .
ارتبط بعلاقات مهنية حميمة مع مدراء الدوائر والأقسام, فلم يبخلوا عليه بمشورتهم, ولم يحجبوا عنه خبراتهم, فتلاحموا معه على الصفاء والمودة نحو تعزيز قوة الموانئ, فاستفاد كثيراً من خبرات الراحل ناصر خان, وإبراهيم محمد سعيد, والدكتور محمد صابر, وناظم الأمام, ومحمود صالح عبد النبي, وغازي سعيد, ومحسن السالم, وثامر والي, وعمار مهدي العطية, وصادق جعفر حبش, ورياض عبد الواحد صيهود.
تبنّى نظاماً صارماً في المتابعة, كان يسجل يومياً في دفتر ملاحظاته عشرات النقاط والملاحظات, ويثبت في دفتره عشرات الأعمال التي تستدعي التنفيذ, يتابع تنفيذها بلا كلل ولا ممل, يتحاور في مكتبه مع المعنيين بالأمر, يسجل ملاحظاته عنهم وعليهم سلباً أو إيجاباً, يستخدم الهاتف للتعرف على المواقف اليومية من مصادرها, يخرج من مكتبه كل يوم فيتوجه بمفرده للقيام بجولاته الميدانية في المواقع البحرية والمينائية والهندسية, يستعين دائما بعدد من المتابعين (عيون غير معروفة ولا مكشوفة) للتعرف في الخفاء على ما تقوم به فرق العمل, أو لرصد تحركات لجان المشتريات, لم يستقر في مكتبه في يوم من الأيام إلا لساعة أو ساعتين, بينما يمضي الوقت كله في مواقع العمل, فيتنقل بسيارته بين ميناء أم قصر, وخور الزبير, والمسفن البحري, ومحطات السيطرة, يزور فرق الانتشال والتعويم في مواقعها المينائية, بتابع ما تقوم به سفن الحفر والتعميق, وما تقوم به فرق المسح البحري, لم تكن لديه أي رغبة في تضييع الوقت بالرحلات الخارجية, والإيفادات المتكررة. كان يجد متعة كبيرة في التواجد الميداني بين موظفيه. تراه في حركة دائبة, تتمدد ساعات العمل عنده لأكثر من (16) ساعة يومياً, كان ذلك ديدنه في الأعوام 1988, 1989, 1990, 1991. حتى تعرض للإصابة بذبحة صدرية حددت تحركاته, وقيدت نشاطاته في الأعوام التالية: 1992, 1993, 1994.
أدوات بسيطة وإنجازات باهرة
لا نريد الخوض هنا في تفاصيل الخطط المينائية الإستراتيجية, التي شرع بتنفيذها هذا الرجل, ولا نريد أن يفهم القارئ أننا نقول هذا الكلام من أجل تضخيم الوقائع, وتزويق الأحداث, والنفخ في بالونات الدعاية المدفوعة الثمن لغايات انتخابية, أو لنيل رفعة سياسية, فالرجل الذي نتحدث عنه لا حاجة له بما نقوله أو لا نقوله, فقد تجاوز الرغبات الدنيوية, وانصرف منذ سنوات للزهد والعبادة, وضرب أروع الأمثال في النزاهة والعفة والاستقامة عندما غادر عمله الوظيفي براتبه التقاعدي, من دون أن تكون له أي موارد أو مكتسبات مالية إضافية. لكننا نريد أن ننقل للأجيال القادمة صورة صادقة من صور المواقف الوطنية المشرفة, التي استطاعت أن تنجز المشاريع الكبيرة بأبسط الأدوات وبأقل الخبرات.
لنأخذ على سبيل المثال معطيات ونتائج المرحلة الأولى من مراحل الخطة التنفيذية لإعادة تشغيل الموانئ, والتي حُدِّدَ لها السقف الزمني الممتد من 1/1/1989 لغاية 31/12/1990, فنرى كيف استطاعت أن تصلح أضرار الحرب العراقية الإيرانية كافة, وكيف تضافرت جهود العاملين في دوائر وأقسام ووحدات الشؤون الهندسية, والشؤون البحرية, والشحن والتفريغ بإعداد الكشوفات التفصيلية لمتطلبات إعمار وتشغيل الموانئ, فتكللت تلك المرحلة بسلسة من الانجازات الباهرة, تمثلت بتنفيذ المسوحات الهيدروغرافية الشاملة لأعماق ممراتنا الملاحية الممتدة من ضياء شط العرب إلى مقتربات ميناء البصرة النفطي (ميناء البكر سابقاً), لمسافة تزيد على أربعين كيلومتراً, فنجحت في تحديد أعماقها إلى (22) متراً, ثم قامت بتأثيثها بالعوامات والعلامات البحرية الدالة على مسارات الناقلات العملاقة المحملة بالنفط, والمترددة على موانئنا النفطية في عرض البحر.
تعاقدت الموانئ بعد ذلك مع شركة (غلوبال) البحرية البريطانية لتنفيذ أعمال المسح الهيدروغرافي الدقيق, وأعمال البحث والكشف عن الألغام والمتفجرات والمخلفات الحربية والمدنية الغارقة, وتحديد مواقعها في خور عبد الله وخور الزبير, تمهيداً لتعميقها وتوسيعها وتهذيبها, ثم قام قسم التنوير البحري بتصحيح مواقع العلامات الملاحية المنجرفة والمنحرفة, وتعويض العلامات المفقودة, فتعاملت سفن التنوير مع حوالي (150) عوامة وعلامة بحرية.
ثم تعاقدت الموانئ مع شركتين هولنديتين, هما شركة (فولكرستيفنسن), وشركة (بوسكالس), ممثلة بمقاول واحد يدعى (فولكر بوسكالس), لحفر وتعميق خور عبد الله وخور الزبير وواجهات الأرصفة في حوض نهر رقم (1), وكان من المقرر رفع وإزالة كميات هائلة من الأطيان والرمال المترسبة في القاع, تقدر بنحو (50) مليون متراً مكعباً في مدة لا تزيد على عام واحد, فاختارت الموانئ مكتباً استشارياً يابانياً لمواكبة عمليات الحفر, ورصد نتائجها, وكان مدير قسم المشاريع الهندسية الأستاذ (محمود صالح عبد النبي), ومدير قسم الحفر والمسح البحري الراحل (طالب جاسم) من ضمن اللجنة المكلفة بمتابعة عمليات الحفر.
من نافلة القول نذكر أن المقاول الهولندي طلب وضع مبلغ المقاولة بالكامل في إحدى البنوك الأوربية قبل المباشرة بعمله في العراق, بذريعة عدم ثقته بالقدرات المالية للحكومة العراقية, التي خرجت تواً من حرب ضروس دامت ثماني سنوات, فرفضت الموانئ العراقية هذا الطلب رفضاً قاطعاً, وقررت الحكومة العراقية, لطمأنة الشركة بتوفر مبلغ المقاولة, وضع مبلغ المقاولة البالغ (55) مليون دولار بحساب شخصي, باسم الأستاذ عبد الرزاق عبد الوهاب مدير عاما الموانئ, في مصرف (أمروبانك) الهولندي تُصرف منه استحقاقات المقاول على شكل دفعات تتماشى مع المراحل المُنجزة, والطريف بالأمر أن المكتب الاستشاري الياباني حدد كميات الأطيان المرفوعة بحوالي (40) مليون متراً مكعباً, وهي دون الكمية المقررة بعشرة ملايين متراً مكعباً, فلم يدفع لهم الأستاذ عبد الرزاق المبلغ المتفق عليه, بسبب عدم اكتمال رفع الكميات المقررة, وهكذا استقطع منهم (14) مليون دولار, أعادها أصولياً إلى البنك المركزي العراقي عام 1990.
عاد قسم التنوير البحري لاستبدال (39) عوامة ملاحية من عوامات خور عبد الله بعوامات جديدة, ثم انشغل بصيانة وإنارة (40) عوامة ملاحية من العوامات القديمة, فأصبحت الممرات الملاحية المؤدية إلى موانئنا النفطية والتجارية جاهزة وعلى أتم الاستعداد لاستقبال الناقلات والسفن القادمة. ولأهمية تجهيز سفننا الخدمية بالماء والوقود نجح المعمل الميكانيكي في أم قصر بمعاونة قسم الهندسة البحرية بتحوير بعض الجنائب الصغيرة من سعة (700) طن.
وفي ضوء الكشوفات المقدمة من الأقسام المعنية عن النقص الحاد في معدات الأرصفة ومستلزماتها التشغيلية, قام الأستاذ عبد الرزاق بتشكيل لجنة مؤلفة من ستة أشخاص, برئاسة رئيس المهندسين الراحل (مكي الياسري), أوفدوا جميعاً إلى الكويت, لشراء المواد المطلوبة, وتم تحويل مبلغ (2) مليون دينار, بما يعادل (6,4) مليون دولار عن طريق السفارة العراقية في الكويت, فاشترت اللجنة مجموعة من الرافعات الشوكية, والرافعات المتحركة, واللوردات, والضاغطات, وقطع الغيار الكهربائية والميكانيكية, والأسلاك والأصفاد والسلاسل, والحبال والشباك, شحنت جميعها على جناح السرعة إلى موانئنا, ودخلت الخدمة فور وصولها.
في هذه المدة الزمنية الوجيزة, نجح المسفن البحري, وقسم الهندسة البحرية, بتسفين (25) وحدة بحرية في الحوض العائم, وتسفين (100) وحدة بحرية صغيرة في المزلق البحري, وتسفين (41) جنيبة و(15) دافعة تابعة للنقل المائي, وتسفين وإصلاح سبع سفن حفر, وأربع سفن قطر, وتصنيع (55) طوافة مزدوجة لسفينة الحفر (سيف سعد).
أدركت الموانئ في تلك الحقبة أنها في أمس الحاجة لتعزيز أسطول سفن الحفر بسفينة إضافية من النوع الماصة الخازنة بسعة (2000) متراً مكعباً, فأوفدت لجانها الهندسية والملاحية التخصصية إلى ألمانيا لشراء سفينة جديدة. فوقع الخيار على سفينة مستعملة لا يزيد عمرها على أربع سنوات, اشترتها الموانئ بسعر خمسة ملايين دولار, وأطلقت عليها اسم (النصر), فوصلت إلى أم قصر وباشرت بحفر ممراتنا الملاحية, والشيء بالشيء يذكر أن هذه السفينة اختطفت عام 2003 من قبل قراصنة دول الجوار, فغيّروا اسمها إلى (Caspian) عام 2004, ثم غيّروه إلى أسماء بديلة, لكنها مازالت راسية في المنفى ولم تتحرك سنتيمتراً واحداً حتى يومنا هذا.
أما قسم الإنقاذ والانتشال فقد نجح في المدة ذاتها بتعويم أربع سفن كبيرة من سفن البضائع, وست سفن خشبية, و(13) جنيبة وسفينة محلية, وسفينة حفر واحدة, وست عبارات, وكازينو عائمة, و(15) زورقاً صغيراً, ويختاً واحداً في شط العرب, وانتشال (50) هدفاً غارقاً في خور عبد الله, و(17) كتلة خراسانية في خور الزبير, وخمس عاكسات رادارية عائمة من مقتربات الموانئ النفطية.
وخضعت الأرصفة ومخازنها وسقائفها وسككها وطرقها ورافعاتها وواجهاتها المائية وواقياتها المطاطية ومرابطها الفولاذية وشبكاتها المائية والكهربائية والهاتفية وأبراجها الضوئية ومحطاتها اللاسلكية لحملة مكثفة من حملات الإصلاح والأعمار والتحديث والتطوير والتجهيز, وربما يطول بنا المقام في سرد التفاصيل الدقيقة التي شملتها حملات الأعمار في المدة المحددة من بداية عام 1989 إلى نهاية عام 1990, فما بالك بما تحقق من انجازات على يد هذا الفارس في السنوات اللاحقة ؟.
الانتصار على ماكمان
من المفارقات المضحكة المبكية أن الموانئ العراقية خضعت منذ عام 1919 وحتى عام 1992 لأحكام القوانين والتشريعات البليدة, التي صاغها الضابط البريطاني (أمير اللواء جورج فليجر ماكمان) في بنود رسمت حدود الموانئ ببعض المعالم المبهمة, كسوق (هي), وبار (بيكادلي), وساحة (التبن), وقيدت أنشطتها في لوائح تشغيلية وقواعد ملاحية وتعليمات مينائية ورسوم مالية تدعى (بيان سير السفن في المياه الداخلية لسنة 1919).
قال (ماكمان) في ديباجتها: (أني أمير اللواء جورج فليجر ماكمان قائد قوات احتلال ما بين النهرين, وعملا بالصلاحيات الممنوحة لي أصدرت البيان التالي), والعجيب بالأمر أن أحكام هذا البيان ظلت سارية المفعول على الرغم من تعاقب الإدارات المينائية الوطنية, التي سارت على نهج (قائد قوات احتلال ما بين النهرين) من دون أن تنتبه إلى تقاطع مفردات هذا النهج الاستعماري المستبد مع تطبيقات السيادة الوطنية العراقية المتحررة من قيود العبودية والاستبداد, حتى جاء اليوم الذي رفعت فيه شعبة المتابعة العلمية مذكرتها إلى مدير الشؤون البحرية, والتي تضمنت الإسراع باستبدال البيان الاستعماري العتيق بقانون وطني عراقي يتماشى مع المتغيرات الحضارية المتجددة في القواعد الملاحية والأساليب المينائية المعاصرة, فانبرى الأستاذ عبد الرزاق لهذه المهمة الوطنية التشريعية, وأمر بكتابة مسودة بديلة, وأناط هذه الهمة بشعبة المتابعة العلمية, فأنجزتها على الوجه الأكمل في غضون شهر واحد, وتمت مناقشتها في مجلس إدارة الشركة بحضور رؤساء الدوائر والأقسام الرئيسة, ثم رُفعت إلى مجلس شورى الدولة, وتم إقراراها رسمياً بقانون الموانئ رقم (21) لسنة 1995, فكانت أحكام هذا القانون الجديد هي المِعوَل الوطني, الذي أطاح ببيان سير السفن في المياه الداخلية, في خطوة جريئة تبناها الأستاذ عبد الرزاق, لكنها كانت متأخرة جداً بسبب تغافل الإدارات السابقة, التي لم تهتم بتمزيق تلك اللائحة البريطانية المُذِلِّة.
الفوز بمحبة الله
مما لا ريب فيه أن الفوز بمحبة الله, ونيل رضوانه, لا يتحقق ولن يتحقق إلا بإنصاف الناس ورعايتهم, وتوفير احتياجاتهم وتأمين مستقبلهم, ومواساتهم والوقوف معهم, فطوبى لمن طابت سجاياه, وهنيئاً لمن سعى لمعالجة مشاكل الناس, وأدخل عليهم البهجة والسرور, في خطوة إنسانية غير مسبوقة, كان فيها الأستاذ عبد الرزاق هو الموفق في تحقيقها.
كانت لدى الموانئ عند استلامه مهامها (5700) داراً سكنية, يعود الفضل في إنشائها للواء الركن مزهر الشاوي, ولبعض الإدارات الوطنية , التي جاءت بعده فشيدت مجاميع متفرقة من الدور السكنية, وبعضها كان مبنيا منذ حقبة الإدارة البريطانية.
ووجد لدى الموانئ عند استلامه مهامها حوالي (2200) داراً سكنية, ومجموعة من المدارس والمكتبات والأسواق وملحقاتها, موزعة بين المعقل وأم قصر وخور الزبير لم يكتمل إنشائها من قبل شركة (PCP) الهندية, التي اضطرت للتوقف بسبب ظروف الحرب, ثم عادت لإكمالها في السنوات 1989, 1990, 1991, فقام بتوزيعها على المنتسبين وحسب الاستحقاق.
كانت فكرة تمليك الدور لشاغليها تراود المدراء السابقين, فلم يحالفهم الحظ في الارتقاء بهذه الفكرة إلى حيز التطبيق والتنفيذ لأسباب وعوامل متعددة, يطول شرحها, وفي يوم من أيام السعد, قال الأستاذ عبد الرزاق لنفسه في إحدى خلواته: ((هذه فرصتك التاريخية يا عبد الرزاق لتحقيق أكبر إنجاز إنساني اجتماعي خيري في حياتك بعد إخفاق الذين سبقوك)), فسدد الله خطاه, ووفقه في مسعاه, وكتب له الأجر والثواب في تمليك (5700) داراً سكنية, وربما سيأتي اليوم الذي نكتشف فيه تفاصيل وأسرار هذا الانجاز الإنساني الوطني الكبير, الذي تبناه الأستاذ عبد الرزاق من الألف إلى الياء, لكنه لم يشمل نفسه بقرار التمليك, ولم يمنح نفسه فرصة الحصول على قطعة أرض من هذه القطع الألفية على الرغم من كل الصلاحيات الممنوحة له بموجب القانون, فأجمل ما يقتني الرجل لنفسه في الدنيا, وأجل ما يدخر لها في العقبى هو لزوم الكرم, فكان قرار التمليك, الذي خطه هذا الرجل العفيف بيده هو الحافز المباشر لتمليك دور شركة نفط البصرة لساكنيها, وتمليك دور المؤسسات الأخرى, في بقية المحافظات.
ما لا تعرفونه عنه
هو عبد الرزاق بن عبد الوهاب بن علي بن شنّان بن حمزة الربيعي, تعود أصوله إلى قبيلة المياح (مياح ربيعة), وعلى وجه التحديد من شحمان المياح. ولد في قضاء القرنة, من نواحي البصرة, عام 1943 في محلة (العجيد). هاجر والده إلى العمارة للسكن فيها عام 1949, فاشتغل والده عاملاً في محطة توليد الكهرباء, التي تأسست هناك في ذلك العام. التحق بمدرسة النبراس الابتدائية عام 1950, ثم انتقل في دراسته إلى ثانوية العمارة, فتخرج فيها عام 1961, وكان من الطلبة المتفوقين في المرحلتين (الابتدائية والثانوية), ومن الأوائل في المرحلة الثانوية.
توجه من العمارة إلى البصرة, فزار مقر الموانئ العراقية في زمن اللواء الركن مزهر الشاوي, وكان يمني نفسه بالالتحاق ببعثة الموانئ المزمع إرسالها عام 1961 إلى بريطانيا, فنجح في امتحان القبول (المقابلة), لكنه فشل في الفحص الطبي لإصابته بالبلهارسيا, فخضع للعلاج الصارم حتى تماثل للشفاء, لكنه عندما عاد إلى الموانئ بعد اكتمال علاجه, قالوا له: فاتك القطار, فرجع إلى العمارة وعينه على موانئ البصرة, وشاءت الأقدار أن يعود إليها مديراً عاماً بعد مضي (27) عاماً, فالتحق بقطارها لينطلق به من محطة الركود إلى محطات التألق.
التحق بجامعة بغداد (كلية الهندسة) قسم الهندسة المدنية, وتخرج فيها عام 1966 بدرجة جيد, ثم التحق بصفوف القوات المسلحة لأداء الخدمة الإلزامية, فخدم ضابطا برتبة ملازم في وحدات القوة البحرية بالبصرة, التي لا تبعد كثيراً عن ميناء المعقل, كانت الأقدار تضعه دائما على أرصفة المحطات القريبة من الموانئ.
تسرح من الخدمة العسكرية في 1/7/1968, وتعين في 11/7/1968 مهندساً مشرفاً في مديرية أشغال الكوت, ثم في مديرية أشغال ميسان, ثم عاد إلى الكوت ليعمل في الأشغال برتبة مدير في 1/4/1974, فكان أصغر مدير أشغال يتولى إدارة الموقع.
انتقل في 1/2/1977 إلى العمارة ليعمل مديراً لطرق ميسان حتى أواسط عام 1983, أصبح بعدها هو المدير العام للطرق الجنوبية, فتوسعت عملياته على محافظات (واسط, ميسان, البصرة, الناصرية, المثنى), وكان هو المسؤول عن إدارة مشاريع الجهد الهندسي في الجنوب.
تدرج في السلم الهندسي درجة بعد درجة, حتى صار مديراً عاماً للموانئ العراقية للمدة من 20/10/1988 لغاية 5/9/1994, ثم التحق بديوان وزارة النقل والمواصلات بصفة مدير عام التخطيط والمتابعة للفترة من 6/9/1994 لغاية 30/6/1996 , ثم أعيرت خدماته للعمل كمدير عام لشركة الجسر العربي للملاحة في الأردن / العقبة للفترة من 1/7/1996 لغاية 30/6/1998.
عاد بعد انتهاء إعارته من شركة الجسر العربي مديراً عاماً للتخطيط والمتابعة في ديوان وزارة النقل والمواصلات من 2/7/1998 ولغاية 15/5/2003 حيث تمت إحالته إلى التقاعد.
عمل في القطاع الخاص مديراً مفوضاً لشركة تطوير المباني للمدة من 1/11/2004 لغاية 31/12/2007, وعمل مستشاراً لشركة (يونايتد سيرفس) الأمريكية لمدة سنة واحدة انتهت في 25/3/2009 , ثم التحق للعمل مديراً تنفيذيا في شركة العتبة للتجارة والمقاولات لغاية 1/1/2012.
توقف عن مزاولة أي نشاط في القطاع الخاص, وتفرغ للمطالعة وإعداد دراسات الجدوى الاقتصادية للمشاريع الهندسية والاستثمارية.
له أربعة أشقاء وشقيقة واحدة. لم يتيسر لأشقائه ممن هم أكبر منه سناً الدخول في المدرسة. كان أكبرهم يعمل رباناً لزورق من زوارق قطر الجنائب في نهر دجلة, والذي يليه ميكانيكياً, والذي يليه خياطاً. أما من هم اصغر منه فاحدهما مهندسا مدنيا يعمل حالياً كمهندس استشاري في وزارة البلديات, بينما كانت شقيقته الوحيدة معلمة, وهي الآن متقاعدة.
متزوج وله ولدان وبنتان, جميعهم مهندسون, اثنان منهما مهندسان مدنيان, واثنان منهما مهندسا حاسبات, أولاده يعملون في شركات للقطاع الخاص, وبناته يعملن في المؤسسات الحكومية.
كان الأستاذ عبد الرزاق فارساً مغواراً من نبلاء المحاربين القدماء, الذين حفروا أسمائهم بمطارق النهوض وأزاميل الشموخ فوق ناصية العلياء, فرفعوا رايات الانتصار على الجمود والركود والتخلف, وتألقوا في فضاءات الجود والعطاء والبناء بأعمالهم الجليلة وخطواتهم الصالحة ومواقفهم الإيمانية الصادقة, فكانت سفينة (النهوض), وسفينة (الشموخ), وسفينة (العلياء), وسفينة (الانتصار) من أجمل وأكفأ وأروع سفن أسطول الموانئ العراقية.