يا عبد الناصر أخبرهم فلديك وقائع مشهورة
فؤاد الخفش
الحديث وتكراره عن بعض الرجال لا يمل منه المحب ولا المتابع بل على العكس في كل مرة يكون له طعم خاص ووقع كبير في القلب وهنا أقصد بالتحديد قلوب المحبين الأوفياء...
عبد الناصر عيسى اسم يختصر كلمات كثيرة يمكن أن تكتب فلروعة الاسم، وعظمته، وصاحبه، مكانة خاصة في قلوب جيل قديم كامل، وجيل جديد له أكتب عن هؤلاء محاولًا بكل الطرق أن ابقي ذكرهم وأحيي أسماءهم رغم البعد والسجن والقهر وكل شيء.
عبد الناصر عيسى اسم كان ومازال وسيبقى له أثر وصدًا لن تمحوه الأيام ولن تُنسِنا إياه السنين رغم طولها وقسوتها فمن نقش بفعله وجهاد اسمه في سفر البطولة لن تستطيع الأيام محوَه من الذاكرة المحبة والقلب العاشق.
كان اللقاء الأول لي مع هذا الفارس مطلع عام 1993 وبعد عملية إبعاد المجاهدين إلى "مرج الزهور" هناك التقيته للمرة الأولى، وكان عمري لم يتجاوز السبعة عشر عامًا في سجن النقب (كيلو شيبفع) على حدود مصر، وقفت انظر إلى قامته السامقة وقد قالوا لي في حينها أنه أمير الكتلة الإسلامية في جامعة النجاح وكان يقف بجواره الشهيد فهيم داوبشة.
بعد ذلك اللقاء قررت الخروج من السجن وتأدية الثانوية العامة، والتحقت بجامعة النجاح للوقوف بجوار هذه القامات السامقة، مرت الأيام وجمعتني به السجون عام 1994 في سجن النقب، وكنت أقف معه أتعلم منه وهو في قسم آخر وكان بجوارنا الأسير القائد عباس السيد وكنت لا أمل الحديث إليه.
مرت الأيام وخرج عبد الناصر من سجنه ليُطارد على الفور ويقرر السير على درب القسام ولُقِّب ب"المهندس الثاني" وجمعتني الصدفة به في أحد أزقة نابلس وقفت معه وهو مطارد في حينه، سألته عن حاله فقال "أسأل الله الشهادة" ودّعته... وسار في طريق، وسرق قلبي وعقلي معه، وبت أحدّث نفسي أيّ نوع من الرجال هذا.
في عام 1999 وفي أحد مراكز التحقيق القاسية كان لقاء جديد مع عبد الناصر وهذه المرة في أقبية التحقيق بعد أن أعيد للتحقيق وهو معتقل منذ عام 1995 ومحكوم بالمؤبد وذلك نتيجة عمله من داخل السجن وتنظيمه لإحدى المجموعات العسكرية الشهيرة، سألته عن حاله وأخباره فقال لي "كما أنا في السجون... خبرني عنك وعن النجاح وعن الشباب هناك حيث روحي مازلت تحلق ولها نفسي تحن."
قلت له لقد أنجز الشباب لك أنشودة مميزة يقولون فيها "يا عبد الناصر أخبرهم فلديك وقائع مشهورة، كنت جودًا منتفضًا غدوت كواكب منثورة، عياش مهندس دعوتنا وحماس الجهور والصورة ..." إلى آخر النشيد. بعد أن انتهيت، ناديته فلم يُجِب، وكان في زنزانة أخرى لم أكن أراه. وجدته قد تأثر أيّما تأثر بالكلمات واغرورقت عيناه بالدموع فقلت له "هذا أقل الواجب."
ومرت السنين تلو السنين وكان يحدثني بين الفينة والأخرى، إذا فتح له مجال، وفي كل مرة أراه أشد عزيمة وأمضى نفسًا وأكثر إيمانًا ويقينًا رغم ما أصابه من مصائب.
قال لي في ذات اتصال بعد وفاة والدته، وقد سبقها والده وهو في سجون الاحتلال أنه يعيش مزاجًا صعبًا للغاية، فلم يكن يتوقع عبد الناصر أن يرفض الاحتلال الإفراج عنه وإبقائه رهن السجن في صفقة الوفاء للأحرار، وكم تمنى أن يحظى بلقاء أخير لوالدته وهي على كرسيها المتحرك لعله يدخل السعادة لقلبها وروحها بعد أن مات زوجها وهُدم منزلها من قبل الاحتلال ولكن قدر الله نافد.
عبد الناصر الذي لم يستطع إنهاء دراسته الجامعية في النجاح التي كان أميرها في يوم من الأيام، أنهى شهادة البكالوريوس والماجستير في الجامعة العبرية، وملتحق في أحد برامج الدكتوراة خارج البلاد فهو من عشاق القراءة والعلم والمعرفة.
عبد الناصر عيسى مدرسة الصمود في التحقيق، فمن أجله تم وضع قانون إسرائيلي تحت عنوان (لوح الزجاج المكسور) وأنه يجب انتزاع الاعتراف بالقوة، والسبب أن كل محاولات الاحتلال فشلت معه للكشف عن عملية استشهادية كان من المقرر أن تتم وهو ما كان، وتمت العملية دون انتزاع اعتراف من عبد الناصر ورفيق دربه عثمان بلال.
عبد الناصر عيسى نموذج للفلسطيني الذي لا ينكسر ولا يلين ويقابل الصعاب بابتسامة الواثق، وهو رغم ما مر به من صعاب ومحن ما زال رابضا صابرا متماسكا ينتظر فرج الله ورحمته.
عبد الناصر عيسى منذ أن كان طفلًا كان مقاومًا فقد قالت لي والدته رحمها الله أنه تصدى لدوريات الاحتلال وهو في الخامسة من عمره، حين حضروا لاعتقال والده -رحمه الله-.
عبد الناصر عيسى أستاذ في كل شيء، متواضع، محبوب، مثقف، متعلّم، أمضى كل عمره في خدمة هذه البلد وهذه الدعوة، فله وعنه وعن هذا النموذج الفريد، أكتب وأخط هذه الكلمات التي لن توفي فارس بوزن وحجم أبي حذيفة.
فلك سيدي وأخي وحبيبي، وفاءً وحبًا وتقديرًا، كتبت هذه الكلمات التي لن توفيك إلا جزءًا صغيرًا من حقّك علينا، وإلى أن يأتي ذلك اليوم الذي أضمك إلى صدري مهنئًا بسلامتك، لك ومن آلافٍ يحبونك سلام وسلام.