الشيخ عبد القادر الجزائري

محمد فاروق الإمام

الأمير المجاهد

الشيخ عبد القادر الجزائري

محمد فاروق الإمام

[email protected]

الأمير عبد القادر الجزائري مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة. عالم دين، وشاعر، وفيلسوف، وسياسي ومحارب في آن واحد. اشتهر بمناهضته للاحتلال الفرنسي للجزائر.

والده الأمير محيي الدين بن مصطفى بن محمد بن المختار الذي يرجع نسبه إلى أبي الحسن البط رضي الله عنه. يرجع أصله إلى الأدارسة الذين حكموا المغرب في القرن التاسع الهجري.

واليوم وبالاتفاق بين المفوضية الأوروبية والإدارة المحلية والبيئة في سورية، وضمن برنامج تحديث الإدارة البلدية، يجري تأهيل بيت الأمير عبد القادر الجزائري الواقع في ضاحية دمر، غرب دمشق، والقصر هو مصيف كان للأمير في «الربوة»، على ضفاف بردى، وسط روضة من الأشجار الوارفة!

القصر يعود بناؤه إلى حوالي 140 سنة، سكنه الأمير عبد القادر مع عائلته عام 1871م، ثم سكنه أبناء الأمير وأحفاده، وكان آخرهم الأمير سعيد الجزائري، رئيس مجلس الوزراء في عهد حكومة الملك فيصل، بعد الحرب العالمية الأولى. وصار القصر مهملاً مهجوراً، شبه متهدم، منذ العام 1948م. والقصر اليوم مملوك لصالح محافظة دمشق لأغراض ثقافية وسياحية. تبلغ مساحة القصر المؤلف من طابقين 1832 متراً مربعاً. وسيضم القصر بعد ترميمه، قاعة كبيرة خاصة بتراث الأمير عبد القادر، بالتعاون مع السفارة الجزائرية بدمشق، التي عبرت عن استعدادها بتزويد القصر بكل ما يرتبط بتراث هذا المجاهد الذي يكن له الجزائريون كما السوريون والعرب كل التقدير، ليس لكونه مجاهداً ومصلحاً وحسب، بل أيضاً لكونه عالماً وفقيهاً وشاعراً، وداعية دؤوباً للتآخي بين شعوب الشرق. ويذكر بهذا الصدد أن هذا القصر لم يكن المنزل الوحيد للأمير، ولم يكن محل إقامته الدائم. فمن المعروف أن منزله هو الذي منحته إياه السلطات العثمانية في حي العمارة بدمشق القديمة، والمعروف بـ«حارة النقيب» وهو الحي الذي ضم آل الجزائري حتى اليوم.

استقر الأمير عبد القادر الجزائري في دمشق من عام 1856م إلى عام وفاته عام 1883م، أي 27 سنة. ومنذ قدومه إليها من اسطنبول تبوأ فيها مكانة تليق به كزعيم سياسي وديني وأديب وشاعر.. وكانت شهرته قد سبقته إلى دمشق، فأخذ مكانته بين العلماء والوجهاء، فكانت له مشاركة بارزة في الحياة السياسية والعلمية. قام بالتدريس في الجامع الأموي، وبعد أربعة أعوام من استقراره في دمشق، حدثت فتنة في الشام عام 1860م واندلعت أحداث طائفية دامية، ولعب الزعيم الجزائري دور رجل الإطفاء بجدارة، فقد فتح بيوته للاجئين إليه من المسيحيين في دمشق كخطوة رمزية وعملية على احتضانهم. وهي مأثرة لا تزال تذكر له إلى اليوم إلى جانب كفاحه ضد الاستعمار الفرنسي في بلاده الجزائر، وقد شارك في إطفاء تبعات نار تلك الفتنة الأمير الشيخ راشد الخزاعي من بلاد الشام، حيث أعلن الأمير راشد الخزاعي في ذلك الوقت بأن كل من يتعرض أو يعتدي على أي مسيحي أو كتابي فان ذلك سيعتبر اعتداء على شخصه وعلى قبيلته وعلى كل القبائل الخاضعة لحكمه وسيكون جزاء ذلك العقاب بالمثل دون تهاون أو هوادة وقد احتضن الأمير راشد الخزاعي في منطقة حكمه أبناء الطوائف المسيحية من جميع أرجاء بلاد الشام وعمل على حمايتهم من أي تنكيل أو قتل داعياً إلى التعايش السلمي بين الأديان واحترام جميع العقائد مما ساهم بشكل مباشر في إخماد نار تلك الفتنة، وقد لقيت هذه اللفتة التاريخية صدىً واسعاً بين الطوائف المسيحية في جميع مناطق بلاد الشام، ونال على أثرها الأمير راشد الخزاعي وشاح القبر المقدس من قداسة البابا في عام 1887م.

ولمكانة الأمير عبد القادر عند السلطان العثماني عبد المجيد، لجأ إليه «فردينان دو ليسبس» من أجل إقناع العثمانيين بأهمية مشروع قناة السويس، ودعي فيما بعد لحضور تدشين القناة عام 1869م.

وهو بالإضافة إلى مكانته الوجاهية في دمشق، مارس حياة الشاعر المتصوف، وكان معجباً بالطريقة القادرية، نسبة إلى المتصوف عبد القادر الجيلاني، وله أشعار معروفة تنم عن عمق نظرته للإسلام، وللتسامح الديني، متأثراً أيضاً بالشيخ الأكبر محيى الدين بن عربي، إذ يمكن القول إن الأمير عبد القادر يشبهه في بعض الجوانب. شبه نجده لاسيما في قدومه من المغرب متجولاً في المشرق وتركيا، ثم اختياره لدمشق موطناً حتى الموت. وربما ليس من باب المصادفة أن يدفن الأمير عبد القادر بجانب ضريح الشيخ الأكبر في حضن قاسيون.

كان الأمير عبد القادر رجل حوار وتحرر. وإن كان كافح الاستعمار الأوروبي، فقد عرفته بعض الشخصيات الأوروبية كمحاور متميز وواحد من أعلام الإسلام في ذاك العصر. وكان أحد أكبر أعلام تلك المرحلة، وأنه هو وأحفاده فيما بعد، دخلوا التاريخ السوري من بابه الواسع.

ولد في 23 رجب 1222هـ / 26 أيلول 1807م، وذلك بقرية "القيطنة" بوادي الحمام من منطقة معسكر "المغرب الأوسط" الجزائر، ثم انتقل والده إلى مدينة وهران.

لم يكن محيي الدين (والد الأمير عبد القادر) هملاً بين الناس، بل كان ممن لا يسكتون على الظلم، فكان من الطبيعي أن يصطدم مع الحاكم العثماني لمدينة "وهران"، وأدى هذا إلى تحديد إقامة الوالد في بيته، فاختار أن يخرج من الجزائر كلها في رحلة طويلة.

كان الإذن له بالخروج لفريضة الحج عام 1241هـ/ 1825م، فخرج الوالد واصطحب ابنه عبد القادر معه، فكانت رحلة عبد القادر إلى تونس ثم مصر ثم الحجاز ثم البلاد الشامية ثم بغداد، ثم العودة إلى الحجاز ، ثم العودة إلى الجزائر مارًا بمصر وبرقة وطرابلس ثم تونس، وأخيرًا إلى الجزائر من جديد عام 1828 م، فكانت رحلة تعلم ومشاهدة ومعايشة للوطن العربي في هذه الفترة من تاريخه، وما لبث الوالد وابنه أن استقرا في قريتهم "قيطنة"، ولم يمض وقت طويل حتى تعرضت الجزائر لحملة عسكرية فرنسية شرسة، وتمكنت فرنسا من احتلال العاصمة فعلاً في 5 تموز 1830م، واستسلم الحاكم العثماني سريعًا، ولكن الشعب الجزائري كان له رأي آخر.

فرّق الشقاق بين الزعماء كلمة الشعب، وبحث أهالي وعلماء "غريس" عن زعيم يأخذ اللواء ويبايعونه على الجهاد تحت قيادته، واستقر الرأي على "محيي الدين الحسني" وعرضوا عليه الأمر، ولكن الرجل اعتذر عن الإمارة وقبل قيادة الجهاد، فأرسلوا إلى صاحب المغرب الأقصى ليكونوا تحت إمارته، فقبل السلطان "عبد الرحمن بن هشام" سلطان المغرب، وأرسل ابن عمه "علي بن سليمان" ليكون أميرًا على وهران، وقبل أن تستقر الأمور تدخلت فرنسا مهددة السلطان بالحرب، فانسحب السلطان واستدعى ابن عمه ليعود الوضع إلى نقطة الصفر من جديد، ولما كان محيي الدين قد رضي بمسئولية القيادة العسكرية، فقد التفت حوله الجموع من جديد، وخاصة أنه حقق عدة انتصارات على العدو، وقد كان عبد القادر على رأس الجيش في كثير من هذه الانتصارات، فاقترح الوالد أن يتقدم "عبد القادر" لهذا المنصب، فقبل الحاضرون، وقبل الشاب تحمل هذه المسؤولية، وتمت البيعة،

ولقبه والده بـ "ناصر الدين" واقترحوا عليه أن يكون "سلطان" ولكنه اختار لقب "الأمير"، وبذلك خرج إلى الوجود "الأمير عبد القادر ناصر الدين بن محيي الدين الحسني"، وكان ذلك في 13 رجب 1248هـ /7 تشرين الثاني 1832م. وحتى تكتمل صورة الأمير عبد القادر، فقد تلقى الشاب مجموعة من العلوم فقد درس الفلسفة (رسائل إخوان الصفا - أرسطوطاليس - فيثاغورس) ودرس الفقه والحديث فدرس صحيح البخاري ومسلم، وقام بتدريسهما، كما تلقى الألفية في النحو، والسنوسية، والعقائد النسفية في التوحيد، وايساغوجي في المنطق، والإتقان في علوم القرآن، وبهذا اكتمل للأمير العلم الشرعي، والعلم العقلي، والرحلة والمشاهدة، والخبرة العسكرية في ميدان القتال، وعلى ذلك فإن الأمير الشاب تكاملت لديه مؤهلات تجعله كفؤًا لهذه المكانة، وقد وجه خطابه الأول إلى كافة العروش قائلاً: "… وقد قبلت بيعتهم (أي أهالي وهران وما حولها) وطاعتهم، كما أني قبلت هذا المنصب مع عدم ميلي إليه، مؤملاً أن يكون واسطة لجمع كلمة المسلمين، ورفع النزاع والخصام بينهم، وتأمين السبل، ومنع الأعمال المنافية للشريعة المطهرة، وحماية البلاد من العدو، وإجراء الحق والعدل نحو القوي والضعيف، واعلموا أن غايتي القصوى اتحاد الملة المحمدية، والقيام بالشعائر الأحمدية، وعلى الله الاتكال في ذلك كله.

وأمام البطولة التي أظهرها الأمير عبد القادر الجزائري اضطرت فرنسا إلى عقد اتفاقية هدنة معه وهي اتفاقية "دي ميشيل" في عام 1834م، وبهذه الاتفاقية اعترفت فرنسا بدولة الأمير عبد القادر، وبذلك بدأ الأمير يتجه إلى أحوال البلاد ينظم شؤونها ويعمرها ويطورها، وقد نجح الأمير في تأمين بلاده إلى الدرجة التي عبر عنها مؤرخ فرنسي بقوله: «يستطيع الطفل أن يطوف ملكه منفردًا، على رأسه تاج من ذهب، دون أن يصيبه أذى!!». و كان الأمير قد أنشأ عاصمة متنقلة كأي عاصمة أوروبية متطورة آنداك سميت الزمالة.

وقبل أن يمر عام على الاتفاقية نقض القائد الفرنسي الهدنة، وناصره في هذه المرة بعض القبائل في مواجهة الأمير عبد القادر، ونادى الأمير في قومه بالجهاد ونظم الجميع صفوف القتال، وكانت المعارك الأولى رسالة قوية لفرنسا وخاصة موقعة "المقطع" حيث نزلت بالقوات الفرنسية هزائم قضت على قوتها الضاربة تحت قيادة "تريزيل" الحاكم الفرنسي. ولكن فرنسا أرادت الانتقام فأرسلت قوات جديدة وقيادة جديدة، واستطاعت القوات الفرنسية دخول عاصمة الأمير وهي مدينة "معسكر" وأحرقتها، ولولا مطر غزير أرسله الله في هذا اليوم ما بقي فيها حجر على حجر، ولكن الأمير استطاع تحقيق مجموعة من الانتصارات دفعت فرنسا لتغيير القيادة من جديد ليأتي القائد الفرنسي الماكر الجنرال "بيجو"؛ ولكن الأمير نجح في إحراز نصر على القائد الجديد في منطقة "وادي تافنة" أجبرت القائد الفرنسي على عقد معاهدة هدنة جديدة عُرفت باسم "معاهدة تافنة" في عام 1837م. وعاد الأمير لإصلاح حال بلاده وترميم ما أحدثته المعارك بالحصون والقلاع وتنظيم شؤون البلاد، وفي نفس الوقت كان القائد الفرنسي "بيجو" يستعد بجيوش جديدة، وكرر الفرنسيون نقض المعاهدة في عام 1839م، وبدأ القائد الفرنسي يلجأ إلى الوحشية في هجومه على المدنيين العزل فقتل النساء والأطفال والشيوخ، وحرق القرى والمدن التي تساند الأمير، واستطاع القائد الفرنسي أن يحقق عدة انتصارات على الأمير عبد القادر، ويضطر الأمير إلى اللجوء إلى بلاد المغرب الأقصى، ويهدد الفرنسيون السلطان المغربي، ولم يستجب السلطان لتهديدهم في أول الأمر ، وساند الأمير في حركته

من أجل استرداد وطنه، ولكن الفرنسيين يضربون طنجة وموغادور بالقنابل من البحر، وتحت وطأة الهجوم الفرنسي يضطر السلطان إلى توقيع معاهدة الحماية، التي سبقت احتلال المغرب الأقصى.

يبدأ الأمير سياسة جديد في حركته، إذ يسارع لتجميع مؤيديه من القبائل، ويصير ديدنه الحركة السريعة بين القبائل ولما أراد الاستعانة بشيوخ الطريقة التيجانيّة في طرد الفرنسيين، رفضوا الانخراط في جيشه، تمشيّاً مع روح صوفيّتهم التي تأبى التدخل في السياسة، فقام بعدّة حملات على مركز التيجانيّة في (عين ماضي) التي قاومت هذه الحملات .

غدر به الفرنسيّون سنة (1251هـ/1835م) وخرقوا معاهدة (دي ميشيل) وحاولوا التفريق بينه وبين رجاله، ولكنهم باؤوا بالفشل، واستخدموا أسلوب الحرب التخريبيّة، بتدمير المحاصيل الزراعيّة، وتدمير المدن الرئيسيّة، وأقصوه بعد أربع سنوات من النضال، إلا أنه لم يستسلم، والتجأ مع إخوانه إلى مراكش سنة (هـ1259/1843م) ثم عاد إلى الجزائر، وقاد حركة الأنصار .

هُزم بالخيانة شأن كل معارك المقاومة في العالم الإسلامي، فهاجمته العساكر المراكشيّة من خلفه، فرأى من الصواب الجنوح للسلم، وشاور أعيان المجاهدين على ذلك، وأسره المحتلون سنة (1263هـ/1847م) وأرسلوه إلى فرنسا، حيث أهداه نابليون الثالث سيفاً ورتب له في الشهر مبلغاً باهظاً من المال، وسمح له بالسفر إلى الشرق سنة (1268هـ/1852م) فتوجّه إلى الآستانة وحصل له الإكرام والاحتفال من خليفة المسلمين السلطان عبد المجيد، وأنعم عليه بدار في مدينة بروسة، ثم استوطن دمشق، بعد توالي الزلازل على بروسة، سنة (1271هـ/1855م) فكان يقضي أيامه في القراءة والصلاة وحلقات العلم، وجمع مكتبة ضخمة، واشتهر بالكرم ولطف المعشر، وحب العلم وأهله .

ظل الأمير عبد القادر في سجون فرنسا يعاني من الإهانة والتضييق حتى عام 1852م ثم استدعاه نابليون الثالث بعد توليه الحكم، وأكرم نزله، وأقام له المآدب الفاخرة ليقابل وزراء ووجهاء فرنسا، ويتناول الأمير كافة الشؤون السياسية والعسكرية والعلمية، مما أثار إعجاب الجميع بذكائه وخبرته، ودُعي الأمير لكي يتخذ من فرنسا وطنًا ثانيًا له، ولكنه رفض، ورحل إلى الشرق براتب من الحكومة الفرنسية. توقف في إسطنبول حيث السلطان عبد المجيد، والتقى فيها بسفراء الدول الأجنبية، ثم استقر به المقام في دمشق منذ عام 1856م وفيها أخذ مكانة بين الوجهاء والعلماء، وقام بالتدريس في المسجد الأموي كما قام بالتدريس قبل ذلك في المدرسة الأشرفية، وفي المدرسة الحقيقية. وفي عام (1276هـ/1860م) م تتحرك شرارة الفتنة بين المسلمين والمسيحيين في منطقة الشام، ويكون للأمير دور فعال في حماية أكثر من 15 ألف من المسيحيين، إذ استضافهم في منازله. لجأ إليه فردينان دو ليسبس لإقناع العثمانيين بمشروع قناة السويس.

وافاه الأجل بدمشق في منتصف ليلة (19 رجب 1300هـ/ 24 أيار 1883م) عن عمر يناهز 76 عامًا، وقد دفن بجوار الشيخ ابن عربي بالصالحية بدمشق لوصية تركها.

بعد استقلال الجزائر ونقل جثمانه إلى الجزائر عام 1965م ولا زال الدمشقيون يزورون ضريحه ويترحمون على قبره بالرغم من أن القبر صار خاوياً.