ناجح إبراهيم!
أحدثكم عن
محمد عبد الشافي القوصي
في مستهل حديثه عن عباس العقاد، يقول برناردشو: "قلّما نجد أديباً أوْ كاتباً سار في طريق واحد دون أن يتحول عنه، وقد يكون هذا التحوّل جزئياً أوْ كلياً، صراحةً أوْ ضمناً، وقد يكون التحول تحت ضغط ظروف سياسية، أوْ أزمات معينة، وقد يكون التحول بحثاُ عن الحق والصواب .. فبدأ العقاد حياته بالكتابات السياسية النارية، واختتمها بالكتابات الإيمانية النورانية"! لقد صدق الفيلسوف الأيرلندي/ جورج برناردشو! فكلامه هذا يوافقه العقل، ويُصدّقه الواقع؛ وأضيف إليه؛ بأنَّ عملية تحوّل المفكرين والأدباء ليست وليدة اليوم، إنما هي قديمة قِدَم العقول والقلوب! وفي العصر الحديث؛ رأينا كثيراً من مشاهير الأدب وأرباب البيان؛ غيّروا أفكارهم وآراءهم التي نافحوا عنها بضراوة، وأشعلوا بسببها نيراناً، أمثال: فريد وجدي، وزكي مبارك، وطه حسين، وخالد محمد خالد، ومصطفى محمود، وغيرهم من أُولي الألباب!
أجل! إنَّ حياة الكُتَّاب والأدباء والمفكرين لا يمكن أن تسير في طريق واحد، فكثرة المطالعة وطول الخبرات والتجارب؛ من شأنها أن تحوِّل الإنسان من رأي إلى آخر، ومن فكر إلى فكر مغاير، وقلما تستمر حياة المثقف في طريق واحد من المنبع إلى المصب، وليس هذا عيباً، خاصة إذا كان التحول من الخطأ إلى الصواب، ومن التبعية الفكرية إلى الاستقلالية، ومن ضيق المذاهب إلى رحابة الاسلام ... وهذا الذي حدث مع الدكتور/ ناجــــــح إبراهيــــــم!
* * *
إنَّ الذين عرفوا (ناجح إبراهيم) أجمعوا على أنه داعية موهوب، صادق العزيمة، لا يعرف المراوغة، ولا يجيد المداهنة، خُلِقَ ليكون صاحب قضية، بلْ قائد مسيرة، ورائد فكرة ... فقد تبرأ من الأحزاب السياسية، وأعتق نفسه من المذاهب الدينية، وتهيأ لأنْ يكون داعياً إلى الاسلام الحنيف، الذي قال عنه الشيخ/ محمد الغزالي: (الاسلام في حاجة إلى عقلٍ ذكيّ، وقلبٍ نقيّ)!
فصاحبنا يتمتع بعقلية ناقدة، وليست ناقلة، فلا يمكن أن يحيا تحت سقف الأحزاب، ولا في سراديب المذاهب! لذا؛ نراه يُفرِّق بين (السياسة) و(الدِّين) وبين (السياسي) و(الداعية) فيقول: "الدّين سماوي مقدَّس، أمَّا السياسة فهي وضعية متغيِّرة، والداعية يدعوك إلى الله ورسوله، أمَّا السياسي فيدعوك إلى نفسهِ وحزبه"!
الحقُّ أقول: إنني أشتمُّ من هذا الكلام الجميل؛ فقه (أبي حنيفة) وفلسفة (ابن رشد) ومنهج (محمد عبده) سلام الله عليهم أجمعين!
* * *
كان (ناجح) شامةً بين طلاّب كلية الطب؛ فهو أنبغ جيله، وأشدهم حزماً، وأصدقهم لهجة، وأصعبهم مِراساً ... حتى إنَّ (رجال الأمن) كانوا يحسبون له ألف حساب! في الوقت ذاته؛ كانوا يحسدونه على ثقافته، فيسترقون السمع؛ تشوّقاً لخطبه ودروسه، التي تخطف الألباب!
لذا؛ يقول المراقبون: لولاه ما انتظمتْ الحركة الاسلامية هذه الأعداد الغفيرة من الشباب! لاسيما أنَّ الصعيد معروف بصلابة التديّن، وعمق الحياة الروحية!
ويقول المراقبون أيضاً: لولا الشيخ ناجح؛ لَمَا كانت (المراجعات)! وما كان ليكتب لها النجاح في ظل أجواء ملبَّدة بمكر السياسة، وحرب المذاهب!
الأعجب من ذلك؛ أنَّه لمْ يكتفِ بهذه (المراجعات) بلْ قام بمراجعة المراجعات! وعكف على القراءة المتأنية، بحثاً عن وسطية الدين، وتحرياً لحقيقة الإيمان؛ حتى أدرك روح الاسلام وغاياته!
إنني أزعم أنَّ –صاحبنا- لوْ استمر في تحرِّي هذا المنهج القويم؛ لقاده رغماً عنه إلى شاطئ المعرفة؛ الذي رستْ عليه سفينة أهل الكشف والحقيقة، كالجيلاني، والصباغ، والشاذلي، والقشيري، والجعفري، وغيرهم من الذين أنعم الله عليهم بطِيب المعاش، وشرف اللقاء!
* * *
يقول ناجح إبراهيم: "لنْ تنصلح أحوالنا إلاَّ بالوسطية، فالإسلام لا يقبل تقديس العقول، ولا بإلغائها ليعيش الناس في جهالة .. فمساحات عمل العقل التي أباحها الاسلام؛ أوسع المساحات.. لأن الشرائع لا تعمل دون عقول تفهمها وتدرك مراميها ومقاصدها، وتنزلها من صفحات الكتب السماوية إلى واقع الحياة تعميرا ً للكون ونشرا ً للخير والفضيلة! والوسطية -أيضاً- تلزمنا بالعمل بديناميكية الإسلام الذي لا يخشي الانفتاح علي الآخرين؛ يأخذ منهم النافع، ويترك ما دون ذلك، يقبل الطيِّب ويأبي الخبيث"!
لا جَرَمَ أنَّ هذه الكلمات المعدودات؛ تكشف عن مدى فهم صاحبها لروح الدِّين، وجوهر الرسالة، وحقيقة الشريعة، وليس كما يتوهَّم غِلمان الوهابية، وخراف السلفية الضالة؛ الذين يصرُّون على جهلهم وضلالهم، رافضين الانصياع إلى الحق .. ولسان حالهم كما قال سلفهم الطالِح (اللهمَّ إنْ كان هذا هو الحق من عندك، فأمطِر علينا حجارةً من السماء ..)!
قال لي أحد الأصدقاء: عندما نسمع الشيخ ناجح نُصدّقه، لكن لمْ نستطع أنْ نصدِّق أبواق الوهابية، ومجانين الفضائيات"! قلتُ له: صدقَ وجدانك يا هذا، فالبون شاسع بين الأَمَة والحرة، وليست النائحة كالثكلى!
مَنْ هو ناجــــح إبراهيـــــم؟!
كثير من الناس يأتون إلى هذه الدنيا كما يخرجون منها، لا تكترث بهم الخلائق، ولا تسمع بهم الأرض، فلا أثر لهم، ولا ذكرى في حياتهم ولا بعد مماتهم، كأنهم لم يُخلقوا أصلاً، أوْ كأنهم قضوا في عالم الأرحام، سواء محياهم ومماتهم! وهناك قلة بخلاف ذلك تماماً، لا يرحلون إلاَّ إذا أقاموا الدنيا، ولا يقعدوها؛ كناجح إبراهيم! فالمتأمل في مسيرته الحياتية؛ يدرك أنه أمام شخصية ثرية غاية الثراء، إنها شخصية الداعية الحصيف، والباحث المتجرد لفكرة شريفة ينافح عنها، ولا يتطلع إلى أيّ شيء سوى أن يقول كلمته!
ولا عجب في ذلك؛ فهو ابن (ديروط الشريف) أطهر بقاع مصر وأعرقها بعد (قــــــــوص) ملاذ العلماء والأولياء! وكان والده –كما أخبرني- رجلاً صالحاً زاهداً متصوفاً.
نعم يا سيدي! فما كذبتْ أحسابنا، ولا تناسى عرقه الذهبُ!!
أخيــــراً؛ لا أرى إلاَّ أنَّ الشيخ/ ناجح إبراهيم- ممن عناهم الحقُّ سبحانه، بقوله ]وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ[.