محمد الطاهر بن عاشور ومحمد الخضر حسين أو صداقة ستين عاما
محمد الطاهر بن عاشور ومحمد الخضر حسين
أو صداقة ستين عاما
أ.د مولود عويمر
يعج تاريخ الأفكار بالصراعات والخصومات بين العلماء والشعراء والأدباء لأسباب عديدة تعود إلى الطبيعة البشرية الميالة إلى حب الذات والأنانية والغرور وإقصاء الغير. كما يزخر ذلك التاريخ بنماذج راقية في الوفاء والإيثار والتواصل المثمر بين أهل العلم والأدب حينما يتغلب الإنسان على شهواته وهواه ويحتكم إلى العقل والحكمة وسماحة الدين.
وهكذا روت كتب التراجم صورا مشرقة عن العلاقات المتبادلة بين العلماء المسلمين المعاصرين، وكان من أبرز هذه النماذج الصلة الوطيدة بين الشيخين محمد الطاهر بن عاشور ومحمد الخضر حسين. وهذا النموذج جدير بالدراسة للاستلهام منه والاقتداء به.
عالمان في سطور
ولد الشيخ محمد الخضر حسين في عام 1873 في نفطة في تونس. ويرجع أصله إلى مدينة طولقة القريبة من بسكرة في الجنوب الجزائري. حفظ القرآن الكريم، والتحق بجامع الزيتونة، وتحصل على شهادة التطويع في عام 1898. درّس بجامع الزيتونة، وأصبح من أكبر أساتذتها.
اهتم مبكرا بالإعلام فأسس في عام 1904، أول مجلة علمية وأدبية في تونس عنوانها "السعادة العظمى". كما ساهم كثيرا في الحراك الفكري، وفي هذا السياق، ألقى في عام 1906محاضرته الشهيرة حول الحرية بالمدرسة الصادقية، تناول فيها تصوره للحرية في ضوء الإسلام.
وفي سنة 1912، سافر إلى دمشق وفيها تولى التدريس بالمدرسة السلطانية. وقدم دروسا في الجامع الأموي. وفي عام 1916، أدخل السجن بتهمة التعاطف مع الوطنيين الذين قاموا بمظاهرات ضد الحكم العثماني.
وبعد الحرب العالمية الأولى، غادر ألمانيا عائدا إلى سوريا، وتفرغ لتأليف الكتب، وعيّن عضوا بالمجمع العلمي العربي السوري. وعندما فرض الانتداب الفرنسي على سوريا في سنة 1920، هاجر إلى مصر. عمل مصححا بدار الكتب المصرية بالقاهرة لمدة خمس سنوات، وتعرف خلالها على النخبة المصرية والعربية.
انتسب الشيخ محمد الخضر حسين للجامع الأزهر وتحصل منه على شهادة العالمية التي قادته للتدريس السياسة الشرعية في كلية أصول الدين. وفي 1933، وأختير عضوا في المجمع اللغوي، وفي عام 1952 تولى منصب شيخ الأزهر.
ألف هذا العالم عدة كتب نذكر منها: -"نقض كتاب الإسلام و أصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق، رسالة في السيرة النبوية، موجز في آداب الحرب في الإسلام،القياس في اللغة العربية، بلاغة القرآن الكريم، محمد رسول الله، رسائل الإصلاح، تونس وجامع الزيتونة، -الرحلات، تراجم الرجال، خواطر الحياة، ديوان شعر...الخ.
أما الشيخ محمد الطاهر بن عاشور فقد ولد في عام 1879 بالمرسى في شمال العاصمة التونسية. انتسب إلى جامع الزيتونة في سنة 1893 م ودرس فيها علوما كثيرة كاللغة والفقه والتاريخ على كبار علماء عصره منهم: سالم بوحاجب، عمر بن الشيخ، محمد النجار، صالح الشريف، محمد النخلي...الخ.
وبعد التخرج، أقبل على التدريس في جامع الزيتونة بداية من عام 1899 وترقى في مختلف الرتب حتى بلغ مرتبة مشيخة الجامع الأعظم ومفتي المالكية في عام 1932. وأسندت إليه رئاسة الجامعة الزيتونية في عام 1956 غداة الاستقلال.
وتجاوزت سمعته العلمية تونس فتلقى دعوات من مختلف المؤسسات العلمية والدينية للمشاركة في ملتقياتها وتوجيه طلبتها، فسافر إلى عدة دول عربية وإسلامية وأوروبية. وشارك في مؤتمر المستشرقين باستانبول في سبتمبر 1951.
ولم تشغله الوظائف العلمية والقضائية والإفتاء عن تأليف الكتب. وقد عد له الباحث الدكتور بلقاسم الغالي في كتابه النفيس: " شيخ جامع الأعظم محمد الطاهر بن عاشور حياته وآثاره" أكثر من أربعين كتابا في العلوم الإسلامية والسياسة الشرعية والتاريخ والنقد. ولا بأس أن نذكر هنا أشهر مؤلفاته: تفسير التحرير والتنوير، مقاصد الشريعة الإسلامية، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، أليس الصبح بقريب، أصول التقدم في الإسلام، شرح ديوان بشار، سرقات المتنبي، ديوان النابغة الذبياني...الخ.
وساهم كذلك في تحرير المقالات في الجرائد والمجلات العلمية أذكر منها: المجلة الزيتونية، هدى الإسلام، نور الإسلام، الرسالة، الزهرة، النهضة، الصباح...الخ.
ما جمعته الزيتونة لا تفرقه الأيام:
تعرف محمد الخضر حسين القادم من جنوب البلاد على محمد الطاهر بن عاشور في جامع الزيتونة أيام التحصيل العلمي. فدرسا معا على كوكبة من العلماء مختلف العلوم الشرعية والأدبية. وقد تأثرا بثلاثة منهم وهم: الشيخ عمر بن الشيخ، الشيخ سالم بوحاجب، والشيخ محمد النجار.
وعلى مقاعد الدراسة نسج ابن عاشور والخضر أواصر الأخوة والصداقة التي دامت ستين سنة (1317-1377 هـ) قال عنها هذا الأخير أنها " الصداقة النادرة المثال"، ووصفها أيضا أنها " صداقة بلغت في صفائها ومتانتها الغاية التي ليس بعدها غاية." وحينما سئل الشيخ حسين عن علاقته بالشيخ ابن عاشور، لخصها في هذه الأبيات الثلاثة تؤكد على تلك المعاني:
أحببته ملء الفؤاد وإنما أحببت من ملأ الوداد فؤاده
فظفرت منه بصاحب إن يدر ما أشكوه جافى ما شكوت رقاده
ودريت منه كما درى مني فتى عرف الوفاء نجاده ووهاده
ولم تفتر هذه الصداقة مع مرور الزمن وتغير الأحوال، منها خروج الشيخ الخضر من تونس هربا من مطاردة الاستعمار الفرنسي سواء إلى دمشق أو القاهرة. فلما هاجر الشيخ محمد الخضر إلى دمشق في سنة 1912 أرسل له الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رسالة شعرية تتكون من 9 أبيات جاء فيها:
بعدت ونفسي في لقاك تصيد فلم يغن عنها في الحنان قصيد
إذا ذكروا للود شخصا محافظا تجلى لنا مرآك وهو بعيد
إذا قيل من للعلم والفكر والتقى ذكرتك إيقانا بأنك فريد
ورد الشيخ الخضر برسالة شعرية مكوّنة من 13 بيتا عبر من خلالها عن شوقه إلى رؤية صديقه والعودة إلى تونس وهي حرة مستقلة:
بعدت وآماد الحياة كثيرة وللأمد الأسمى علي عهود
بعدت بجثماني وروحي رهينة لديك وللود الصميم قيود
ليال قضيناها بتونس ليتها تعود وجيش الغاصبين طريد
التهنئة عربون التواصل:
ولا يغفل الرجلان في تهنئة كل واحد منهما كلما نال أحدهم ترقية في العلم والعمل، فلما تولى ابن عاشور القضاء، أرسل له الشيخ الخضر قصيدة يهنئه فيها بهذا المنصب الحساس، ويذكره بنزعته الإصلاحية. ومما قاله هذين البيتين:
يا طاهر الهمم احتمت بك خطة تبغي هذى ومروءة وسماحا
سحبت رداء الفخر واثقة بما لك من فؤاد يعشق الإصلاحا
وكذلك فعل لما تولى الشيخ ابن عاشور التدريس في جامع الزيتونة سنة 1323هـ فقال في قصيدة ميمية:
مساعي الورى شتى وكل له مرمى ومسعى ابن عاشور له الأمد الأسمى
فتى آنس الآداب أول نشئه فكانت له روحا وكان لها جسما
وما أدب الإنسان إلا عوائد تخط له في لوح إحساسه رسما
ولا شك أن الشيخ محمد الطاهر بن عاشور فرح لتولي صديقه محمد الخضر لمشيخة الأزهر في عام 1952. وهو تتويج لمسيرة طويلة في الدعوة ونشر العلم. وهو في الوقت نفسه اعتراف بجامع الزيتونة وتقدير لعلمائها.
ولا ندري إن التقى الرجلان في القاهرة خاصة بعد انتخاب الشيخ ابن عاشور عضوا في مجمع اللغة العربية كما سلف ذكره. غير أننا نعلم أن هذا الأخير راسل الشيخ الخضر في شأن زيارته لمصر. وكان جواب هذا الأخير مشجعا للغاية إذ اعتبر ذلك فرصة ثمينة للتعرف على العلماء المصريين، وإلقاء المحاضرات وتمثيل علماء تونس تمثيلا مشرفا.
ومفيد أن أذكر هنا أن الشيخ محمد الخضر حسين حرر في مجلة الهداية الإسلامية سلسلة من المقالات حول "تونس وجامع الزيتونة" تحدث فيها عن تاريخ هذه المؤسسة العريقة وأشهر علمائها المصلحين والمجددين، و كان منهم الشيخ محمد الطاهر بن عاشور الذي خصص له مقالا أبرز من خلاله حياته وأعماله، وبيّن الصلة الوثيقة التي تجمعهما منذ أيام الدراسة.
ووصف صديقه الشيخ ابن عاشور بأوصاف عالية منها: " للأستاذ فصاحة منطق، وبراعة بيان، ويضيف إلى غزارة العلم وقوة النظر: صفاء الذوق، وسعة الإطلاع في آداب اللغة... فكنت أرى لسانا لهجته الصدق، وسريرة نقية من كل خاطر سيئ، وهمة طماحة إلى المعالي، وجدا في العمل لا يمسه كلل، ومحافظة على واجبات الدين وآدابه."
كما عرّف القراء بأعمال الشيخ ابن عاشور في مجال الإصلاح والقضاء والتدريس، وعدّد إنتاجه العلمي والأدبي.
مراسلات بين العالمين
ونشر الأستاذ علي الرضا الحسيني 13 رسالة أرسلها الشيخ محمد الخضر إلى صديقه الشيخ ابن عاشور على فترات مختلفة من بنزرت ودمشق القاهرة. وتكشف هذه المراسلات عن التواصل بين الرجلين رغم البعد الجغرافي، وكثرة التزاماتهما في التعليم والقضاء والإشراف على المؤسسات العلمية.
تتضمن هذه الرسائل معلومات عامة وخاصة. ويخبر الشيخ الخضر صديقه عن بعض نشاطاته العلمية خصة أحاديثه في الإذاعة التي عرف أهميتها في الدعوة والتوعية ونشر العلم والمعرفة. كما يطلعه على مشاركاته في مجمع اللغة العربية وما يصادفه من بيروقراطية خاصة في مجال الطبع والنشر.
وتثبت هذه المراسلات أن للشيخ الخضر اليد الطولى في انضمام الشيخ بن عاشور إلى مجمع اللغة العربية في القاهرة بعد أن عرفه لأعضاء المجمع. ونشر له مقالات في مجلة الهداية الإسلامية في الدين واللغة العربية.
وكان الشيخ حسين حريصا على التعريف بعلماء تونس في المشرق العربي. فقد قال في إحدى رسائله: "نريد اطلاع المصريين وعلماء الشرق على آثار علماء تونس، وخصوصا بعد أن رأيناهم يعجبون بما يكتبه أولئك الأساتذة، ويقوم لديهم شاهد على أن في تونس نهضة علمية راقية."
وفعلا نشر الشيخ محمد الخضر حسين مقالات وبحوث حررها الشيخ ابن عاشور في مجلات مختلفة كالهداية الإسلامية ونور الإسلام. ونتج عنها كتب منها تفسيره التحرير والتنوير (بعض الفصول)، و"الوقف وآثاره في الإسلام". ولم يكتف الشيخ الخضر بنشرها، بل أصدر هذا الكتاب في طبعة خاصة ووزعها على نطاق واسع.
ولقد استفدنا من بعض رسائل محمد الخضر حسين بفضل ابن أخيه الأستاذ علي الرضا الحسيني، وسنستفيد أكثر لو اطلعنا على رسائل محمد الطاهر بن عاشور التي لم نعثر عليها لحد الآن.
ولا شك أن نشر رسائل الرجلين كاملة ستساعدنا على اكتشاف معلومات علمية هامة تضاف إلى تاريخ الأفكار والذهنيات الذي مازال متعثرا في الجامعات العربية والإسلامية.