سعيد عبد الفتاح عاشور..
رائد مؤرخي العصور الوسطى
أبو الحسن الجمّال
يعد الأستاذ الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور من كبار مؤرخي العصور الوسطى فى مصر فى القرن العشرين لما له من جهود عظيمة فى هذا المجال.. قدم عشرات الكتب والأبحاث التى سدت ثغرة فى المكتبة العربية .. فهو امتداد لجيل العمالقة: محمد مصطفى زيادة، ومحمد جمال الدين سرور، وإبراهيم العدوى، وأحمد شلبي، وحسن إبراهيم حسن، وحسن حبشي، وعلى حسنى الخربوطلى، وعبدالمنعم ماجد، والقائمة طويلة من العلماء الأعلام..
ولد فى مدينة القاهرة فى 30 يوليو 1922 لأسرة علمية عريقة كان عميدها والده الأستاذ الدكتور عبد الفتاح عاشور، عشق التاريخ منذ الصغر، حيث كان يقرأ فى مكتبة والده كنوز الكتب التاريخية القديمة، التى شكلت لديه حصيلة أفادته عندما التحق بكلية الآداب – قسم التاريخ الذى عشقه وغلب عليه كيانه، حيث تتلمذ على أيدى زمرة من أعلام وشوامخ مؤرخى مصر مثل حسن إبراهيم، ومحمد مصطفى زيادة، وعزيز سوريال، وزكى على ومحمد شفيق غربال ومن المستشرقين جوجيه ودايتون وغيرهم وتخرج فى 1944م، ثم واصل دراساته العليا فحصل على الماجستير 1949 فى رسالة بعنوان "قبرس والحروب الصليبية" تحت إشراف الأستاذ الدكتور محمد مصطفى زيادة. وباختياره موضوع تلك الرسالة ربط حياته ومستقبله بالدراسة والبحث في العصور الوسطى والحروب الصليبية والتي استأثرت بأهم وأضخم مؤلفاته في سنوات لاحقة.كما حصل على شهادة الدكتوراه بامتياز عام 1954م، وكان موضوعها "الحياة الاجتماعية قي مصر قي عصر سلاطين المماليك".وكان تحت إشراف أستاذه الدكتور محمد مصطفى زيادة أيضاً ثم يعين مدرسا للتاريخ الوسيط بآداب القاهرة 1955، وتدرج فى الدرجات العلمية حتى نال الأستاذية 1969م، وكان عضوا بالعديد من الهيئات منها لجنه التاريخ بالمجلس الأعلى للثقافة، وأخيرا رئيس اتحاد المؤرخين العرب وحتى وفاته ...
يرجع الفضل للدكتور سعيد عاشور فى كشف النقاب عن مزايا التاريخ الأيوبي والمملوكي فى مصر والشام مستعرضا الحالة السياسية والاجتماعية والعلمية، حيث أضاف فى مؤلفاته الجديد الذى أفاد من جاء بعده وصار على نهجه ... ومن كتبه: "المجتمع المصري فى عصر سلاطين المماليك"، و"العصر المملوكي فى مصروا لشام"، و"الأيوبيون والمماليك فى مصر والشام"، ولم يقف عند هذا بل نشر الأبحاث المتخصصة فى العديد من الدوريات والمجلات العلمية منها: "المجلة التاريخية المصرية"، و"الهلال"، و"المجلة"، و"منبر الإسلام" كما قام بعرض بعض الكتب التاريخية الشهيرة فى مجلة "تراث الإنسانية" منها: "الكامل فى التاريخ" ولم يكتف بذلك بل واصل دأبه ونشاطه فى تحقيق ونشر كتب التراث التى تتكلم عن الحقبة الأيوبية والمملوكية مثل: "كتاب السلوك فى معرفة دول المملوك" للمقريزي بالاشتراك مع أستاذه الدكتور محمد مصطفى زيادة، و"وتذكرة البنية فى أيام المنصور وبنيه"، وكان نشره لهذه الكتب فائدة كبيرة لأهل العلم لتسهيل الاطلاع عليها بعدما كانت فى أضابير دور الكتب يصعب الاطلاع عليها .....
كما تناول "تاريخ أوربا فى العصور الوسطى وعلاقاتها مع الشرق" فى مجلدين تناول تاريخها السياسي والاجتماعي والعلمي، أسفر ذلك عن الكتب القيمة الفريدة فى بابها التى دلت على سعة الاطلاع وعلمه، واستكمل تاريخ أوربا الوسيط بالحديث عن الحملات الصليبية فأرخ لها فى مجلدين كبيرين، وترجع قيمة هذه الكتب أنها أخذت من المصادر الغربية والعربية قديمها وحديثها ووازنت بينهما واستكملت ما عند الأخر من عدم وضوح.وفى كتابه هذا عن الحروب الصليبية يرصد معالم الضعف التى سيطرت على العالم الإسلامى قبيل مجىء الحملات الصليبية ولم تكن السبب الرئيسى فى تخلف الأمة منذ كانت تعانى الضعف والفرقة والاختلاف "وإن من يتأمل أحوال العالم الاسلامى منذ القرنين التاسع والعاشر للميلاد ليسترعى نظره كثرة الثورات السياسية والصراعات الفكرية والحزازات العنصرية التى قامت فى جوف الأمة مما أدى إلى قيام ثلاث خلافات بدلا من خلافة واحدة وعديد من الدول المستقلة المتنابذة بدلاً من دولة واحدة متماسكة" (د.سعيد عاشور ..الحركة الصليبية ج1 ص8).
ويرى أيضاً "أن جذور الضعف فى دولة الإسلام امتدت إلى ما قبل الحروب الصليبية وليس حقيقاً ما يظنه البعض من أن تلك الحروب وحدها هى المسئولة عن حالة الذبول التى تعرض لها عالم الإسلام فى أواخر العصور الوسطى وربما كان أقرب إلى الحقيقة التاريخية أن نقول أنه لولا ما اصاب عالم الإسلام من تفكك وضعف ما جرؤ الغرب الأوربى المسيحى على التفكير فى شن تلك الهجمات الواسعة على بلاد المسلمين وإذا كان الضعف قد استشرى فى جسد الأمة الإسلامية قبل أن تبدأ الحركة الصليبية فإن هذه الحركة قد جاءت لتستنفذ ما بقى لتلك الدولة من طاقة وجهد ، مما أوقعها فى نهاية العصور الوسطى فريسة للتخلف والخور ..هذا وإن كان ظهور العثمانيين على مسرح الأحداث فى تلك المرحلة قد أفلح فى إقامة درع واق أدى بصفة مؤقتة قرابة ثلاث قرون إلى حماية أجزاء من العالم الإسلامى من هجمات الغرب الأوربى المسيحى".
ويقرر أن انتقال العلوم العربية إلى الغرب الأوربى خلال الحروب الصليبية وان المركز الأول كان أسبانيا حيث أخذ المسيحيون يحابون المسلمون فى شراسة وعنف وكلما استولى المسيحيون على بلد إسلامى وجدوا أنفسهم أمام ثروة ضخمة من مئات الكتب العربية فى العلوم والفنون والآداب وغيرها من الدراسات ، فأقبلوا على هذا التراث فى نهم وشغف يدرسونه ويتعلمون منه ..
الموازنة بين الحركة الصليبية والحركة الصهيونية "ما أشبه الليلة بالبارحة":
وازن الدكتور عاشور بين الحركة الصليبية التى امتدت قرابة مائتى عامى وبين الحركة الصهيونية التى بدأت على أرض الواقع فى سنة 1948 عام نكبة فلسطين واحتلالها وإن كانت لها مقدمات وأسباب سبقت هذا العام بعقود ، وذلك فى النقاط الاتفاق الآتية:
- إذا كانت إسرائيل تستهدف تحت ستار إقامة وطن قومى لليهود السيطرة على البلاد العربية الإسلامية ، الممتدة من النيل إلى الفرات، فإن الصليبيين فى العصور الوسطى ما كادوا يثبتون اقدامهم فى فلسطين حتى شرعوا يتوسعون شرقاً فى إقليم الجزيرة وجنوبا فى اتجاه مصر ودلتا نهر النيل ، بل ركبوا البحر الأحمر ووصلوا إلى شاطىء الحجاز فى محاولة لهدم مقدسات المسلميسن فى تلك البلاد ..
- وإذا كان التاريخ لا يبرىء حكام الدول العربية الإسلامية فى منطقة الشرق الأدنى بسبب موقفهم المتخاذل حتى تمكنت إسرائيل من الوقوف على قدميها فإن التاريخ أيضا لم ينس لحكام المسلمين فى الشام والعراق ومصر "عدم اكتراثهم بالفرنج" عند وصول الحملة الصليبية الأولى إلى الشام قبيل نهاية القرن الحادى عشر للميلاد حتى أن المؤرخ ابن تغرى بردى يتعجب من عدم خروج بعض هؤلاء الحكام "مع قدرتهم فى المال والرجال"!!
- وإذا كانت بعض الابلدان الإسلامية قد ابتليت اليوم بحكام دفعتهم شهوة التسلط وبريق الحكم إلى التنكر للإسلام والتخلص من معارضيهم بالفناء والاغتيال والارتماء فى أحضان الأعداء فى الشرق والغرب والتنسيق بين إسرائيل فإن هذا حدث فى القديم عندما تعاون معين الدين إنر حاكم دمشق الذى دفعته شهوة الحكم والخوف على سلطانه من تيار الوحدة إلى محالفة الصليبيين فى بيت المقدس والتردد على حصونهم ليبارك جرائمهم ضد أبناء وطنه ودينه..وما يقال عن معين الدين إنر يقال عن شاور وضرغام وعن الصالح إسماعيل الأيوبى، صاحب دمشق وكلهم حالفوا الصليبيين وطلبوا معونتهم ضد منافسيهم ..
- تخشى إسرائيل اليوم من إقامة وحدة عربية وتجهضها بكافة السبل وتشترى رجال منن بنى جلدتنا لإجهاضها، فإن الصليبيين فعلوا هذا الصنيع واستماتوا من أجل عدم تحقيق هذه الوحدة فى الشرق الأدنى بين مصر والشام ..وعندما رأوا نجاح نور الدين محمود فى إقامة وحدة امتدت من الفرات حتى دمشق مرورا بحلب خشوا ان تكتمل هذا الدائرة باستقطاب مصر فحاولوا بشتى الطرق ألا تكتمل هذه الوحدة بين العراق والشام ومصر..
(د.سعيد عاشور ..الحركة الصليبية ج1 ص 9- ص12).
محققاً للتراث: عانى المؤرخون قبل الدكتور سعيد عاشور من ندرة المطبوع من كتب التراث طبعات علمية رصينة ، وخصوصا التى تتعلق بتاريخ الايوبيبن والمماليك ، فعمل الرجل على بعث هذه الكتب ونشرها نشرات علمية والتي كان من أهمها تحقيق ونشر كتاب "السلوك لمعرفة دول الملوك " للمقريزى مؤرخ العصور الوسطى الأشهر، حيث قام بتحقيق ونشر الجزئين الثالث والرابع في 6 مجلدات (2804 صفحات)، إصدار مركز تحقيق التراث بدار الكتب القومية، القاهرة 1970 -1973. والجدير بالذكر أن استاذه المؤرخ الكبير قد قام بنشر القسم الأول من الكتاب ويشمل الجزأين الأول والثانى، وتوفى دون أن يكمل تحقيق الكتاب فقام الدكتور سعيد بتحقيقه حتى انتهى منه سنة 1973 كذلك قام بتحقيق ونشر مجموعة كبيرة من كتب التراث الهامة : "كنز الدرر" لابن أيبك الدواداري، "نهاية الأرب " للنويرى و"الجوهر الثمين" لابن دقماق. كما استقطب تلاميذه النجباء للعمل فى هذا المجال، ومنهم الأستاذ الدكتور حسنين محمد ربيع الذي كان قادماً لتوه من لندن بعد حصوله على الدكتوراه، فقد أوكل إليه استكمال تحقيق كتاب "مفرج الكروب في أخبار بني أيوب". الذى حقق منه الدكتور جمال الدين الشيال (1911-1967) ثلاثة أجزاء، واستكمل الدكتور حسنين تحقيق الكتاب جرياً على نفس منهج الدكتور الشيال، وعلى المخطوطات التى صورها من كافة دول العالم، ومنهم عبدالعزيز محمود عبدالدايم، ولبيبة إبراهيم مصطفى، ويحيى محمود الحديني للعمل في لجنته بالإضافة كما قام بتعيين تلميذه النجيب أيضاً الأستاذ الدكتور محمد محمد أمين وتكليفه بتحقيق كتاب "تذكرة النبيه في أخبار المنصور وبنيه" فى تاريخ أسرة بنى قلاوون فى مصر والشام وصدر الكتاب فى ثلاثة مجلدات بتقديم الدكتور عاشور وتعلم هؤلاء منهج التحقيق وأصوله على يديه..
وقد كان الدكتور عاشور يتمتع بخصال عالية وأخلاق حميدة وتواضع جم، يقول عنه تلميذه الدكتور فراج عطا سالم أستاذ التاريخ فى كلية الآداب جامعة الملك سعود: "كانت من خصاله الحميدة التي لا ينكرها أحد من تلاميذه حبه لهم حب الأب لأبنائه ورعايته لهم والأخذ بأيديهم وتشجيعهم لنيل الدرجات العلمية من الماجستير والدكتوراه، بل ويسعى لتعيينهم في الجامعات والكليات المصرية وكنا دائماً ندعى لحضور تلك المناقشات في جامعة القاهرة وغيرها وقد ظلت صلتي به رحمه الله حتى سافرت إلى المملكة العربية السعودية للعمل محاضراً بجامعة أم القرى (الملك عبدالعزيز سابقاً). ولم تنقطع وكنت دائم السؤال عنه رحمه الله."
و يرى تلاميذه أنه كان "...صاحب مدرسة متميزة قي تاريخ العصور الوسطى"، حيث عدل عن منهج السرد التاريخي الذي كان سائداً قبله، واهتم بالبحث والتحليل للروايات التاريخية والكشف عن طبيعة العلاقات بين الشرق والغرب في العصور الوسطى، وهو ما يبدو جلياً في مؤلفاته التي يأتي في مقدمتها "أوروبا العصور الوسطى" والحركة الصليبية" وهما مؤلفان موسوعيان يتألف كل منهما من مجلدين كبيرين وقد أصبحا منذ صدورهما المراجع الرئيسية التي لا غنى عنها لكل باحث في تاريخ العصور الوسطى في العالم العربى.
أما عن بحوثه المنشورة في الدوريات والمجلات العلمية أو المؤتمرات المحلية والدولية فقد بلغت أكثر من أربعين بحثاً أثرت الدراسات الخاصة بتاريخ العصور الوسطى وفتحت آفاقاً جديدة في دراسة تلك الفترة متحررة من الآراء والأفكار النمطية للمستشرقين الأجانب ،وفي تقييمه لكتاب جغرافية الباز الاشهب (كتاب) ،لجمال الدين فالح الكيلاني ، والمنشور في المملكة المغربية ،يدعم سعيد عبد الفتاح عاشور ، موقف صاحب الدراسة المذكورة من كون ،الشيخ عبد القادر الجيلاني ،ولادة جيلان العراق قرب المدائن في العراق لا جيلان الطبرستان . وبلغت عدد الرسائل الجامعية – ماجستير ودكتوراه- التي أشرف عليها الدكتور عاشور خلال تاريخه العلمى الطويل، ما يزيد عن أربع وأربعين رسالة (حتى سنة 1992 وهو عام صدور الكتاب الذي نشرته جامعة القاهرة تكريماً له بمناسبة بلوغه سن السبعين، والذي يعتبر المرجع الرئيسى لهذه الصفحة، علما بأنه من المعروف أن د.سعيد عبد الفتاح عاشور لم يتوقف عن الإشراف على الرسائل الجامعية حتى تقاعده سنة 2005)، وكثير من طلابه وصل درجة الأستاذية وانتشروا في الجامعات المصرية والعربية واحتلوا أكبر المناصب العلمية والإدارية.
واهتم الدكتور سعيد بالحضارة الإسلامية وإسهاماتها فى الحضارة العالمية فى عدد كبير من المجالات وذلك يرجع حسب قوله إلى أن الإسلام دين عالمي يحض على العلم ويعتبره فريضة وفضل هذه الحضارة على العالم كثير، شهد بها الأعداء قبل الأصدقاء، وهنا أبرز دور علماء العرب المسلمين أمثال الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن زهر، والزهراوى، وابن العوام، وغيرهم، فى مد الجذور بين الحضارات القديمة وبين النهضة العلمية الأوربية، وذلك فى كتبه "المدينة الإسلامية ودورها فى الحضارة الأوربية"، و"بحوث فى تاريخ الإسلام وحضارته"، و"الجامعات الأوربية فى العصور الوسطى"، وغيرها.
لقد كان الدكتور قيمة علمية عظيمة أمتلك أدوات المؤرخ من وثيقة ومصدر ومرجع وقوة رأى وهدوء نفسي ساعده على انجاز هذا المشروع العظيم الذى أخلص له طيلة حياته وكان له ثمرات نجاح يظهر فى حلفاؤه فى مصر والدول العربية أمثال: محمد محمد أمين، حسنين ربيع، وحسن على حسن، وزبيدة محمد عطا، وغيرهم..
ولقد من الله عليه أن رحل فى أيام كريمة وشهر كريم فى العشرين من رمضان سنة1430 العاشر من سبتمبر سنة 2009 رحمه الله رحمة واسعة ....