سعد الله الجابري
الزعيم الوطني السوري
محمد فاروق الإمام
ولد سعد الله بن عبد القادر لطفي الجابري في مدينة حلب عاصمة الشمال السوري عام 1894م لعائلة عريقة، مشهورة بالوطنية والثراء. والده الحاج عبد القادر مفتي مدينة حلب، أنجب ستة أبناء من بينهم سعد الله الذي بدت عليه مظاهر النباهة والإقدام منذ صغره، فنشأ وترعرع في حلب، وتلقى علومه الابتدائية والثانوية فيها وصحا على اجتماعات واتصالات تقوم بها عائلته مع رجالات البلد، حيث كان القوم يجتمعون في منزل الشيخ عبد الحميد الجابري للتداول في أمور البلاد وما آلت إليه.
أنهى سعد الله دراسته الثانوية في حلب، فاستقدمه أخوه إحسان الجابري إلى استانبول لمتابعة دراسته في الكلية الملكية السلطانية، فاتصل هناك بالشباب العربي في الأستانة وأسسوا جمعية العربية الفتاة وأقسموا اليمين للعمل على استقلال البلاد العربية.
أُرسل سعد الله إلى ألمانيا حيث درس سنتين وعاد إلى استانبول بمناسبة إعلان الحرب العالمية الأولى، فجند في الجيش العثماني (كجك ضابط) وعُين مراقباً على الأرزاق وقوافلها في بلدة (أرض الروم) وقضى مدة الحرب هناك.
عندما انتهت الحرب عاد سعد الله إلى حلب، ودخل في حركة حقوق الإنسان، ولما قامت الثورات عام 1919م على أثر نية الحلفاء تقسيم البلاد العربية ودخول الفرنسيين سورية؛ كان سعد الله الجابري على اتصال بزعيم الثورة في الشمال إبراهيم هنانو يؤيد ثورته ويدعمه، كما جدد اتصاله بمن كان معه في الكلية السلطانية مثل شكري القوتلي وغيره من العناصر الوطنية.
ونظراً لجرأة الجابري في مواجهة الفرنسيين، فقد اعتقل في سجن أرواد مدة من الزمن مع هاشم الأتاسي وجماعة من الوطنيين... ومنذ ذلك التاريخ بدأت رحلة جديدة من النضال إذ كانت سورية تغرق رويداً رويداً تحت وطأة المحتل الفرنسي.
قال فيه عمر أبو ريشة:
في محاريبك الوضيئة تغفو ---- كبرياء الآباء والأجداد
كان الجابري وجماعته يوالون الاجتماعات والاحتجاجات ورفع المذكرات لجمعية الأمم يشكون فيها الفرنسيين، وحين أعلنت السلطة الفرنسية استعدادها لإقامة حكم دستوري في البلاد، كان الوطنيون قد قرروا في مؤتمرهم الدخول في الانتخابات، ولما أُنتخب إبراهيم هنانو والجابري لأول مجلس تأسيسي رأى الفرنسيون أن هذا المجلس لا يمكن أن يخدم مصالحهم، لذا عمدوا إلى إلغائه، فعاد الوطنيون إلى النضال وقامت المظاهرات والاحتجاجات واعتقل الجابري. وبعدما أّفرج عنه تنادى الوطنيون لوضع ميثاق الكتلة الوطنية ونظامها الأساسي فكان هاشم الأتاسي رئيساً وإبراهيم هنانو والجابري نائبين للرئيس.
لما رفضت الكتلة الوطنية معاهدة عام 1933م، قامت المظاهرات في جميع أنحاء سورية وجرت اعتقالات للوطنيين وكان من بينهم سعد الله الجابري حيث صدر عليه حكم بالسجن ثمانية أشهر.
اشتد الطغيان الفرنسي في سورية، وأُغلقت مكاتب الكتلة الوطنية وعمت الاعتقالات رجال حلب ودمشق وباقي المدن، واشتد الذعر وأضربت جميع المدن السورية، وأُلقي القبض مجدداً على الجابري ونفي إلى جزيرة (عين ديوار).
تجاه ما وصلت إليه سورية من الاضطراب، استدعى الفرنسيون الوطنيين واتفقوا معهم على أن يرسلوا وفداً يمثل وطنيي البلاد إلى فرنسا للمفاوضة لعقد معاهدة، فكان الجابري عضواً في هذا الوفد، فصدر عفو عام عن السوريين وأُفرج عن الوطنيين وتمت معاهدة عام 1936م.
شغل الجابري وزارتي الداخلية ثم الخارجية في وزارة جميل مردم بك، في أول حكومة وطنية كان فيها هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية. لكن الفرنسيين أثاروا الفتن والنعرات الطائفية مما أدى إلى تعطيل الدستور وإنهاء الحكومة، فاستقال رئيس الجمهورية وكانت نهاية العهد الوطني.
بتعطيل الحياة الدستورية وإبعاد الوطنيين عن الحكم، زاد إمعان الفرنسيين في اضطهاد الوطنيين، فاستولوا على السلطة مباشرة وأنشأوا حكومة موالية لهم، وفي هذا الظرف وقعت حادثة جعلت سعد الله وصحبه يغادرون سورية كلاجئين إلى العراق، وذلك حينما وُعِد قاتل الوطني الدكتور عبد الرحمن الشهبندر بالعفو عنه، إذا اعترف أنه كان مدفوعاً إلى القتل من قبل رجال الكتلة الوطنية: شكري القوتلي وسعد الله الجابري وجميل مردم بك، غير أن القضاء برأهم. ولم يعد سعد الله الجابري إلى سورية إلا حينما دخلت الجيوش البريطانية سورية بصحبة جيش فرنسا الحرة وأُعلن استقلال البلاد.
عندما انتُخب شكري القوتلي لرئاسة الجمهورية في17 آب 1943م، تولى الجابري رئاسة وزارته. هذه الوزارة التي أدى عنادها الوطني إلى قيام الفرنسيين بعدوانهم على سورية عام 1945م، وفي عهد وزارته أيضاً تم جلاء القوات الفرنسية عن البلاد.
كان سعد الله الجابري رئيس الوفد السوري في توقيع بروتوكول الإسكندرية، ورئيس وفدها في اللجنة التحضيرية للمؤتمر العربي العام، كما حضر إعلان إنشاء تأسيس الجامعة العربية.
مرض سعد الله الجابري في آخر زيارة له إلى مصر، حيث كان هناك لحضور مجلس الجامعة العربية عام 1947م، فبقي في الإسكندرية للتداوي، إلا أن رئيس الجمهورية شكري القوتلي طلب منه الاستقالة من رئاسة الوزارة فاستقال.
رجع الجابري إلى حلب وقضى فيها بضعة أشهر، وما لبث أن وافاه الأجل في 5 نيسان عام1947م.
رثاه زعماء العالم العربي وقتها ومنهم:
السيد مكرم باشا عبيد رئيس الكتلة الوفدية الذي قال:
"ولعل عزائي بعض العزاء هو أن يسمح لي بتأبين الفقيد العزيز، وما الحزن الباكي على من مات منا إلا ضريبة الموت علينا يتقاضاها من نفوسنا جزعاً ويستدرها من عيوننا دمعاً، ولقد كان سعد الله الجابري هو ذلك الوطني النموذجي".
وقال مصطفى باشا النحاس:
"يقيني أن العظيم في وطنه وخلقه، النزيه في تصرفاته وأعماله، لا يموت إلا الموت الذي اصطلح عليه الناس، وهو النقلة من دار الغرور والفناء إلى دار الصدق والبقاء، وهو بعد هذا خالد في قلوب الأحياء ما بقيت الحياة".
وقالت السعودية:
"حينما نبكي سعد الله فإنما نبكي فيه الشمم ومضاء العزيمة والإقدام، نبكي قائداً أقبل في طليعة الرعيل الأول، يذود عن حمى الوطن الغالي، فكان علم جهاد ولواء نضال، ضحى على اسم أمته فأضحى، ولقي في سبيل استقلالها وعزتها ما لقي...".