محمد النقدي
محمد النقدي
الشاعر الإنسان
أبو غلواء "عبد الخالق فريد"
يعتبر الشاعر العراقي الراحل محمد النقدي من أبرز شعراء جيل الخمسينيات في منتصف القرن الماضي، الذي يطلق عليه "جيل الرواد"..
وكان شاعراً رومانسياً، عذب الألفاظ، مشرق الصور والأخيلة، متفنناً في رسم كلماته وصياغتها، بحيث يجلوها كما يجلو الصائغ الماهر نوادر جواهره، وكان متأنياً ومقلاً في نظم الشعر، ويعتبر ديوانه الأول "الأشباح الظالمة" الصادر في عام 1951 من أهم الدواوين الشعرية التي ظهرت في تلك الفترة الزاهرة التي تضوعت بعبير الإبداع والتجديد، والتي فتحت آفاقاً واسعة لحركة الشعر المعاصر، وقد قدم الشاعر النقدي ديوانه الأول بهذه الكلمات: "إلى ذلك الفجر المنتظر – عسى أن تطمئن الأرواح من الأشباح ويصرف الأبصار عن بريق النضار... م".
ولد شاعرنا محمد جعفر النقدي في مدينة العمارة مركز محافظة "ميسان" في عام 1926 وهو بكر أبناء العلامة الشيخ جعفر النقدي، وقد اهتم به والده منذ الصغر، ومنذ نعومة أظفاره، فهيأه لتلقي علوم الدين واللغة والأدب، ووجهه إلى الإطلاع الحر ليلم بمختلف أنواع المعرفة حيث تتواجد مئات الكتب النادرة في خزائن كتب والده العامرة، وكان الشيخ جعفر محمد النقدي 1885 – 1951 شاعراً مجيداً، وعالماً مرموقاً، له العديد من المؤلفات في مجال الفقه والأصول.
أكمل شاعرنا محمد النقدي دراسته الأولية ما بين مدينتي العمارة وبغداد وتخرج في دار المعلمين الابتدائية في الأعظمية عام 1945 وعمل معلماً في المدارس الابتدائية ثم الإعدادية فيما بعد، وكانت آخر مدرسة عمل فيها هي ثانوية الشعب في الكاظمية ثم أحال نفسه إلى التقاعد عام 1977 ليتفرغ إلى أعماله الشعرية والأدبية، فنشر شعره في صحافة بغداد وبيروت والقاهرة وضمه فيما بعد ديوانه الأول "الأشباح الظالمة 1951".
ومن مؤلفاته الشعرية الأخرى "ليالي نيرون" التي قال عنها إنها قصة غنائية اجتماعية، وقد صدرت عام 1954 – كما نشر "الفجر والسلطان" وهي مسرحية شعرية هادفة من الشعر الحديث صدرت في عام 1959 كما صدر له ديوان "من أجلك يا وطني" ويضم قصائد التي كتبها قبل ثورة تموز 1958 وبعد الثورة في عام 1969 وهي تصور واقعه الحياتي واتجاهه الفكري، ولشاعرنا النقدي طائفة كبيرة من الشعر المخطوط تنتظر النشر لتكتمل صورة هذا الأديب الموسوعي والشاعر المتألق الكبير الذي لاقى من الجحود والإهمال الشيء الكثير رغم أن "الجواهري" فضله على مئة شاعر نسجوا على العمود في زمانه، كما ذكر ذلك حميد المطبعي في الجزء الأول من موسوعته "أعلام وعلماء العراق الصادر في عام 2011 من خلال ترجمته لشاعرنا الراحل محمد النقدي.
نماذج من شعره:
إن جميع قصائد "الأشباح الظالمة" تمتاز بالرقة العاطفية، والصور المتألقة المسربلة بالأخيلة والمشاعر النفسية العميقة الأغوار..
وهذه قصيدته "الماضي" التي تمثل تجربة حبه المقدس الذي آل إلى الفشل والضياع، وعزف بإثره عن فكرة الزواج واختار العزوبية مستسلماً إلى أحزانه لائذاً بعبثية الحياة ووالغاً في رحاب "المعري" فيلسوف الشعر وملاذ العبقرية والإبداع نقتطف منها:
لم يزل راقصاً على أجفاني – مثلما افتر في ضحى عنفواني
عرسٌ للجنان عانقت الأنغام فيه عرائس الأفنان
وشعاعٌ أطل من مقل الليل على قلب شاطئ فينان
وظلالٌ من الصبا، حضنت سمراء، نشوى بحلمها الفتان
ونقتطف له مقطوعة أخرى "إلى حزينة" وهي مقتطعة من قصيدة لشاعرنا المبدع مستوحاة من حبه الكبير وفيها من المشاعر المتألقة المرهفة ما يغني عن الشرح:
لم الحزن؟ أين انبثاق المنى وأين ابتساماتك الحالمات تغني لا تأذني للأسى إذا عصف الحزن في وجنتيك أيرتشف الغيم ضوء النجوم | يرف انطلاقاً على فما عدت ألمحها في فمك؟ يحدق يوماً إلى بلسمك... تلص لون الصبا في دمك ويحرم قلبي، سنى أنجمك؟ | مبسمك؟
وهذا مقطع شعري رائع من قصيدة "العذراء" لشاعرنا النقدي:
حلمٌ ليتني قصصت جناحه قبل أن يهرق الصبا أقداحه
تلك ألوانه ترف وتنساب أمامي براقةً ، فواحه
وفي قصيدة "الصليب الذهبي" صورٌ وأخيلة ندر مثليها في دواوين الشعراء المعاصرين:
نشوان في أرجوحة كفراشة سكرى محلقة كحمامة رفت على فننٍ أو طفلةٍ باتت تلاعبها أخطر فدربك ملؤه الذهب طيفان حولك حام ظلهما أهواك أحلاماً مقدسةً لولا صدى الأغلال في قدمي | العقدينساب من نهدٍ إلى في الروض من وردٍ إلى ورد وتلفتت حذراً من الصيد الأم الحنون بجانب المهد وعلى خطاك تكسر الشهب روحٌ عليك مرفرفٌ وأب سجدت لها الألقاب والرتب لعبدتها وصنعت ما يجب | نهد
وفاة الشاعر
انتقل الشاعر النقدي إلى جوار ربه يوم 26/1/2004 ورثاء صديقه الشاعر عبد الخالق فريد بقصيدة طويلة نقتطف منها:
إيه رفيق خلفتني نهب حزنٍ وعدت بعدك أبكي فقدت فيك كريماً أخي محمد.. عذراً إن المصاب جليلٌ يا رحمة الله هلي ويا غمامة عطرٍ على ضريح عزيز يظل يبكيه قلبي | حياتيلو تشهد اليوم حالي يدك صم الجبال مودعاً آمالي ذا عفة في الخلال إن قصرت أقوالي قد هد لي أوصالي على الحبيب الغالي هيا اهطلي بابتهال قد كان زين الرجال على مدار الليالي |
مرثية محمد النقدي "الشاعر الإنسان"
ذكراك ما فارقتني ولا نأت عن خيالي
وكلما لاح طيفٌ سالت دموعي الغوالي
محمد يا حبيبي.. ويا صديقي المثالي
يا شاعراً عبقرياً يصوغ أحلى اللآلي
نجواه وجد رفيق مسربل بالجمال
ووحبه كأس حبٍ يضج بالجربال