الشيخ عبد العزيز عودة

نعمان فيصل

[email protected]

يمثل الشيخ عبد العزيز عبد الرحمن عودة العصامية بأجلى معانيها، فهو من أسرة رقيقة الحال كادحة كانت تعيش في بلدة وادي الحسى، وترجع عائلته في جذورها إلى عرب السواركة، وفي عام النكبة (1948) اضطرت عائلته إلى الهجرة إلى جباليا، وكانوا لا يملكون من متاع الدنيا إلا الثياب التي يلبسونها، والقليل من الجنيهات التي كانت في جيوبهم، وفي جباليا سكنت العائلة، وكانوا كغيرهم من الفلسطينيين يتخبطون ولا يدرون شيئاً عن مصيرهم، وفي ظل هذه الظروف المعيشية الصعبة، ولد الشيخ عبد العزيز عودة في 20 كانون الأول (ديسمبر) 1950، وأنهى دراسته الإبتدائية والإعدادية في مدرسة جباليا للاجئين عام 1965، وأكمل دراسته الثانوية في مدرسة الفالوجة الثانوية عام 1968.

وقد أدرك الشيخ بفطرته العارفة أن المطالعة والقراءة هما سبيل المعرفة والثقافة الإسلامية، فكان من أوائل من قرأ للإمام محمد الغزالي، وقد أنس الشيخ عبد العزيز بكتبه، وتعلق به روحياً وعقلياً؛ فجعل من فكر الغزالي دعامته في مصادره وأحاديثه ولقاءاته.

وفي عام 1969 التحق الشيخ في مدرسة ثانوية الأقصى الشرعية (وهي مدرسة داخلية في القدس تابعة لوزارة الأوقاف، وكان يديرها الشيخ عكرمة صبري وقتذاك)؛ ولم يكمل دراسته فيها نظراً لقبوله في جامعة القاهرة، وفي مارس 1970 شدَّ الرحال إليها، والتحق بكلية دار العلوم، وهي الكلية التي تخرج فيها كبار العلماء والدعاة أمثال: حسن البنا، سيد قطب، محمد ناجي أبو شعبان...)، ولقد كان لدار العلوم أثر كبير في تكوين شخصيات كثير من الشبان الملتحقين بها، وتوجيههم نحو خدمة المجتمع خاصة في مجال التعليم.. وقد كان الشيخ من المحظوظين عندئذ لتوافر نخبة ممتازة من الأساتذة منهم: علي حسب الله، عبد العظيم معاني، مصطفى زيد.. وأضرابهم، وكان الشيخ يتطلع بشغف إلى إنهاء دراسته في القاهرة والعودة إلى بلده حيث حصل على إجازة في اللغة العربية والعلوم الإسلامية عام 1973، ثم عاد إلى غزة وتزوج فيها، ثم رجع إلى القاهرة عام 1974 لإكمال دراسة الماجستير في الكلية نفسها، وحصل فيها على السنة التمهيدية ولم يكمل دراسته، نظراً للظروف المالية الصعبة التي تمر بها أسرته.

وفي القاهرة بدأ حياته العملية خلال الأعوام (1974-1976) مدرساً في مدرسة قصر النيل الخاصة للبنات، ومدرسة الأورمان الثانوية الخاصة للبنين، ومدرسة أم الأبطال الثانوية للبنات.. وكان معلماً من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، وهو يبث علمه الغزير في جود وسخاء؛ كالشجرة الكريمة تجود بالعطاء في غير منّ ولا استعلاء، وكان أستاذاً لكثيرين ممن انعقدت لهم في الأدب والعلم والدعوة ألوية، واستقام لهم في الفكر العربي مكان، وبات الشيخ عبد العزيز علماً من أعلام النجاح والتفوق، ورمزاً من رموز التحدي والفوز، وعنواناً يُنظر إليه باحترام، ويتمنى الكثيرون أن يتمثلوا به، وأن يحذوا حذوه وأن يتشبهوا به، كما عمل خطيباً للجمعة في مسجد التوحيد بالجيزة.

 في سبتمبر 1976 تهيأت له فرصة أخرى للتدريس في إمارة الشارقة بالإمارات العربية المتحدة، وعمل مدرساً للغة العربية والتربية الإسلامية في مدرسة العروبة الثانوية فيها (وهي المدرسة الثانوية الوحيدة بالشارقة)، وتعد من أكبر المدارس بالإمارات العربية آنذاك، واستمر الشيخ على سيرته موفقاً ومحبوباً من تلاميذه، لأن له من سمعته ووقاره، وغزارة مادته العلمية، وبساطته في إيصال المعرفة إلى التلاميذ، ما يضمن له النجاح والتوفيق، واستمر على ذلك حتى عام 1981، ثم عاد إلى غزة هاشم؛ وتعاقد مع الجامعة الإسلامية، وعمل في كلية الشريعة فيها، وتخصص في تدريس الكثير من المواضيع الدينية والنحوية ومنها (التفسير، أحاديث الأحكام، تاريخ التشريع، النحو..)، كما عمل خطيباً وواعظاً بارزاً في مسجد عنان بمنطقة السودانية شمال قطاع غزة، ثم في مسجد القسام في بيت لاهيا.

عاصر الشيخ عبد العزيز أهوال النكبة (1948)، وحرب حزيران عام 1967، وما تلا ذلك من حوادث أليمة مر بها شعبه، ولم يشأ الشيخ أن يعيش على هامش الأحداث أو بمعزل منها، فكان له رأي واضح وصريح في مقاومة الاحتلال، وتحرير الأرض السليبة من قبضته.. فكان من رموز الدعوة الاسلامية وأحد قادة حركة الجهاد الاسلامي.. وجعل من خطبه ودروسه منبراً لتوجيه الناس نحو إحياء المعاني الدينية في قلوبهم، ومقارعة المحتل، وكان له الأثر البالغ في نفوسهم، وفي سبتمبر 1983 وجه الاحتلال الإسرائيلي للشيخ تهمة إثارة الشغب.. ومنعه من مزاولة عمله في الجامعة الإسلامية، وفرضت عليه الإقامة الجبرية مدة عام، وفي أواخر أغسطس 1984 اعتقل مدة 11 شهراً وسجن في سجن السرايا بغزة، وعانى ما عاناه المعتقلون من سطوة السجان الإسرائيلي، إلى أن أُفرج عنه في أغسطس 1985، فزاول عمله في الجامعة مرة أخرى، وخلال هذه الفترة كان الشارع الفلسطيني يغلي من ممارسات الاحتلال المهينة ضد أبناء شعبه، وقد كان لخطب الشيخ في نفوس الشباب وعيٌ ديني ووطني؛ مما دفع الاحتلال في مساء يوم 17/11/1987 لاعتقال الشيخ ولكن هذه المرة على ذمة الإبعاد، والنفي خارج الوطن، وأُتى به إلى معسكر أنصار، وتلى عليه الضابط الإسرائيلي قرار الإبعاد، موقعاً من جنرال الحرب اسحق مردخاي القائد العسكري للمنطقة الجنوبية المحتلة آنذاك، إلا أن الشيخ بشجاعة الفارس الهمام، رفض استلام القرار والتوقيع عليه، واستدعى المحامي فايز أبو رحمة في تلك الليلة الليلاء، وقدم اعتراضاً على هذا القرار الجائر، فنقل الشيخ إلى سجن غزة المركزي الشهير إلى حين البت في هذا القرار، وسجن في زنزانة منفرداً بها مدة ثلاثة شهور.

وتولى المحامي ناصر درويش من القدس الدفاع عن الشيخ أمام المحكمة العسكرية الإسرائيلية العليا، وعقدت الجلسات.. وفي الجلسة الأخيرة، وأمام خمسة من القضاة الإسرائيليين برئاسة القاضي العسكري مئير شمجار صدر القرار بالموافقة على إبعاده إلى جنوب لبنان لكونه وراء اندلاع الانتفاضة عام 1987، ونفذ الحكم في أبريل 1988 ومعه رفاقه: (فريح الخيري، خليل القوقا، حسن أبو شقرة، محمد أبو سمرة) وكانت صدمة لا تضاهيها صدمة بكل معاني الكلمة ومفرداتها، ولا أُظن أنه عاش أياما أكثر معاناة من تلك الأيام الصعبة؛ ولكن إيمانه الراسخ بالله وثقته المطلقة بعدله ورجائه بفرجه؛ كان يبعث في نفسه الأمل والصبر، ويقوي عزيمته على مواجهة أكبر محنة مرَّ بها في حياته، عندها غادر شيخنا المجاهد لبنان قاصداً أخيه سليمان في الجزائر الذي كان يدرس فيها الدراسات العليا، وسكن معه مدة.. وكان للشيخ عبد العزيز أُمنية منذ صغره أن يلتقي الإمام الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله وطيب ثراه - ولو لمرة واحدة في العمر من شدة حبه وتعلقه به روحياً منذ نعومة أظفاره، وشاء الله ذلك، وكان للشيخ ما تمنى فالتقى بالشيخ الغزالي في مؤتمر الملتقى الفكري الإسلامي، المنعقد في الجزائر في سبتمبر 1989 ودار النقاش والحديث بينهما إلى ما يربو عن ست ساعات متواصلة حول الفكر الإسلامي، والواقع الفلسطيني المرير.

في عام 1989 توجه إلى الشارقة، والتحقت أسرته به، وأخذ يشارك في إلقاء المحاضرات في المنتديات الثقافية، وعقد اللقاءات في بعض الصحف، وكانت آراء الشيخ وأفكاره في غاية الاعتدال، بعيدة كل البعد عن التعصب والتزمت، مؤمناً بأن الإسلام يهدف في جوهره إلى مبادئ إنسانية سامية تدعو إلى الخير والبر والتعاون ونبذ الحقد، وبعد احتلال العراق للكويت عام 1990 طُلب منه مغادرة الإمارات، ولما ضاقت الأمور في وجهه توجه إلى سوريا، ومكث في ربوعها ثمانية أعوام، وكان الشيخ يعتمد في معيشته على راتبه الذي كان يتقاضاه من الجامعة الإسلامية طيلة مدة إبعاده خارج الوطن، وبقي الشيخ على سيرته في الدعوة إلى الله، إلى أن يسر الله له العودة إلى أرض الوطن في عام 2000 بعد نفي وإبعاد دام اثني عشر عاماً، وكان شيخنا المجاهد مؤمناً بقضاء الله وقدره ومتمثلا لقوله تعالى: { فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} وقوله أيضا: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}

في يناير 2001 عين الشيخ عبد العزيز مدرساً في قسم الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر بغزة ومايزال على رأس عمله، بالإضافة إلى عمله خطيباً وواعظاً في المسجد الذي أحبه وتعلق به وهو (مسجد القسام) في بيت لاهيا، إلى جانب ذلك يقوم بعقد الندوات واللقاءات العلمية التي تهتم بقضايا الفكر الاسلامي المعاصر، وتصحيح مسار العمل الاسلامي، والدعوة إلى الله.. وإن الله قد أفاض عليه المعرفة والعلم ليفيضهما على غيره ممن لا يجدون السبيل لهما ميسرة، فهو كالجدول لا يبخل بقطرة من ماء، وكالشمس لا تضن بحزمة من ضياء، وللشيخ جمهوره ومريدوه من رفح جنوباً إلى بيت لاهيا شمالاً.

فلنسأل الله له دوام الصحة وطول العمر، واضطراد النجاح ورغد العيش، فيه وبأمثاله يتجدد الأمل في أن يعمر الكون، وتصفو مشارب الحياة، ويطمئن البائسون إلى مستقبل أفضل، ويستبشر الآيسون بأيام من السعادة والهناء، ويزداد تشبث الإنسان بهويته مواطناً في وطن عزيز شامخ، وعضواً في نظام إنساني قائم على العدل.