الشهيد البطل الدكتور محمد أحمد الخلف

د. عامر أبو سلامة

الشهادة اصطفاء من الله تعالى واتخاذ( ويتخذ منكم شهداء)، وأخونا الحبيب الدكتور محمد أحمد الخلف، ممن نالها بإذن الله تعالى، وحظي بشرفها.

لقد كان يتغنى بحب الشهادة، ويتلو دواماً على مسامعنا الآيات، الدالة على فضلها، ويردد الأحاديث التي وردت صحيحة عن نبينا- صلى الله عليه وسلم- في مكانة الشهيد، وخصائصه، ويعقبها رفع اليد ضراعة إلى الله أن ينال هذا الشرف.

وأحسب أخي وشقيق روحي الدكتور محمد- رحمه الله- أنه من أهل الصدق، وكان يطلبها بصدق، بل سعى لها بقدميه، حتى كانت نهاية المطاف، بعد صراع طويل مع هذا النظام، الذي شرده أكثر من ثلاثين عاماً، وآذاه وأهله بكل صنوف الأذى، وكان صابراً محتسباً، لم تلن له قناة، ولم يضعف لحظة من اللحظات.

كانت مقاومة النظام ديدناً له، لا يكاد يتوقف، تارة يكتب مقالة، وفي بعض الأحيان يهدر بقصيدة، وفي كثير من الأوقات كان يذكر الناس ببيوت الله، بعظيم جرائم هذا النظام، وفظائعه وقسوته وعدم إنسانيته، وكم من تذكرة ألقاها على مسامع طلابه، يبين فيها ما فعل هذا النظام بسورية، ويؤرخ لمرحلة، من مراحل سورية، بكل هذه الأساليب، لساناً وسناناً، وجهداً وعملاً، وكان رأيه ومنذ أمد بعيد، أن هذا النظام لا تنفع معه المهادنة، ولا يجدي معه الحوار، لأنه سرطان لا بد من استئصاله من جذوره، لتسعد الأمة، ويرتاح الناس، وبقي صامداً مربطاً محتسباً لم تزده السنون إلا ثباتاً وتصميماً، على المضي بهذا الطريق اللاحب، والصراع الذي يحتاج همم الغيارى، ونحسب الأخ الدكتور من هؤلاء.

وجاءت ثورتنا شعبنا السوري، فاستبشر، وهلل وكبر، وكأنما نشط من عقال، وكان يوصي كل من رآه من الإخوة، بأنه على استعداد للنزول إلى الداخل السوري، ليعيش مع أبناء الشعب، ليشاركهم الآمال والآم والعمل من أجل إسقاط هذا النظام المتعفن الخرب، الذي ارتكب أعظم الجرائم بحق أبناء هذا الشعب السوري الأبي.

ويدخل إلى ساحات المحنة والصبر والجهاد، ويثبت ثبات الرواسي، بعمله قبل قوله، ويثبت أنه على العهد، ولم يتلكأ، أو يتراجع، وهو الذي كان يردد كلمات سيد- رحمه الله( تظل كلماتنا عرائس من شمع، حتى إذا متنا في سبيلها، بعثت فيها الروح وكتبت لها الحياة).

وقبلها وبعدها كان أبو أحمد الحبيب الغالي، مثال الأخ المسلم، الذي تخرج في مدرسة الإخوان المسلمين العتيدة، على أفكار الإمام البنا والعلامة السباعي والمودودي والشيخ سعيد حوى، وأمثالهم من مفكري الإخوان.

هذه المدرسة التي تربي أبناءها، على ركائز الإيمان التي تدفع الواحد منهم أن يكون شمعة تحترق، لتضيء الدرب للآخرين، وشجرة ترمي الثمر وتنتجه، حتى لو رميت بالحجر، فحب الخير للناس، عبادة( وخير الناس، أنفعهم للناس).

كان أبو أحمد الدكتور محمد، مثال الأخ، في تعلقه ببيوت الله، والمحافظة على صلاة الجماعة فيها، يحب إخوانه المسلمين ويلقاهم بصدر رحب، وحب غامر، ويكرمهم، حتى في حالة الضيق( ويؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة)

وكان كثير التعلق بكتاب الله تعالى، يحفظ كثيراً منه، ويتلوه آناء الليل وأطراف النهار، أحسبه من أهل القرآن.

عرفناه سليم الصدر، لا يحمل حقداً على أحد من المسلمين، طاهر السريرة، نظيف النفس، نحسبه كذلك، والله حسيبه.

رحمك الله أبا أحمد، وأسكنك فسيح جناته، ولعن الله قاتليك، وأذاقهم سوء العذاب، ونصر شعبنا على جلاديه.

ونقول لأهله الكرام: الشهادة شرف الدنيا وفخرها، وعز الآخرة ومجدها( والشهيد يشفع لسبعين من أهل بيته).

فلا نامت أعين الجبناء.

(2)

طلب مني بعض الإخوة على إثر كتابة مقالتي الأولى عن الشهيد أن أعرف بالشهيد أكثر، فتلبية لطلبهم أقول:/

الشهيد بإذن الله تعالى، محمد أحمد الخلف- رحمه الله- من مواليد ابلين/ جبل الزاوية، عام 1953م، من أبوين كريمين طيبين، وتحملت هذه العائلة، من ظلم النظام المجرم، كثيراً من العناء، فوالدته بقيت في سجن المخابرات فترة طويلة، وضربت وجلدت، وذاقت الأمرين، وكانت صابرة محتسبة ذلك في سبيل الله تعالى، وهذه العائلة بما لاقت من قهر ومحنة_ مثل كثير من عائلات الشعب السوري في الثمانينيات_ تؤشر على طبيعة هذا النظام الإجرامية، حيث لا تحترم قيمة، ولا تعرف رائحة لحقوق الإنسان، فقتل واعتقل وجلد ونهب وسلب، وداس على رؤوس الأحرار، من هنا نقول :إن الربيع في سورية بدأ عام ثمانين، من يوم انتفض الشعب السوري على هذا النظام العفن، وطالبوا بالتغيير، لكن الظروف- بما تحيط بها من ملابسات- كانت أكبر من الواقع، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

حصل شهيدنا الحبيب، على درجة الدكتوراه في الجغرافيا، رغم حبه الشديد للغة العربية، والعلوم الشرعية، لكن اجتهاده يقول: سوف نسخر علوم الجغرافيا لخدمة ديننا، لذا كان يتباهى، أنه كان يربط حقائق الجفرافيا، بإعجاز القرآن الكريم، فلا غرو فالرجل محب للدين حباً ملك عليه، كل خلية في جسمه، وكل خلجة من خلجات نفسه.

ففقيدنا من خطباء المساجد، ومجاز بالقرآن الكريم، وقاريء نهم في كتب التفسير والحديث والسيرة والفقه، والفكر الإسلامي، فروح قلبه أن يحاضر أو يخطب أو يذكر، بباب من هذه الأبواب.

عرفت فيه كثيراً من خصائص الخير، وخلال الفضل، وجل الذي لاعيب فيه، وكل واحد من الناس، له وعليه، والعبرة بكثرة الفضائل، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث، لذا قالوا عن العل أنه: من غلب خيره شره.

ومما عرفته عن فقيدنا الفاضل، أنه صادق صدقاً عجباً، فلا يعرف الكذب، بل لا يعرف رائحته، ومفردات المعاريض، لا توجد في قاموس حياته، على الإطلاق، وكم عنى وعانى من حوله، من هذه الخاصية، وكانت تربيته تأبى عليه إلا هذا، ومشهور قوله الدائم: باطل، أنا أكذب؟؟!! والله لو انفردت سالفتي عن رأسي لم ولن أفعل هذا، هذا عندما يطلب منه أن يجامل في موقف، أو يلفلفه بطريقة ما.

ورغم هذا كان مخزن أسرار، إن ائتمنته على سر، فسرك في مكان أمين، وهذا مما جربته فيه، لذا كان من خصائصه الأمانة، فلا يدلس، ولا يغش، ولا يدخل جيبه قرش حرام، بل كان ورعاً ورعاً يذكرك بسلف هذه الأمة، بل لو أمنته على مال الدنيا، فعلى المطلوب سقطت، فأمن ولا تلتفت.

كان محبوباً عند إخوانه، يأنسون به، ويرتاحون لحديثه، ويأمنون مجالسته، وسهرة مع أبي سليم، لها منزلتها الكبيرة في نفوس إخوانه وأحبابه.

كان شجاعاً، قوالاً للحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، من هنا لبى نداء الواجب بالالتحاق بصفوف الخيرين، من أبناء هذا الوطن الحبيب، ليساند الشعب الجريح، ويكون واعظ خير، مذكراً الناس بالصبر والثبات، على رؤوس المنابر، وفي محافل تجمعاتهم، ولما قالوا له: إنك تعمل في المجال هذا فحسب، لم يهن عليه، أن يرى الشبيحة وأزلام النظام ومجرميه، يعيثون في الأرض فساداً، وهو يتفرج بل يقتصر عمله على الوعظ والإرشاد فحسب، فحمل سلاحه مراراً، ليكون في صفوف أبطال هذا البلد الميامين، الذين يدافعون عن العرض والمال والنفس والقيم( ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد).

 وبقي على هذه الحال، حتى لقي ربه، بقناصة قناص، يوم( 29/12/2012)، عند جسر الحامدية، معرة النعمان، رحمه الله، وتقبله شهيداً، وحشره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وفرج عن أبناء هذا الشعب، ما هم فيه، وأسقط هذا النظام بكل رموزه وعناوينه، وعلى رأسهم سفاح العصر، المجرم بشار.