مواقف للشيخ محفوظ النحناح يرحمه الله

خالد أحمد الشنتوت

مواقف للشيخ محفوظ النحناح يرحمه الله

خالد أحمد الشنتوت

من نعم الله عليّ أن عشت في الجزائر خمس سنوات في عقد السبعينات ، استفدت فيها من صحبة إخواني الجزائريين فوائد عظيمة ، ومنها صلتي بالشيخ محفوظ يرحمه الله تعالى .

بعد أن استقر بي المقام في المدينة المنورة كنت ألقاه في كل عام مرة أو مرتين ، وهذه لقطات  من مواقفه وفهمه للحركة الإسلامية يرحمه الله :

1 ـ كان ـ يرحمه الله ـ متواضعاً ليناً لإخوانه ، يصر على زيارة إخوانه من الطلاب الجزائريين في المدينة المنورة ؛ في بيوتهم ، وبيوت الطلاب متواضعة ومتقشفة ، مع ذلك كان يلقاهم في بيوتهم ، ويتحدث لهم ، ويتفقد أحوالهم ، ويشاركهم الطعام والشراب على هذه الحال ، ومن شدة تواضعه كان يصر على أن أسبقه بالحديث قبل أن يتكلم أمامهم ، شـارحاً لهم أدق مواقف الحركة وسياستها وأحوالها .

2 ـ في إحدى زياراته للمدينة المنورة كان الأخ سليمان شنيني مرافقاً له ، وهو الناطق الرسمي للحركة يومذاك ، والأخ سليمان من مدينة ورقلة التي عملت فيها خلال إعارتي للجزائر ، شاب ذكي ومهتم بالحركة والدعوة إلى الله عزوجل . وشرفني يومها الشيخ محفوظ بأن حضر عندي في البيت مع كبار الأخوة السوريين في المدينة المنورة ، وكان موضوع المشـاركـة  السياسية الذي نهجته حركة مجتمع السلم مع حكومة الأمين زروال ، قد أثار انتقادات من  الحركات الإسلامية الجزائرية وغيرها ، على أن النظام يستفيد منهم ويسخرهم لخدمته ، وكان موضوع الحديث عن المشاركة وأهدافها ، وما حققته من فوائد للحركة .

كان الأخ سليمان هو المتحدث طوال المدة ، وقد تحدث بمايلزم موضحاً أهداف الحركة من هذا المبدأ الذي سلكته ، وايجابياته التي تحققت ، والايجابيات المرجوة ، وكان الأخوة السوريون الكبار يوجهون أسئلة إلى الشيخ محفوظ الذي كان يقوم بإعادة السؤال لتوضيحه وتحديده أمام السائل ثم يطلب الجواب من سليمان ، ويبتسم ـ يرحمه الله ـ ويستشهد بقوله تعالى [ وفهمناها سليمان ] ، وكانت أجوبة الأخ سليمان شافية وكافية ، مع ذلك لاحظت أن بعض السائلين كان يتمنى لو كان الجواب من الشيخ محفوظ نفسـه ، لأنه لم يعود نفسـه على أن يتحدث الصغير بحضرة الكبير .

وقد تبين لنا بشكل جلي أنه ـ يرحمه الله ـ كان يقصد أن يربي ويكون الأخ سليمان ليكون واحداً من الكفاءات الكثيرة التي خلفها الشيخ يرحمه الله بعد وفاته ، وقد أكد المؤتمر الثالث للحركة صحة ذلك ، فقد استأنفت الحركة نشاطها وعملها وخطتها في المشاركة السياسية ؛ مع أنها فقدت رجلاً عظيماً من رجالها يرحمه الله .

تبين لنا ذلك ونحن نجد عند بعض الأخوة الدعاة وقادة الحركة الإسلامية إذا حضر في مجلس ما كان هو المتحدث فقط ، والآخرون كلهم تلاميذ ( مريدون ) ولو كانت أعمارهم فوق الخمسين . كما أننا استخلصنا من تاريخ الحركات السياسية ذبولها ، وربما تشرذمها ، بعد وفاة الأخ المؤسس لها ، لأنه لم ينتبه إلى إعداد كفاءات قيادية تخلفه في قيادة الحركة .

وهكذا فقد استوعب الأخ الشيخ محفوظ يرحمه الله هذا الدرس العظيم : ( تربية القادة ) الذي أخفق فيه أخوة آخرون ، ولذلك أتوقع أن تزداد حركة مجتمع السلم قوة كلما حافظت على قيم الشيخ محفوظ يرحمه الله تعالى ، ومنها تربية القادة وتكوين الكفاءات ، والاستمرار في مبدأ المشاركة السياسية وغيرها.

ولابد من الإشارة إلى أن مبدأ المشاركة وليس المغالبة هو المبدأ المعتمد حالياً في جماعة الإخوان المسلمين في الأردن واليمن والجزائر والكويت والسودان وغيرها ، وهو ماتطرحه جماعة الإخوان المسلمين في سوريا ، وقد سبق لها أن مارسته خلال عقد الخمسينات من القرن المنصرم .

3 ـ ترشح الشيخ يرحمه الله لرئاسة الجمهورية منافساً للآمين زروال ، وتعجب كثير من كبار الأخوة الدعاة وقادة الحركات الإسلامية لهذا القرار الذي اتخذته الحركة في الجزائر ، فكيف يحكمون الجزائر وسط هذه العواصف والأمواج المتلاطمة من المحن المحلية والإقليمية والعالمية .

وكان الأخوة السوريون يوجهون لي الأسئلة حول ذلك لمعرفتهم أنني على صلة وثيقة بإخواني الجزائريين ، وجاءني جواب من بعض الأخوة في المكتب الوطني بأن من أهم أهداف هذه المشاركة في انتخابات رئاسة الجمهورية تدريب أبناء الحركة على خوض الانتخابات الرئاسية ، وهي على مستوى الوطن ، ولها خصوصيات لاتكون في انتخابات البلديات أو مجلس الشعب ، وكنت قانعاً بهذا الجواب وهذا التعليل ، خاصة وأني من المهتمين جداً بالتربية السياسية  .

ولما جلست مع الشيخ محفوظ يرحمه الله منفردين سألته :

ـ لقد أثار ترشحكم لرئاسة الجمهورية تساؤلات كثيرة عند إخوانكم السوريين وغيرهم ، ومعظم التساؤلات تتركز حول : ماذا تفعلون لو نجحتم في الانتخابات ؟ كيف تحكمون هذا البلد ؟ وسط ماتعلمون من الفتن ؟ .

قال : ـ يرحمه الله ـ جواباً في غاية الحكمة والوعي السياسي قال : سوف نحكم الجزائر عندئذ بالمشاركة ، فنحن نشارك الآن كأقلية في البرلمان ، وسوف نشارك الآخرين عندما نكون أكثرية ، أو بيدنا رئاسة الجمهورية ، ولن نستأثر بالحكم ونحتكره لحزبنا ، كما يفعل غيرنا ، لأننا نعتقد أن الحكم مغرم وليس مغنماً ، مغرم نوزعـه على الجميع ليحملوه معنا ، ويشاركونا في حمل ذلك العبء ، فنحن طرحنا مبدأ المشاركة الآن ونحن اقلية في البرلمان ، ونطرحه أيضاً إذا كنا أكثرية ، وبالمشاركة نستطيع أن ننهض بالجزائر ، وتزدهر الحركة الإسلامية عندئذ .

ولابد من التنويه بأن الحكومة يومذاك لعبت بالانتخابات لصالح الأمين زروال ، ويعتقد كثير من إخواننا الجزائريين أن الفائز الحقيقي هو الشيخ محفوظ يرحمه الله ، وهنا أيضاً موقف للحركة وللشيخ محفوظ في غاية الوعي السياسي والحكمة ، لم يثيروا ضجة كما أثارها غيرهم ، ولم يدعو إلى إلغاء الانتخابات ، لأنهم يعتقدون أن الحكم مغرم أعفاهم الله من هذا المغرم الآن ، ولن يزيدوا أزمات الجزائر فوق ماتحمله من أزمات ، بل استمروا في موقفهم السلمي  من الحكومة ومشاركتها في تحمل جزء من المغرم ( الحكم ) .

رحمك الله يا شيخنا ،فقد كنت مدرسـة سياسية إسـلامية معاصرة ، أدعو الله أن يجعل ذلك في صحائف أعمالك ، وأن يجزل لك الثواب ، وأدعو الله عزوجل أن يوفق إخوانك الذين ربيتهم وأعددتهم ليخلفوك في مسيرة الحركة ، وأن يعينهم على جمع تراثك السياسي ليستفيد منه العاملون للإسلام في كل مكان .

والحمد لله رب العالمين .