مالك بن نبي في الكويت
أ.د مولود عويمر
لقد سعدتُ كثيرا لما سمعتُ بخبر صدور كتاب "الإعلام بمن زار الكويت من العلماء والأعلام" للدكتور وليد عبد الله المنيس في عام 2011، وحرصت على اقتناء نسخة منه طمعا في إيجاد فصل عن زيارة المفكر مالك بن نبي لهذا البلد العربي في عام 1966؛ غير أن فرحتي لم تكتمل بسبب أنني لم أجد في هذا الكتاب ما كنت أبحث عنه في المقام الأول.
لقد ذكر المؤلف أربعة وتسعين علما من كل الأقطار العربية والإسلامية وليس فيهم علم جزائري واحد رغم أن العديد من العلماء الجزائريين زاروا الكويت مثل الشيخ محمد البشير الإبراهيمي والأستاذ مالك بن نبي. وإذا كان الإبراهيمي قد كتب عن زيارته فإن بن نبي لم يكتب عنها حتى في يومياته التي كان يسجل فيها انطباعاته ومشاهداته.
ومنذ تلك اللحظة التي أصبت فيها بشيء من الخيبة وضعت ضمن مشروعاتي العلمية أن أكتب عن زيارة بن نبي إلى الكويت، ولكن ندرة المادة العلمية صرفتني عن تحقيق هذه الأمنية، وأصدرتُ الطبعة الثانية لكتابي: "مالك بن نبي رجل الحضارة" بعد سنتين (2013) مع إضافة مواضيع عديدة إلا هذا الموضوع الذي عجزت عن إتمامه. لكن مع إصراري على البحث تمكنت من جمع معلومات مفيدة ونصوص مغمورة سأنشرها بحول الله في الطبعة الثالثة لكتابي. كما حفزني كل ذلك على كتابة هذا المقال في ذكرى مرور قرن وعشرة أعوام على ميلاد هذا المفكر العملاق!
مهمة ثقافية
زار مالك بن نبي الكويت في سبتمبر 1966 بصفته مديرا للتعليم العالي لإبرام اتفاقيات في مجال التعليم والثقافة بين هذا البلد والجزائر، واغتنم الفرصة للاطلاع على المشاريع الكويتية في هذين المجالين. فكانت الكويت قد نجحت منذ نهاية الخمسينات في التعريف بنفسها والترويج لحركتها الثقافية والاقتصادية من خلال مجلة "العربي" التي انتشر صيتها بسرعة بعد أن فرضت نفسها بين أشهر المجلات العربية بفضل الإمكانات المالية والكفاءات البشرية التي وفرتها لها الحكومة الكويتية.
وصادفت زيارته استعدادات الكويتيين لتدشين جامعة الكويت التي فتحت أبوابها في أكتوبر 1966. وهنا نتساءل هل ساهم بن نبي في إعطاء توجيهات للمشرفين عليها في مجال التعليم العالي خاصة وأنه كان في تلك الفترة من المسؤولين القلائل على الجامعات العربية التي تعد آنذاك على أصابع اليد الواحدة، ومديرا لأقدم جامعة عصرية في الوطن العربي، وهي جامعة الجزائر التي تأسست في عام 1908؟
وكذلك استقبلته النخبة الكويتية التي تعرفت عليه في القاهرة خلال سنوات دراساتها العليا في الجامعات المصرية، بوصفه مفكرا معروفا في مجال الدراسات الحضارية وليس فقط إطارا ساميا في الدولة الجزائرية، فاستضافته في مراكزها ونواديها الثقافية لتنشيط لقاءات فكرية.
مع الطلبة الجزائريين في ثانوية الشويخ
حرص مالك بن نبي خلال زيارته القصيرة إلى الكويت على الاتصال بالبعثة الطلابية الجزائرية التي كانت تدرس في ثانوية الشويخ ليطلع بنفسه على أحوالها. وهذه المدرسة تأسست في عام 1953، وهي من أشهر الثانويات في العالم العربي تستقبل الطلبة الكويتيين وكذلك الطلبة الأجانب. وهكذا استقبلت البعثة الطلابية الجزائرية التي أرسلتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في عام 1954، متكوّنة من أربعة عشر طالبا، وهم: محمد شريف سيسبان، صديق قشي، الجيلالي حماني، خربيط محمد ناصري، عبد الرحمان الأزعر، أيوب الربيعي، حسن ونوس، صالح تلايلية، الهاشمي قدوري، الأخضر إدريس، عبد العزيز، محمد الصالح باوية، محمد العمري، محمد الشريف جواد.
زار مالك بن نبي هذه الثانوية في عام 1966، وكان يدرس فيها في تلك الفترة مجموعة من الطلبة الجزائريين الذين بعثتهم وزارة التربية الجزائرية، وكان من أنشطهم وأنجبهم الطالب محمد الهادي الحسني الذي مازال يتذكر هذه الزيارة وصداها في الوسط الطلابي بشكل عام والوسط الجزائري بشكل خاص. كانت هذه الزيارة تمثل بالنسبة للطلبة الجزائريين -قبل كل شيء- "رائحة البلاد"، ثم مفخرة لهم يباهون بها الأساتذة والطلبة العرب الذين كانوا يجهلون كثيرا الثقافة الجزائرية، ولا يعرفون عن علمائها ومفكريها إلا النزر القليل.
لقد رأى الطلبة بأعينهم كيف كان يخدمه مدير الثانوية الذي يحرص على فتح باب سيارته بيده ليخرج منها بن نبي. وشاهدوا أيضا كيف كان يودّعه وزير التربية الشيخ خالد المسعود الفهيد ويعتذر له عن عدم قدرته على مرافقته إلى المطار لارتباطات قاهرة، وغيرها من المشاهد التي أقنعت الطالب الحسني وزملاءه بأن لهذا المفكر مكانة رفيعة عند كبار القوم في الكويت!
محاضرة في قاعة سينما الفردوس
كانت الكويت تنظم في كل عام مهرجانا ثقافيا كبيرا تطلق عليه اسم "الموسم الثقافي". وتقام خلاله عدة نشاطات يشارك فيها المثقفون من الكويت ومن خارجها. ومازال الموسم الثقافي قائما إلى يومنا هذا. وتزامن وجود بن نبي مع تنظيم هذا المهرجان فشارك بمحاضرة قدمها في قاعة السينما الفردوس تحدث فيها عن مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي.
وقد نشط هذه الجلسة الفكرية الكاتب زهير محمود الكرمي. وامتلـأت القاعة بالناس وحضر إليها ألمع الأسماء في الساحة الأدبية والسياسية في الكويت، وكان منهم العالم الكويتي عبد الله العقيل الذي خرج بهذا الانطباع بعد سماعه للمفكر الجزائري: " الأستاذ مالك بن نبي طراز فريد من المفكرين الذين يستخدمون العقل في تعضيد ما ورد بالنص ويؤثرون التحليل للمشكلات ودراستها دراسة استيعاب ويطرحون الحلول لمعضلاتها على ضوء التصور الإسلامي، وفي ظل القرآن وهدي السنة." ولقد قامت جامعة الكويت بنشر أعمال الموسم الثقافي لعام 1966 في كتاب عنوانه: " الجامعة والمجتمع".
التواصل مع فكر مالك بن نبي
اتصلت النخبة الكويتية والعربية المقيمة في هذا البلد بمالك بن نبي، كما أرسلت إليه بعض المجلات والصحف محرريها لإجراء حوارات معه واستطلاع رأيه في قضايا الساعة التي كانت تهم العرب والمسلمين. وقد تجاوب معهم بن نبي بالرد على الأسئلة المطروحة.
كما استكتبته مجلة "الوعي الإسلامي" التي كانت تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية فنشر فيها لأول مرة دراسته حول إنتاج المستشرقين باللغة العربية بعد أن قام بترجمته بمساعدة مروان قنواتي. كما أرسل إليها مقالين حول التاريخ، والآخر حول مستقبل المجتمع الإسلامي.
وحرصت إدارة المجلة أيضا على استشارته والاستعانة بخبرته في المقالات التي ترسل إليها حول حياته وفكره. وفي هذا السياق بعث إليه الشيخ عبد المنعم النمر –رئيس تحرير مجلة الوعي الإسلامي آنذاك- مقالا من ثماني صفحات كتبه باحث عراقي حول المفكر الجزائري، لتقييمه قبل نشره في هذه المجلة.
وقد تحفظ بن نبي على المقال لذلك لم تنشره المجلة، بينما نشرت بعد ذلك عدة مقالات عنه بأقلام عربية، وكانت أولها للكاتب المصري الأستاذ أنور الجندي الذي سارع إلى الكتابة عن هذا المفكر الجزائري بعد انتشار خبر وفاته في نهاية أكتوبر 1973. فكان بذلك أول مقالة شاملة تصدر عن مالك بن نبي بعد موته.
وبقيت المجلة وفية لمالك بن نبي تنشر في كل عام دراسات ومقالات تتناول حياته وإنتاجه الفكري، أذكر منها: العالم الإسلامي وشروط النهضة كما يراها مالك بن نبي لمحمد عبد الستار نصار، أثر الأفكار في التغيير الاجتماعي عند مالك بن نبي لمحمد الصالح عزيز، مفهوم الحضارة في القرآن عند مالك بن نبي لغازي التوبة، المرأة في فكر مالك بن نبي لإدريس الكنبوري، نحو تجديد الفهم لمشروع مالك بن نبي لمولاي الخليفة لمشيش، فلسفة الحضارة في التجديد لدى مالك بن نبي لمصطفى محمد طه، مالك بن نبي من هندسة الكهرباء إلى هندسة مشكلات العالم الإسلامي لإبراهيم نويري، مفهوم الثقافة عند مالك بن نبي لمحمد المصباحي، الخ.
تقدير الكويتيين وإعجاب بالكويت
وجد مالك بن نبي حفاوة كبيرة في دولة الكويت، واستقبله أمير البلاد الشيخ صباح السالم الصباح في القصر الملكي، كما قابل العديد من المسؤولين الكبار على التعليم والثقافة في الكويت، واطلع على النهضة العلمية والعمرانية التي انطلقت فيها آنذاك الكويت وأصبحت في ما بعد رائدة في مجالات عديدة.
ولقد سجل مالك بن نبي إعجابه بما سمع وشاهد فعبّر عن ذلك في جوابه عن سؤال وجهه إليه صحفي كويتي، فقال: "لقد وجدت في الكويت كل ما يسر ويملأ النفس رجاء في مستقبل المجتمع العربي الإسلامي، كما شعرت منذ حللت الكويت كأنني في معمل يصنع جانبا كبيرا من تاريخ الأمة الإسلامية."
لقد كانت زيارة مالك بن نبي إلى الكويت رغم قصر مدتها فرصة للتواصل مع النخبة السياسية والفكرية في هذا البلد، وتبادل وجهات النظر حول قضايا هامة وعلى رأسها نهضة العالم العربي. وقد اقتنع بن نبي بأن الكويت سلكت طريقا صحيحا في مجال التطور والتقدم.
وفعلا اهتمت الكويت بنشر المعرفة عن طريق إصدار سلسلة من المجلات العلمية والثقافية النفيسة، وترجمة أهم الكتب والبحوث الراقية إلى اللغة العربية، وتشجيع العلماء باستقطاب أكبر الأدمغة العربية خاصة المصرية والفلسطينية والسورية، والاستثمار في البحث العلمي وتأسيس مركز رائد في هذا المجال، وهي: مؤسسة التقدم العلمي.
وكانت الكويت -بفضل هذه الجهود الهادئة والهادفة- البلد العربي المؤهل لجر عربة التطور العلمي في العالم العربي لكن البيئة العامة في وطننا العربي الغارقة في النزاعات الحقيقية والوهمية والتي استنزفت الثروات وعطلت الطاقات حرمت الكل من الإقلاع الحضاري الذي كان ينشده مالك بن نبي في كتاباته المختلفة، وفي محاضرته التي قدمها في قاعة سنيما الفردوس بالكويت في يوم من الأيام.