الإمام الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين
محمد عبد الله الخطيب
هذا رجل عظيم من رجالات الإسلام، آمن بدعوة الحق، وعاش لها، وأحب من بداية حياته أن يكون داعية إلى الله، وأن يكون من الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا على الطريق بالإيمان والعمل، لقد عرف معنى الاستقامة على الطريق فأخذها بحقها، عرف الاستقامة عليها شعوراً في الضمير، وسلوكاً في الحياة، وصبراً على التكاليف، وعرف في شيخوخته ومرضه معنى النهوض بواجب الدعوة في مواجهة النفوس الملتوية، النفوس المعتزة بما ألفت من قيم هابطة، النفوس المستكبرة على ربها، النفوس التي تألف الضلالات، وتحرص على الانحراف والشهوات، وعلى المراكز والمناصب، فوقف ضد هؤلاء جميعاً، وفضح مواكب الزور والنفاق، وكشف عن سوء أدبهم، وافتراءاتهم، وكذبهم على الله وعلى الناس.
إن النهوض بواجب الدعوة في مواجهة هذه الظروف أمر شاق ومر ولكنه شأن عظيم، وشرف كبير للدعاة، ودليل صدقهم وإخلاصهم وتجردهم لله وحده.
إن الرجل بحق حين تعارضت مصلحة الدين والدنيا، آثر مصلحة الدين على مصالح الدنيا كلها، ومضى على ذلك حتى لقي ربه، لذلك نحسبه من أولياء الله، ومن أنصاره... ومن حزبه المفلحين وجنده العاملين.
وهذه بعض الجوانب عن شيخنا في مراحل حياته من يوم أن جاء إلى الدنيا سنة 1293هـ إلى أن لقي ربه في 13 رجب 1377هـ أربعة وثمانين عاماً، ولد أستاذنا محمد الخضر حسين عام 1293هـ في بلدة نفطة في الوطن التونسي، وأبوه من أسرة شريفة أصلها من الجزائر، وكانت أمه من صالحات النساء، وكان أبوها من أهل العلم والفضل والخلق، وكان خاله محمد المكي من كبار العلماء الصالحين، وهذا هو المنبت الذي جاء منه.
وفي سنة 1305هـ انتقلت أسرة الشيخ من نفطة إلى العاصمة التونسية، وكان إمامنا في الثانية عشرة من حياته، وفي هذه السن المبكرة كان قد تلقى كتاب الله، ومبادئ العلوم الشرعية والعربية، وكان قد تأدب قبل ذلك بآداب الإسلام، فلما نزلوا تونس التحق بجامعها الأعظم "جامع الزيتونة" وأخذ ينتقل في مراحل التعليم وحوالي سنة 1321هـ حصل على الشهادة العالمية من "جامع الزيتونة" وما لبث أن أصدر مجلة "السعادة العظمى" وأخذ يساهم في النهضة العلمية والأدبية.
وفي سنة 1324هـ تولى قضاء مدينة بنزرت ومنطقتها، وأخذ يهتم بقضايا المجتمع، فألقى محاضرة بعنوان "الحرية في الإسلام" وكشف عن حبه للحرية، وفهمه الصحيح لدعوة الله، ورسالة الإسلام الذي جاء لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
غير أن ولايته للقضاء لم تطل خاصة وأنه ينادي بالإسلام وسيادة النظم الإسلامية، في بلد محتل، يملأ ساحته الاستعمار الملعون، لذلك رأينا شيخنا يعود إلى التدريس في جامعة الزيتونة، ثم ألقى محاضرة ثانية في نادي الجمعية الخلدونية بتونس عن "حياة اللغة العربية" تحدث فيها عن جمال لغة القرآن وعظمتها وفصاحة مفرداتها وتعدد أساليبها، وارتقاء مستواها وخلودها، ثم قارن بين العامية والفصحى.
وفي سنة 1329هـ وجهت إليه تهمة بث روح العداء للغرب ولاسيما فرنسا، فترك تونس وسافر إلى الأستانة، بحجة زيارة خاله، ثم عاد إلى تونس فوجد العواصف ما تزال كما كانت، فقرر الهجرة نهائياً، واتجه إلى دمشق ماراً بمصر، والتقى بعلمائها الشيخ طاهر الجزائري، وأحمد تيمور باشا، والشيخ رشيد رضا، والسيد محب الدين الخطيب.. ثم وصل دمشق وعين مدرساً للغة العربية في مدرسة السلطانية بدمشق، وفي تلك الفترة أصيب بخيبة أمل بين ما رآه في الواقع، وما كان يريده، فنظم قصيدة تحت عنوان "بكاء على مجد ضائع" يقول فيها:
أدمى فؤادي أن الـ=أقلام ترسف في قيود
فهجرت قوماً كنت في=أنظارهم بيت القصيد
وحسبت هذا الشرق لم=يبرح على عهد الرشيد
فإذا المجال كأنه=من ضيقه خلق الوليد
ثم استقر به المقام في مصر وأخذ يشتغل بالكتابة والدرس، وألف رسالته "الخيال في الشعر العربي" ثم التحق بدار الكتب المصرية، ثم تجنس بالجنسية المصرية، وتقدم للامتحان في الأزهر، وأصبح من أعظم أساتذة الأزهر.
وفي سنة 1344هـ ظهر كتاب "الإسلام وأصول الحكم" وأهدى المؤلف الشيخ علي عبد الرزاق نسخة إلى الشيخ، فراعه من الكتاب أنه ينكر كون الإسلام دين حكم ونظام حياة، فكتب الشيخ على الفور نقداً للكتاب فقرة فقرة، وأصدر كتاباً بعنوان: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم" وأصدر أيضاً كتاباً فضح فيه كتاب الشعر الجاهلي.. وبين ما فيه من باطل، وسمى الكتاب "نقض كتاب في الشعر الجاهلي".
وفي سنة 1346هـ أسس مع آخرين المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين، وكان على رأس المؤسسين الإمام الشهيد حسن البنا – رحمه الله - والعالم الفاضل الأستاذ محب الدين الخطيب – رحمه الله - والعلامة أحمد تيمور باشا، وقد عبئت في هذا الوقت العصيب كل الشخصيات الإسلامية الغيورة على دين الله من شباب وكهول، بسبب سعي الإمام الشهيد عند العلماء وعند الحريصين على الإسلام، فكان تأسيس تلك الجمعية يومها بداية للعمل الإسلامي، ونقطة تحول بين تيارات الإلحاد والعلمانية، وبداية قيام كيان مرموق للإسلام في وادي النيل.
كما أنشأ مع آخرين جمعية الهداية الإسلامية، وأصدرت مجلة الهداية، وأصدرت جمعية الشبان المسلمين مجلة أيضاً للدفاع عن الإسلام على أثر الهجمة الصليبية والصهيونية على الإسلام بعد إلغاء الخلافة، وفي نفس العام 1349هـ صدرت أيضاً مجلة الأزهر وتولى الشيخ محمد الخضر رئاسة تحريرها، وواصل – رحمه الله - التدريس بكلية أصول الدين على طريقة العلماء الأقدمين في التحقيق والبحث، كما واصل الليالي في محاضرة الشباب بدار جمعية الهداية الإسلامية.
وجمع الكثير من هذه المحاضرات في كتابه "رسائل الإصلاح" الذي طبع في ثلاثة أجزاء.
واشترك في مجمع اللغة العربية، وله فيه بحوث وعطاء، ودفاع عن اللغة العربية، لغة القرآن، وله فيها بيان لأسرارها وجواهرها، وحين صدرت مجلة لواء الإسلام عهد إليه برئاسة تحريرها، وفي سنة 1370هـ نال عضوية "هيئة كبار العلماء" مشيخة الجامع الأزهر.
وفي يوم الثلاثاء 26 من ذي الحجة 1371هـ الموافق 16 سبتمبر 1952 توجه إلى منزل الشيخ في شارع خيرت بعض من عرفوا فضله، وعرضوا عليه مشيخة الأزهر، وقبلها على الفور، لأن في ذهنه للأزهر مكانة ورسالة يتمنى لو استطاع أن يحقق جانباً منها، فهو الذي يحمل أمانة الإسلام.
وظل في مشيخة الأزهر يرد على كل من يسيء للإسلام ويفند مزاعمه بالحجة والبرهان، وبالحوار الجاد المصحوب بالدليل.
فضاق به الذين اختاروه لمواقفه الجادة الصادقة، فقالوا له إن صحتك لا تحتمل العمل، فقال لهم وقد أدرك ما يبيتون: إن صحتي الآن أفضل بكثير من يوم أن اخترت شيخاً للأزهر، وهنا بدأ التلويح بأمر آخر، ألا وهو قطع الراتب، فقال: أنا لا أحرص على المال ولست من هذا النوع "إن كوباً واحداً من اللبن يكفيني طوال اليوم".
ولكن كان لابد من ترك هذا المكان، فعاد إلى منزله يواصل درسه وكتاباته.
وفي يوم 13 رجب 1377هـ اختاره الله إليه وهو على عهده الأول وحرصه كأمثاله من المجاهدين أن يكون من الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، فنحسبه إن شاء الله كان أهلاً وجديراً من الذين تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون.
وفي ظهر اليوم التالي صلي عليه بعد الفريضة في الجامع الأزهر، وودعه العلماء والأبرار من هذه الأمة، وبلغ النعش "باب الخلق" والموكب متصل فيما بينه وبين الأزهر، ودفن بجوار صديقه الغيور على الإسلام العالم أحمد تيمور باشا بوصية منه.
رحم الله الجميع وتقبل صالحي المسلمين وتغمدهم برحمته – اللهم آمين.