الداعية مصطفى مشهور

د. عصام العريان

ولد جيلنا والشيخ مصطفى مشهور يرحمه الله على أبواب السجن أو من سجن إلى سجن، وعشنا فترة الطفولة والمراهقة وبداية الشباب ولم نلتق به إذ غيبته الزنازين، ولكن إذا سألت أحداً من جيل السبعينيات في مصر عن أكثر من تأثر بهم فستجد أن في مقدمة القائمة مصطفى مشهور، ذلك الرجل الزاهد البعيد عن الأضواء العابد الرباني ذو الإرادة الحديدية والعزم الماضي والقدرة الإدارية الكبيرة والقلب الكبير الذي يستوعب الجميع.

كنا سبعة من الشباب، منا من تخرج في الجامعة أو كاد، نبحث عن الطريق السليم لخدمة الإسلام بعد أن أصبحنا على أبواب الحياة العملية، وستضعف صلتنا بالجامعة التي نشأنا بها (القاهرة) وعرفنا طريق الإسلام واتخذنا قرار العمل للدعوة الإسلامية وربط مصيرنا بها.

طرقنا أبواب الإخوان الخارجين من السجون بعد أن اقتنعنا بصواب منهجهم وسلامة طريقهم وبعد أن رفضنا الاتجاهات الأخرى التي سارعت لدعوتنا أو محاولة اختراق صفوفنا (التكفير والهجرة القطبيون أو التوقف والتبين ، اتجاهات العنف.. الخ).

قادتنا محاولاتنا في النهاية إلى باب "الحاج" مصطفى مشهور (كما أحببنا تسميته)، والظاهر أنه كان مكلفاً بملف الشباب أو بما كان يحب تسميته "توريث الدعوة" ذلك بعد أن مرت بنا الدروب عبر الإسكندرية ثم الأستاذ كمال السنانيري رحمه الله وآخرين كانوا نزلاء عنبر المعتقلين بمستشفى قصر العيني الجامعي، واستقرت بنا الأمور مع أحد قيادات تنظيم 1965 الأقرب في السن إلينا وصحبته للمرة الأولى إلى منزل "الحاج" في شارع إسلام المتفرع من شارع التبر في منطقة حمامات القبة في شمال القاهرة، وهو المنزل الذي سكنه مشهور قبل دخول السجن، وعاد إليه بعد الإفراج عنه وظل قاطناً فيه حتى تأثرت أساساته بالزلزال الشهير في أكتوبر 1992م، فانتقل منه إلى منزل آخر بالقرب منه في شارع جسر السويس، وكان يسكن الدور الأخير، يصعد إليه بسلم مرتفع وكان صعوده يرهق الشباب.

كانت الملفات التي أمسك بها الشيخ مصطفى مشهور بعد خروجه من السجن والاعتقال كثيرة ومتنوعة، لكن أهمها وأخطرها كانت ثلاثة ملفات:

- إعادة البناء التنظيمي في مصر.

- توريث الدعوة للشباب.

- بناء وإحياء التنظيم الدولي للإخوان.

ولم تتزامن المهام الثلاث، فقد كان أولها وأهمها عقب الإفراج في بداية السبعينيات بناء ولم شمل الإخوان من جديد، والظاهر أن المرشد الثاني الأستاذ حسن الهضيبي كلف بهذه المهمة لجنة من الأوفياء الثابتين خاصة من كوادر النظام الخاص الذين أخلصوا للدعوة ولم يتمردوا على القيادة، وكان من أبرزهم: الحاج حسني عبد الباقي المليجي، الدكتور أحمد الملط والأستاذ كمال السنانيري والحاج مصطفى مشهور، رحمهم الله جميعاً ومعهم الحاج أحمد حسنين شفاه الله، ويعاونهم كثيرون في المحافظات ويسترشدون بأعضاء مكتب الإرشاد الذين ثبتوا في المحن المتتالية ولم يهنوا أو يضعفوا وعلى رأسهم الأستاذ عمر التلمساني، والسيد محمد حامد أبو النصر. وهنا تجلت قدرات مشهور في جانبين مهمين هما:

1- البناء الفكري وتوضيح مفاهيم الجماعة خاصة بعد الالتباس الذي حدث حول قضية التكفير وصدور البحث الذي أعد داخل السجن في كتاب "دعاة لا قضاة"، وكان الباب الثابت الذي يكتبه في مجلة الدعوة التي صدرت في منتصف السبعينيات ثم في مجلة "لواء الإسلام" طوال الثمانينيات بعد توقف "الدعوة" يتناول قضايا الدعوة والتربية والتنظيم، وكان محل اهتمام وعناية الإخوان يتدارسونه في لقاءاتهم بجانب الافتتاحية التي كان يتناول فيها الأستاذ عمر التلمساني القضايا العامة السياسية والدعوية.

2-  أما الجانب الآخر فكان يتعلق بالبناء التنظيمي الإداري وقد تجلت قدرات مشهور فيها، إذ كان ذا مكانة تؤهله لجمع الشمل، وذا قلب كبير يجمع الناس حوله، وصاحب قدرة على الإقناع والوصول إلى الحلول الوسط التي تجعل الزمن جزءاً من العلاج كما كان يردد دائماً.

أظن أن دور مصطفى مشهور في إعادة بناء جماعة الإخوان لا يقل أهمية عن دور الإمام الشهيد حسن البنا في تأسيسها، فلم أر شخصاً استطاع أن يجوب مدن وقرى مصر بل وبلاد العالم المختلفة (نظراً لاختلاف العصر وسهولة الاتصالات والمواصلات) مثل مشهور، لقد ترك أثراً في كل قرية ومدينة في مصر بين محبيه وعارفي فضله، وذلك لتواضعه ودماثة خلقه ورحابة صدره وربانيته وزهده الكبير.

لقد صاحبته داخل مصر وخارجها في الكثير من سفره ولقاءاته منذ أول مرة رأيته فيها، وكان ذلك تقريباً عام 1975م وأنا طالب في نهاية المرحلة الجامعية على سطح أحد المنازل بالجيزة في "وليمة عقيقة" ابن أحد الإخوة، وقدموه ليتحدث فكان سلس الحديث يقتبس كثيراً من رسائل البنا ويربط الفكرة بالمناسبة التي دُعي إليها، وفي إحدى المرات لم أجد وسيلة للانتقال إلى موعد مضروب لنا وكان عليّ اصطحابه، فركب بكل تواضع خلفي على "فسبا" (دراجة بخارية) كنت اقتنيتها عقب تخرجي مباشرة دون تململ وهو قد جاوز الستين.

وصحبته في أول رحلة معه إلى الخارج إلى (فرنسا) عام 1981م وكانت عقب أحداث الزاوية الحمراء الشهيرة المعروفة بالفتنة الطائفية، وكنت حضرت لقاء وزير الداخلية آنذاك النبوي إسماعيل مع قيادات العمل الإسلامي ممثلاً لشباب الجامعات مع الشيخ عمر التلمساني يرحمه الله، وصادف أن كان في حقيبتي أوراق ومنشورات تتعلق بالحدث الخطير الذي نجحنا في وأد فتنته وإطفاء النار التي كادت تحرق القاهرة عبر مؤتمرات ولقاءات وبيانات ومنشورات للتهدئة، وعند التفتيش عثر ضابط الأمن على تلك الأوراق فحجزنا هو وأنا وتأخرت الطائرة لمدة ساعة ونصف الساعة عن الإقلاع، حتى يجري الضابط اتصالاته بوزارة الداخلية ويعود إلينا معتذراً ومودعاً.

ولم يكن منه لي لوم ولا عتاب فضلاً عن التقريع أو التوبيخ، واكتفى بالقول إنه درس عملي بعدم حمل مثل هذه الأوراق التي تثير ريبة السلطات خاصة عند السفر والتعرض للتفتيش.

وفي سفري معه كنت أتعب من كثرة اللقاءات والمواعيد ولا يتعب هو، وأصاب بالإرهاق بينما لا يشكو هو أبداً، وحين يراني أغالب النوم يدعوني للذهاب إلى الفراش لأتركه مع زواره وإخوانه إلى قبيل الفجر ليرتاح قليلاً جداً ثم يكون أول المستيقظين بعد ساعات نوم قليلة، ليصلي ركعات قبيل أن يؤذن للفجر.

كانت ذاكرته جيدة حتى شهور قليلة قبل مرضه الأخير. يلتقي العشرات والمئات من مختلف البلاد والأقطار ليناقش معهم قضايا ومشكلات الدعوة والعمل فيتابع كل الملفات بهمة ونشاط ويحسم الأمور ويقضي في المنازعات في حب وود وإخاء.

وإذا كانت عملية البناء الداخلي في مصر قد ساهم فيها عظام آخرون إلى جانب مشهور إلا أن دوره الرئيس كان في التعامل مع ملف الشباب، وكما ذكرت كانت كل الطرق والأبواب التي نطرقها تؤدي في النهاية إلى جلسة مع الحاج مصطفى مشهور الذي استطاع أن يستوعب هذه الجموع الهائلة التي تأثرت خلال السبعينيات بأفكار شتى ونزعت منازع مختلفة، فيؤلف بين قلوبها ويوحد صفوفها ويبني منها لبنات صالحات لتتربى في محاضن الدعوة المختلفة حتى وصلت الآن إلى تولي مسؤوليات كبيرة في جميع هيئات الجماعة وصولاً إلى المواقع القيادية الكبرى.

لذلك كانت مكانته بين الشباب كبيرة، وكانوا يعرفونه أكثر من بقية القيادات وحتى لا يسبب ذلك حساسية لدى المرشديْن اللذين سبقاه، كان يحرص دائماً على أن يعرّف الشباب إلى الأستاذ عمر التلمساني ثم انتقل بمكتبه إلى غرفة المرشد الرابع محمد حامد أبو النصر، أما هما من جانبهما فكانا لا يحسمان أمراً يتعلق بالأجيال الشابة إلا في وجوده أو بمعرفته .

لقد حضرت معه عشرات اللقاءات لمتابعة أنشطة الجامعات فكان إلى جانب تواضعه حريصاً على الاستماع لرأي الشباب وتعويدهم على الشورى وإبداء ملاحظاتهم بل واستنطاقهم أحياناً وكان ينزل على آرائهم، ويستجيب لحماسهم وهو الشيخ الوقور.

وظل كذلك إلى نهاية حياته يرحمه الله بل أذكر أنه جمع بعض مقالات وكتب الذين انتقدوا الإخوان وقدموا نصائح لهم وأمرنا بدراستها لاستخلاص الدروس منها والتوصية بما يمكن تطبيقه من نصائح وملاحظات لتصويب العمل وتصحيح المسيرة.

عندما ظهرت بوادر وإرهاصات أحداث سبتمبر 1981 كُلف مشهور بالترقب والانتظار في الخارج وعدم الإسراع بالعودة حتى تتكشف الأمور، ومع تداعيات الأحداث عاش حوالي خمس سنوات متنقلاً بين أوروبا والكويت وأمريكا، فكانت فرصة كبيرة لتوثيق الروابط وإعادة بناء وتأهيل الإخوان في الخارج سواء المصريون خارج مصر أو إخوان البلاد العربية الأخرى التي سهل عليها لقاء "أبو هاني" وهي الكنية التي عُرف واشتُهر بها خارج مصر. حيث لم يتعود الإخوان المصريون على ندائه بها.

جال مصطفى مشهور معظم دول أوروبا وولايات أمريكا محاضراً ومربياً ومنظماً ومديراً، مما قوّى الروابط بين مختلف الإخوان من مختلف الأقطار فكان له دور لا يُنكر ولا يُبارى في بناء هذا البنيان الذي يفخر به الإخوان وينتشر في أكثر من ستين قطراً ينهجون نهج الإخوان ويترسمون خطى مدرسة العمل الإخوانية الوسطية المعتدلة.

وعاد بعدها إلى القاهرة عقب مرض الموت الذي ألمّ بالتلمساني وكان هو المرشح الأبرز لخلافته، ومع ذلك استجاب لنصح إخوانه خاصة الحاج حسني المليجي عليه رحمة الله بأن يبقى الرجل الثاني، وأن يتولى موقع الإرشاد السيد محمد حامد أبو النصر الذي أتى من وسط الصعيد والذي قضى عشرين سنة متصلة في السجن، وكان عضواً بمكتب إرشاد الجماعة مع حسن البنا والهضيبي.

ولتواضع الرجل وزهده وإخلاصه (نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً) كان أول من بايع المرشد الرابع وظل إلى جواره مؤيداً ومعيناً وناصحاً، يتحمل كل الأعباء والتكاليف دون ملل أو تعب، فضرب بذلك المثل والقدوة للجميع في البذل والعطاء دون نظر إلى الموقع أو المكانة.

لم يعش مصطفى مشهور وسط أبنائه الأربعة (المهندس مشهور والأخوات وفاء وسمية وسلوى) إلا قليلاً، اختطفته السجون منهم شاباً ورجلاً في مقتبل الحياة، وخرج منها لا لينعم في ظل أسرة وفية، قامت زوجته وابنة عمه فيها بالدور الرئيس في التربية والتنشئة، بل ليحمل أعباءً ضخاماً في بناء هذا الكيان العظيم الذي نتشرف بالانتساب إليه والذي يرمقه الجميع بإعجاب أو بحسد، ويدهش الكثيرون لحجم انتشاره وقوة تأثيره، ومع ذلك كانت رسائل مصطفى مشهور من السجون إلى أولاده تحمل المعاني التربوية التي تعينهم على مواجهة الحياة، ونشّأ أولاده جميعاً في رحاب الإسلام وتزوجت بناته وحفيداته من رجالات وشباب الدعوة.