الإمام محمد عبده (شاعراً)
الإمام محمد عبده (شاعراً)
محمد عبد الشافي القوصي
إذا شبّهنا الأفغاني ب(سقراط)! كان تلميذه محمد عبده بمثابة (أرسطو) الذي جسّد تعاليمه كلمات ومواقف! وحاول جهده أن يزيل العناكب التي أخفتْ العرق المتين في الذهب الوهّاج!
يقول عباس العقاد في كتابه (محمد عبده عبقري الاصلاح والتعليم): إنه أكبر العقول بعد أبي حامد الغزالي!
وقال عنه الأديب الكبير/ محمد كُرد علي: "حضرتُ دروس (الإمام) في الرواق العباسي بالأزهر، ومجلسه الخاص في داره في عين شمس .. وسمعتُ بعض خطبه في الجمعية الخيرية، فكنتُ أقول: سبحان الله، سبحان من خصه من بين معاصريه ببلاغة اللسان، وبلاغة القلم. وما حضرتُ له درساً ولا مجلساً ولا خطبة؛ إلاَّ وتمنيتُ أن يطول لقاؤه أكثر مما طال، وودتُ أن أكون كلي آذاناً تسمع، وقلوباً تعي وتفهم".
وقال عنه مصطفى المنفلوطي: "كان أعظم هيبةً من الملوك، لأنّ هؤلاء يحيطون أنفسهم بالديوان والمواكب، أمَّا الشيخ فكنتَ تراه حيث رأيته كالمحراب، حيث يكون لا يقف عنده إلاَّ من وقف ليخشع .. إنه رجل لمْ يُخلَق من قبل زمنه، لأن الأقدار المصرفة دخرته للقرن الرابع عشر، تجعله وأصحابه أهل النهضة الثالثة في الإسلام .. ولستُ أدري على أيّ روح نبتَ هذا الرجل، ولكن الذي أعرفه أنه حين أثمر فنضج فحلا، أذاق الناس من ثمره طعم معجزة الفكر العربي"!
وقد لفتتْ شخصية (الإمام) الفذة، وأعماله الجليلة، وأفكاره الإصلاحية الرائعة أنظار العلماء والشعراء إليه، فراحوا ينهلون من علومه، ويتتلمذون على يديه، ومن هؤلاء التلاميذ: سعد زغلول، وعبد الله النديم، ورشيد رضا، وعباس العقاد، وشاعر النيل حافظ إبراهيم، وغيرهم. ولمّا مات (الإمام) سلام الله عليه- فاضت قرائح الكتاب والشعراء، فرثاه "شاعر النيل" في قصيدة عصماء شهيرة، استهلها بقوله:
سلامٌ على الإسلام بعد مُحمّدٍ |
|
سلامٌ على أيامهِ النضراتِ |
وقد بلغ إعجاب حافظ إبراهيم؛ بأستاذه الإمام- مبلغه، لدرجة أنه نهى عن صنع تمثال يخلّد ذكراه، خشية أن يُفتتَنَ الناس بجماله وهيبته، فيعبدوه! فقال:
فلا تنصبوا للناس تمثال (عبدِه) |
|
وإنْ كان ذكرى حِكمةٍ وثباتِ |
كما رثاه تلميذه الشاعر الصعيدي/ إمام العبد- في قصيدة شجية، بعنوان (فداك) قال فيها:
فداكَ أبي لو يُفتدى الحرُّ بالعبدِ |
|
لأنَّ حياة الآل بعدك لا تُجدي |
يُعدّ "الإمام محمد عبده" واحدًا من أبرز المجددين في الفقه الإسلامي في العصر الحديث، وأحد دعاة الإصلاح وأعلام النهضة العربية الإسلامية الحديثة؛ فقد ساهم بعلمه ووعيه واجتهاده في تحرير العقل العربي من الجمود الذي أصابه لعدة قرون، كما شارك في إيقاظ وعي الأمة نحو التحرر، وبعث الوطنية، وإحياء الاجتهاد الفقهي لمواكبة التطورات السريعة في العلم، ومسايرة حركة المجتمع وتطوره في مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والثقافيةة.
ومن أهم إصلاحاته: إصلاح المحاكم الشرعية، وإصلاح مناهج التعليم، وإصلاح الأزهر، والرد على خصوم الإسلام، وتفسير القرآن بلغة العصر، ونشر الكتب والمؤلفات. كما عمل على تنظيم مدرسة يتخرج فيها قضاة الشريعة ومحاموها، ودعا إلى تأسيس جامعة مصرية حديثة، وعمل على إصلاح الأزهر وتحديث مناهج الدراسة به، واتخذ من صحيفة الوقائع المصرية منبرًا لمحاربة الفساد والدعوة إلى الإصلاح. كما مارس الفلسفة منهجًا فكريًا، والتصوف منهجًا سلوكيًا. ومن مؤلفاته: رسالة التوحيد، والإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، وشرح مقامات البديع الهمذاني، والإسلام والرد على منتقديه، وشرح نهج البلاغة، والرد على الدهريين، وتفسير القرآن الكريم، والرد على هانوتو.
الحق أقولل؛ إنني منذ أن قرأتُ ما كتبه العقاد عنه؛ لمْ اتمالك نفسي من فرط الاعجاب بهذا المصلِح الكبير .. وأعلنتُ أنه من تسوّل له نفسه المساس بشخصية (الامام) فسأجعله نكالاً، وعبرةً للعالمين!
وكان من حسن حظي؛ أنني جمعتُ ديوان الإمام/ محمد عبده- فوجدتُ أشعاره ترجمةً لفكره وجهوده الإصلاحية والدعوة إلى التجديد، وفي مطولته عن الثورة العرابية تزيد على مائة بيت، تبدأ بالتعبير عن همومه الذاتية ومعاناته في طلب العلم، ومكابدة مشاق الحياة، ويشير فيها إشارات سريعة لمصاعب خاصة وظلم وقع عليه، ثم يثني بذكر جهاده ضد الظلم، وجهاده من أجل الإصلاح والعلم والعدل والاستقلال، والعمل من أجل المصلحة العامة، ثم تحكي قصة الثورة العرابية، وتصوير سوء أحوال المجتمع، وصراعه ضد الفساد والظلم والجهل. وله أبيات قالها على فراش الموت يدعو فيها الله أن يجعل الشيخ "رشيد رضا" خلفًا له في الإصلاح ورفع راية الإسلام، وتكشف عن انشغال فكره وروحه بالإسلام وقضايا العلم حتى لحظاته الأخيرة.
يقول في قصيدة (الثورة العرابية):
أبيتُ ليلي كملسوعٍ تُساوره |
|
زُرْقُ الأفاعي وقد شُدَّتْ أياديهِ |
عندما كان على فراش الموت؛ أوصى الإمام/ محمد عبده تلاميذه وحوارييه- بهذه الوصية المنظومة شِعراً، بعنوان (أُمنية) يقول فيها:
ولستُ أبالي أن يُقالَ محمدٌ |
|
أبلَّ أمِ اكتظَّتْ عليه المآتمُ |
أخيراً؛ سلامٌ سلامٌ على (الامام) يوم مولده، ويوم موته .. ويوم يُبعثُ حيًّا !