ابن العديم الحلبي
ابن العديم الحلبي
الوزير، المؤرخ الأديب الشاعر
د. أحمد فوزي الهيب
هو الصاحب كمال الدين عمر بن أحمد، ينتهي نسبه إلى أبي جرادة عامر بن أبي ربيعة العقيلي، وقد ولد في حلب الشهباء سنة 580 هـ في بيت مشهور، فيه الأدباء والشعراء والفقهاء والعباد والزهاد والقضاة، ثم أخذ من علماء حلب ودمشق وبغداد الأدب فأتقنه، ودرس عليهم الفقه فأحسن، ونظم القريض فجوده، وأنشأ النثر فزينه، وقرأ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وعرف علله ورجاله وتأويله وفروقه وأصوله، وهو في كل هذا –مثل اسمه- كمال في كل فضيلة، لم يعتن بشيء إلا وكان فيه بارزاً، ولا تعاطى أمراً إلا وجاء فيه مبرراً، فقد كان عديم النظير فضلاً ونبلاً وذكاء ودهاء ومنظراً ورواء وجلالة ومهابة، وترسل إلى الخليفة والملوك مراراً كثيرة، وكانت له الوجاهة العظيمة عند الخلفاء والملوك، وهو مع ذلك كثير التواضع لين الجانب حسن الملتقى والبشر بسائر الناس، أرسله الملك الناصر الأيوبي ملك حلب إلى الخليفة العباسي فأكرم إكراماً كثيراً، حتى قيل له: نحن نعظم الرسل لأجل مرسليهم، ونحن نعظم مرسلك لأجلك، وفي سفاراته إلى مصر أحاط به الشعراء ومدحه كثير منهم، مثل البهاء زهير، وأبي الحسين الجزار الذي رجاه أن يخاطب فيه السلطان الأيوبي لعله يحظى عنده، وابن المرصص، وأيدمر المسمى بعد ذلك إبراهيم الصوفي الذي حمل إليه شعره ليقومه.
لم يشغل ابن العديم عن التأليف على الرغم من حياته الحافلة بالسفارات والتنقل والأعمال الكثيرة، فقد كان إذا سافر ركب في محفة تحمله بين بغلين يجلس فيها ويكتب، لذلك خلف كتباً كثيرة جليلة أعظمها كتاب: "بغية الطلب في تاريخ حلب" وقد توفي ابن العديم وبعضه مسودة ولو كمل تبييضه لكان أربعين مجلداً.
واختصر هذا الكتاب الكبير في كتاب: "زبدة الحلب في تاريخ حلب"، وكذلك له كتاب: "الأخبار المستفادة في ذكر بني أبي جرادة" وغير ذلك كثير.
اقترب الغزو المغولي من حلب سنة 658 فنزح ابن العديم إلى مصر مع من نزح، وبعدما انكسر التتار أمام جيش المماليك بقيادة الملك المظفر قطز في عين جالوت واستطاع المماليك أن يحرروا دمشق وحلب ويستأصلوا شأفة التتار ببسالة وشجاعة، رجع ابن العديم إلى حلب فوجدها خراباً بعدما كانت عليه من عمارة وازدهار وغنى وقوة فرثاها رثاء فيه الكثير من الحرقة والألم ولم يستطع المكوث فيها فرجع إلى القاهرة ليقضي فيها بقية عمره حزيناً غريباً، ولم يطل به المقام، ولم تمهله الأحزان فسرعان ما توفي عام 660 هـ ودفن بظاهرها.
كان ابن العديم شاعراً مطبوعاً صادقاً، نلمس ذلك فيما وصل إلينا من شعره في كتب التراجم، ولو وصل إلينا ديوانه كاملاً لكان الحكم أدق وأشمل، ولا شك في أنه طرق أبواب الشعر جميعها ونظم فيها وحلق إلى حيث أقرانه من شعراء العصر، إن لم نقل: إنه فاق الكثيرين منهم.
ولقد احتل الفخر مكانة مرموقة في شعره لأنه كان ينتمي إلى أسرة ذات نسب ورفعة، واتسم فخره بالصدق والواقعية، إذ جاء بعيداً عن الحماسة والحرب والقتال، لأن أجداده لم يكونوا من أرباب السيوف والرماح، وإنما كانوا قضاة أتقياء وخطباء فصحاء وكتاباً بلغاء، فافتخر بهم وبمناقبهم التي عرفهم الجميع بها من غير تهويل أو مبالغة أو إضافة، فقال:
سألزم نفسي الصفح عن كل من جنى=علي، وأعفو حسبة وتكرما
وأجعل مالي دون عرضي وقاية=ولو لم يغادر ذاك عندي درهما
وأسلك آثار الألى اكتسبوا العلا=وحازوا خلال الخير ممن تقدما
أولئك قومي المنعمون ذوو النهى=بنو عامر فاسأل بهم كي تعلما
إذا ما دعوا عند النوائب إن دجت=أناروا بكف الخطب ما كان أظلما
وإن جلسوا في مجلس الحكم خلتهم=بدور ظلام والخلائق أنجما
وإن هم ترقوا منبراً لخطابة=فأفصح من يوماً بوعظ تكلما
وإن أخذوا أقلامهم لكتابة=فأحسن من وشى الطروس ونمنما
دعاؤهم يجلو الشدائد إن عرت=وينزل قطر الماء من أفق السما
أبى اللؤم لي أصل كريم وأسرة=عقيلية سنوا الندى والتكرما
وابن العديم أب حنون رؤوف تجمعه مع أولاده رابطة الصداقة فضلاً عن القرابة، ومن البديهي أن يؤجج البعد والفراق ما في قلب ابن العديم من حب وشوق وحنين نحو ابنه فيسيل ذلك شعراً سامياً رائقاً يمثل أرقى المشاعر الإنسانية وأنبلها، قال:
هذا كتابي إلى من غاب عن نظري=وشخصه في سويدا القلب والبصر
ولا يمن بطيف منه يطرقني=عند المنام ويأتيني على قدر
ولا كتاب له يأتي فأسمع من=أنبائه عنه فيه أطيب الخبر
حتى الشمال التي تسري على حلب=ضنت علي فلم تخطر ولم تسر
أخصه بتحياتي وأخبره=إني سئمت من الترحال والسفر
وليس لي أرب في غير رؤيته=وذاك عندي أقصى السؤل والوطر
كما تجلت مشاعره الأصيلة الإنسانية الصادقة أيضاً في رثائه لمدينته حلب الشهباء، بعد أن أحرقها التتار بوحشية قل أن نجد لها مثيلاً في التاريخ قديمه وحديثه، وتركوها تسبح في دماء أهلها وجثثهم التي ملأت الشوارع حتى تعذر السير، الأمر الذي أحزن ابن العديم حزناً شديداً منعه من الإقامة فيها فعاد إلى مصر ثانية ليغالب أحزانه وآلامه، ولكنها سرعان ما غلبته فخر صريعاً غريباً.
وإننا لنلمح في رثائه لحلب المنكوبة رنة حزن عميق تسبل على أبياته سواداً وظلاماً وبخاصة عندما يصف جيوش المغول المتوحشة وفعالهم المشينة، وحين يخاطب حلب ويسألها ويرثيها بدموعه وبكائه ونواحه، قال:
غداة أتاها للمنية بغتة=من المغل جيش كالسحاب عرمرم
أتوها كأمواج البحار زواخراً=ببيض وسمر والقتام مخيم
وقد درست تلك المدارس وارتمت=مصاحفها فوق الثرى وهي ضحم
وكل مهاة قد أهينت سبية=وقد طالما كنت تعز وتكرم
فيا حلبا أنى ربوعك أقفرت=وأعيت جواباً فهي لا تتكلم
وأين شموس كن بالأمس طلقا=فأين استقلوا بالركاب ويمموا
فها أنا ذو وجد يجن بأضلعي=عليك وعيشي في البلاد يذمم
أنوح على أهليك في كل منزل=وأبكي الدجى شوقاً وأسأل عنهم
إنها زفرات ودموع وقطرات دم من قلب تفطر ألما بعد أن أضاع الوطن والأهل والأحبة في آن واحد.