في وداع الأستاذ عبد الصمد العشاب
في وداع الأستاذ عبد الصمد العشاب
أبو الخير الناصري
1 / ما أكثر ما ننشغل عن الموت بشؤون الحياة ! وما أكثر ما يقرع الموت أسماعنا وأبوابنا ليذكرنا بحضوره وقدرته على انتشالنا، ولو لحظات قصيرة، من دوامة الحياة اللاهية الفاتنة!
هكذا، وأنا أستعد صبيحة يوم السبت 10/ 03/2012م للقيام بجولة في أنحاء المدينة، فاجأني نبأ وفاة الصديق الأستاذ عبد الصمد العشاب منشورا على صفحات الفيسبوك.
أذهلني الخبر أول الأمر، وبقيت لحظة في حالة شرود قبل أن أتصل ببعض الأصدقاء للاستيقان. كنت قد تابعت منذ أيام أخبارا عن موت بعض أهل الفن وتكذيبها، ووددت أن أسمع تكذيبا هذا اليوم. بيد أن من اتصلت بهم من الأصدقاء أكدوا لي صحة النبإ الأليم. عندئذ احتلت مخيلتي صورة الراحل، وشرعت أستعد للسفر إلى عروس الشمال قصد المشاركة في تشييع الجنازة.
2 / في الطريق إلى طنجة انشغلت عن الحوارات داخل سيارة الأجرة بشريط ذكرياتي عن الرجل. بدا لي شريطا جميلا بريئا مليئا بالمحبة، تبرز في مقاطعه كلها صورة الأستاذ العشاب مشرقة بابتسامته البهية التي تنساب في الأعماق انسياب الماء العذب الزلال.
كنت قد عرفته أول مرة من خلال أحاديثه الإذاعية التي خصصها للتعريف بأعلام شمال المغرب. كما عرفته من خلال مقالاته التي قرأتها على صفحات جريدة العلم، ثم على صفحات " الشمال " التي بقي، منذ صدورها، واحدا من أبرز كتابها الأوفياء، وأتحف قراءها بكثير من المقالات والأبحاث والدراسات.
وفي أوائل شهر يناير 2009 بعثت إليه برسالة ونسخة من كتابي " تصويبات لغوية في الفصحى والعامية "، لأفاجأ بعد أيام برسالة منه خطية هي أولى رسائله إلي وفاتحة لباب الصداقة بيننا. ولكم أخجلني برسالته تلك المؤرخة ب 22/ 01/ 2009 وهو يختمها بقوله : «... وأود أن تقبلوني صديقا لكم. وأجدد شكري على الهدية العلمية الجميلة ».. كانت كلمات تعكس مقدار ما استقر في نفس مرسلها من تواضع، وكرم، واحتفاء بمن يمد إليه يد الصداقة من الكتاب والأدباء.
ولقد امتد حبل الصداقة بيننا بلقاءاتنا المتكررة في رحاب مكتبة سيدي عبد الله كنون حيث كنت أتردد عليها لزيارتها وزيارة مديرها الأستاذ العشاب.
وسواء في إشرافه على مكتبة العلامة كنون ورسائله إلي وكتاباته المنشورة ظل الأستاذ العشاب، كما عرفته، رجل الأخلاق الرفيعة والأدب الجميل. ولا أذكر عنه إلا أنه كان بشوشا، طيبا، لطيفا، مرحبا، كريما، ساعيا في تقديم المساعدة لطلاب العلم والمعرفة.
أما رسائله إلي فأظنها كرسائله الكثيرة إلى غيري من أصدقائه من الكتاب والباحثين، إن كانت تكشف سعي الرجل الحثيث نحو التواصل والانفتاح على الآخرين، فإنها، إلى ذلك، شرفة نطل منها على جملة من شمائله الكريمة. وحينما أخلو إلى رسائله تتراءى لي معالم من صورة الأستاذ عبد الصمد العشاب إنسانا ومثقفا مغربيا أصيلا، من مناقبه الرائعة محبة التواصل، والتواضع مع سعة الاطلاع، وغيرة كبيرة على لغة الضاد، وكره للمجاملات الزائفة التي تكرس السطحية في الكتابة والتفكير، ورغبة في إصلاح أوضاع الثقافة ببلادنا ... ومن كلماته الجميلة الدالة التي استوقفتني كثيرا قوله في إحدى رسائله :
- الحديث عن العربية الفصحى أو العامية، هو مما تتسابق الأحداث وتراكمات أوساخ الاستعمار القديم على طمس معالمه والسعي في تهميشه. وقد عرفنا بل وعشنا هذا التهميش والإحساس بالخجل من الحديث عن العربية بصفتها لغة الدين الإسلامي حتى انتهى بنا الحال اليوم أن نعيش طغيان لغة المستعمر في المدارس والجامعات والإدارات والنوادي والمهرجانات الرسمية منها وغير الرسمية.
وقوله في رسالة أخرى :
- عندما يغيب النقد النزيه تنحدر الثقافة إلى الدرك الأسفل وتطغى المجاملات وتلك هي الكارثة ...
3 / في طنجة، وعند مدخل مقبرة المجاهدين، كانت ذاكرتي ما تزال ترتحل جهة شريط لقاءاتي بالراحل العزيز. ولم يرجعني بقوة للواقع سوى القولة الحكيمة " الموت هو الحقيقة. بل هو الحقيقة الوحيدة في وجودنا هذا " وهي تتردد على لسان صديقي وأستاذي العزيز الدكتور أحمد هاشم الريسوني أطال الله عمره. وتذكرت أن خير ما قد ينفع فقيدنا الراحل هو أن ندعو له : فاللهم اغفر لصديقنا عبد الصمد العشاب. اللهم اشمله برحمتك الواسعة. اللهم بارك له في حسناته وتجاوز عن سيئاته. اللهم احشره في عبادك الصالحين. اللهم ارزق أهله وأحبابه وأصدقاءه الصبر الجميل. آمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.