ثم أسلم الروح للحبيب...
ثم أسلم الروح للحبيب...
د. علاء الدين آل رشي
لن أتحدث عن السيرة الذاتية للشيخ الفقيد الغالي ( 1925م - 2012م) فقد تعودت واعتاد قرائي أيضاً أن أسلك مسلك التعريف بالفكرة أكثر من السرد التقليدي للسير، وأن أؤكد على المسيرة الفكرية وتطوراتها أكثر من السيرة الشخصية وتحولاتها، ولن أكون أيضاً على طريقة الشيرازي عندما قال " لعل الملائكة في السماء تشبهه، وإلا فإنه لن يكون على الأرض بشر بحسن صورته، قسماً بالمحبة إن الصحبة حرام بعده لأن أي نطفة لن تكون آدمياً مثله".
إن رحم الإسلام ولود ودود وقادر على إنجاب العظماء، ولكننا نريد عظماء كما قال عنهم الشيرازي "إن أبصرت كائناً يتحرك عرفت أنه حي، ولكنك لا تعرف من ذلك أنه ممتلئ العقل حتى تظهر منه حركات موزونة، وحتى يجعل نحاس الحركة بالعرفان ذهباً" كان شيخي العلامة المرحوم عبد الرزاق الحلبي يمثل هذا الصنف النادر من العلماء الربانيين.
تعرفت على مولانا الشيخ عبد الرزاق الحلبي عام 1986م عن طريق أستاذي الدكتور عبد القادر بركات أحد أحفاد العلامة الشيخ سعيد البرهاني يرحمه الله تعالى، وبدأت أحفظ القرآن وأجوده عليه بعد صلاة الفجر في المسجد الأموي، وقد كان غير متشدد في التسميع بخلاف شيخنا محمد سكر الذي أبقاني شهراً ونصف الشهر أسمع عليه فقط سورة الفاتحة .
وحرصت على ملازمة درسه الصباحي الذي كان يعلم فيه أمهات الكتب التراثية، وكذلك درسه بعد صلاة المغرب رضوان الله عليه.
ما لفت نظري وأنا ابن الثانية عشر من العمر آنذاك، الشكل المهيب لهذا الشيخ من حيث لباسه وتصرفاته...
حتى إن والدي يرحمه الله كان يجله ويقدره، مع أن السيد الوالد كان شحيحاً في عواطفه تجاه بعض رجال الدين .
يأسر الشيخ المحيط بأناقته، ولطفه، ولباقته، ودعابته، ومع أنه كان حاضر البسمة الرقيقة إلا أنها كانت مشروطة بالالتزام التام بالوقار (على خلاف بعض الشيوخ الذين اعتادوا المزاح بالنكت غير الأخلاقية)، ومع أنه كان باسم المحيا، رقيق الفؤاد، حاضر الدمعة إلا أنه لا يعصر عينيه عصراً كما يقوم بعض ممثلي الوعظ الديني اليوم من البكاء على ما يدعو إلى ذلك وما لا يدعو .
الميزة الرئيسة للشيخ الراحل عبد الرزاق بعده عن التكلف، وكذلك عن التعالي، وميله إلى التربية العلمية العملية لمحيطه ومقربيه، ويلحظ كل من عاشره موافقة قوله لعمله وعلمه ولم يكن زيه العلمي رداء تنكرياً، بل هيبة وشارة على العلم وفضله ...
قال فقيه لابنه: إنه لا يؤثر فيك شيء من أقوال المتكلمين المزوقة اللطيفة فقال : لأني لا أرى لهم عملاً موافقاً قولاً، ولم يكن الشيخ من ذلك الصنف الرديء يعلمون الناس ترك الدنيا، وهم أنفسهم يجمعون الفضة والغلة.
إن العالم الذي له كلام فحسب, كل ما يقوله لا يؤثر في أحد. العالم الذي يشبع رغباته ويربي جسمه هو نفسه ضال فمن يهدي؟. وكل من "ينصح غيره بغرور فهو نفسه إلى النصيحة أحوج" ولم يسمن الشيخ إلى آخر حياته مبتعداً وبعيداً عن الشهوة بكل صورها لأنها بداية الكبر والحقد، ورسوخ الشهوة ينشأ من الاعتياد عليها.
عرف الشيخ سكب الله عليه الرحمة والرضوان بشدة عنايته بكتب فقه المذهب الحنفي، والاطلاع على القرائح العلمية والمسالك الفقهية، والولع الشديد بالقراءة على خلاف كثير من شيوخ اليوم الذين لا يقرؤون وإذا قرؤوا لا يفهمون وقد انحنى ظهره رضي الله عنه في أواخر عمره لهامة العلم ليس إلا .
وكذلك شاع عن الشيخ احترامه لمفهوم التدين من غير شطط أو تشدد فلم تصدر عنه أي مشاركة تكفيرية وكان رحمه الله تعالى على صحة عقلية وتحرز من التعجل وعلى تثبت نقلي واضح.
والحلبي الدمشقي، سهل العبارة، مفهوم الفكرة بعيد كل البعد عن التقعر، والتشدق، والتفيهق، يقرأ الكتاب للتعليم ويتحدث بالكلام من أجل التفهيم فالنبأ يأتي على قدر المستمع، وعلى قوام السيد يفصل الخياط القباء .
كان فضيلة الشيخ يرحمه الله من أولئك الرجال الذين آمنوا بأن العقل في نتاجه المعرفي وتجلياته، لا في شهاداته التي تزين الجدران وتفرغ من المضامين ولعله في هذا على مذهب شيخه الراحل العلامة صالح الفرفور وكذلك كان على مذهبهم الفيلسوف الكبير عباس محمود العقاد يرحمه الله.
وعلى الرغم من تواضع الإمام الحلبي في شهاداته العلمية الرسمية ( شهادة الابتدائية فقط ) - وبخلاف من تزي بحلة العلم واشترى الشهادة من علماء هذا الزمان - إلا أن شيخ الأموي كان غنياً بمعرفته الشرعية الأصيلة، متبحراً في العلوم التقليدية وأدواتها، متخصصاً في المذهب الحنفي، وعلى الرغم من أن البعض كان يأخذ عليه تمسكه بالمذهب الحنفي وعدم الخروج عليه إلا أني أرى أن لكل مذهب شيوخاً يمثلون الفتوى في المذهب وأعتقد أن الشيخ عبد الرزاق عمدة وشيخ الفتوى على المذهب الحنفي في دمشق .
وأذكر أني مرة كنت أستفتيه في مسألة طلاق لأحد أقاربي، فقال لي: المذهب عندنا كذا، وأرى أن تذهب إلى الشيخ أحمد الشامي لعله يجد لك مخرجاً.
كان الرجل وقوراً وله فراسة المؤمن التقي، فقد زرته مرة بصحبة بنات شقيقتي الكبرى السيدة رائدة وأعلمته باسم البنت الكبرى رنا فتابع قائلاًَ: وكيف "حال هنا " وهي الشقيقة الصغرى "لرنا " دون أن أعرفه بعد على اسمها وهذه من ولايته وفراسته رضي الله تعالى عنه .
وكان من جميل تصرفاته: "علو الهمة " حيث كان يلفت نظرنا أنه يمشي هرولة في المسجد الأموي وهو المسن في العمر سكب الله عليه الرحمة .
تعلمت من شيخنا الفاضل الجانب الجمالي في الإسلام فقد كان من أصحاب القناعة والسكينة و الصلاح شهد بذلك حتى من اختلف عنه في المدرسة والدراسة فقد سمعت من شيخنا المحدث العلامة عبد القادر الأرناؤوط مديحاً واحتراماً ملحوظاً له .
وأذكر أني كنت أدون بعض ما أسمعه منه...
وكان يتمثل رضي الله عنه حكم ابن عطاء السكندري والشيرازي "لم يبق حاتم الطائي، ولكن بقي اسمه الرفيع مشهوراً بالخير والإحسان إلى الأبد" وأن "الإمامة في الدين لا تنال إلا بالصبر واليقين" إن صبر القمر على ظلمة الليل يجعله مضيئاً وصبر الورد على الشوك يجعله مسكاً أذفر .
وكنا نستمع إليه وإلى أقاصيصه الشامية النادرة أقاصيص جديرة بأن تكون برسم التداول والإعلان:
"كان سائل مغربي يقول فيصف البزازين بحلب: أي أرباب النعمة ! لو كان لكم إنصاف وكانت لنا قناعة لزال من الدنيا رسم السؤال".
لاحظني قد تعبت نفسياً وتغيرت حالي على فراق والدي فقال لي لا تبث الأعداء غمك فيحوقلوا فرحين.
وتذكر أن " ركن الصبر اختيار لقمان فكل من لا صبر له لا حكمة له ". "إذا أردت ميراث أبيك فتعلم علم أبيك لأن مال أبيك هذا يمكن إنفاقه في يوم واحد".
وعندما استنصحته في الزواج قال لي فيما معناه " لو العود الأخضر كما تريد فاليابس لا يستقيم بغير النار ثم ابتسم وهو يمشي قائلاً : يبدو لكل إنسان عقله كاملاً وولده جميلاًَ" " وإذا لم يلائمك خلق زوجك فلا تتخل أنت عن خلقك الطيب".
رحم الله شيخنا الفاضل وعوض الأمة بخير منه وأعاد الله للإسلام حماته العلماء العاملين .