الشيخ محمد أبو زهرة... الفقيه الشجاع الجرىء
الشيخ محمد أبو زهرة...
الفقيه الشجاع الجرىء
أبو الحسن الجمّال
حديثنا اليوم عن رجل عرف عنه الشجاعة فى قول الحق مهما كلفه هذا من عناء وهو الفقيه الملتزم المجدد ، كتب فى الفقه كتباً جديرة بالذكر جعلته فى مكانة مع كبار الفقهاء والعلماء فى تاريخ الفقه الإسلامى، كما كتب عن رجاله أيضاً ثمانية مجلدات تتبع فيها حياتهم وخطوات تجديدهم واجتهادهم ... إنه الإمام العلامة الكبير محمد أبى زهرة ، الذى ولد بالمحلة الكبرى فى السادس من ذى القعدة 1315(الموافق 29 مارس 1898م)، حفظ القرآن في إحدى كتاتيب بلدته، وكذلك حفظ المتون ومبادىء الحساب ، ثم انتقل إلى المسجد الأحمدى بطنطا لاستكمال تعليمه، وبعد ثلاث سنوات في المسجد الأحمدى، انتقل إلى مدرسة القضاء الشرعى سنة 1335 هـ / 1916م حيث درس فيها ثمان سنوات، وتلقى فيها العلم على ثلة من كبار الأساتذة فى ذلك الوقت منهم الشيخ محمد الخضرى، والشيخ فرج السنهورى والأستاذ أحمد أمين، والأستاذ عاطف بركات ناظر المدرسة، تعلم فيها العلوم الشرعية واللغوية والتاريخ والعلوم الحديثة، وكان مكباً على تحصيل العلوم نهماً لا يشبع ابداً، ثم تخرج سنة (1343 هـ / 1924م) ، وحصل على عالمية القضاء الشرعى، ولم يكتف بذلك وطمح إلى دراسة اللغة العربية ، فاتجه إلى دار العلوم لينال الشهادة المعادلة سنة 1927، فاجتمع له تخصصان قويان، لابد منهما لمن يريد التضلع فى علوم الإسلام.
عقب تخرجه عمل الرجل فى أكثر خلال عمر حياته المديد، فتدرج في الوظائف من مدرس للعربية في المدارس الثانوية إلى تدريس فن الخطابة والجدل في كلية أصول الدين، فالقى محاضرات ممتازة فى أصول الخطابة ، وتحدث عن خطباء العصر القديم، متنقلاً إلى خطباء العصر الالعربية فى عصورها المختلفة ، وكتب فى الخطابة مؤلفاً كان الأول من نوعه فى اللغة العربية حيث لم تخص الخطابة قبله بكتاب مستقل، وقد ذاع فضل المؤلف فاختارته كلية الحقوقلتدريس الخطابة بها ونلاحظ أن خريجو هذه الفترة كانوا يتمتعون ببيان أٍسر، حيث كانت مادة الخطابة الأدبية أصلاً من أصول التدريس، ثم إليه نفس الكلية بتدريس الشريعة الإسلامية وتدرج من رئاسة قسم الشريعة الإسلامية ، ثم منصب الوكالة حتى أحيل للتقاعد سنة 1378 هـ / 1958م. اختير عضو في مجمع البحوث الإسلامية سنة (1382 هـ / 1962م) بعد صدور قانون الازهر.
كتب الأستاذ أبوزهرة عن الفقه ورجاله كتباً مؤسِسة فى هذا المجال الدقيق من العلوم الإسلامية، ومازالت هذا المؤلفات هى الرائدة للباحثين، إذ لم يكتب مؤلفاته إلا بعد أن وضح له الطريق، فقد اتجه فى تأليفه التشريعى تاريخاً وفقهاً وجهتين محددتين، إذ أشار غلى أن دراسة علم من العلوم ذات شعبتين ، شعبة تدرس الأطوار التى مرت عليها نظريات العلم، فتأتى بالقواعد والأحكام متسلسلة فى تطورها الزمنى، مصورة معرفة البيئات التى احتضنت هذه النظريات ، وحاجات العصر التى دفعت إليها من تجدد أحداث ، واختلاف أمكنة وملابسات، أما الشعبة الثانية فهى دراسة أصحاب النظريات الفقهية ، دراسة تحليلية ، يبين فيها الدارس وجهة نظر الفقيه المدروس، وما ابتكره من أراء قائمة على الأصول المعتمدة، ومقدار الأثر الذى تركه فى ذلك العلم، والمناهج التى سلكها والغايات التى يرمى إليها ، والنتائج التى وصل إليها .. هذا الرجل الفقيه الذى كتب عن الفقه والفقهاء أعظم الآثار فى العصر الحديث إذ كتب عن أئمة الفقه لأن مؤرخ الفقهاء لابد أن يكون فقيهاً مارس الفروع وعرف الأصول فكتب ثمانية أعلام ثمانية مجلدات هم أبو حنيفة، والشافعى، ومالك ، وابن حنبل، وابن تيمية، وابن حزم، وزيد بن على ، وجعفر الصادق ، كما أن له كتباً أخرى زادت على 30كتاباً منها : "تاريخ المذاهب الإسلامية"، و"العقوبه في الفقه الإسلامي"، و"الجريمة في الفقه الإسلامي"، و"علم أصول الفقه"،و"محاضرات في النصرانية"، و"زهرة التفاسير"، و"مقارنة الأديان".
اشتهر الشيخ "أبوزهرة" بالفكر الحر والشجاعة الفائقة في عرض قضايا الإسلام، وقد صدع بالحق فى مواقف كثيرة ‘إذ استدعاه يوماً حاكماً مستبداً ، لا يقوى على الرأى الآخر، وقد زج هذا المستبد بالمخلصين فى غياهب السجون وشرد البعض، وعزل البعض الآخر عن تولى المناصب، ومنهم أستاذنا أبى زهرة ، قال له : "إنك إقطاعى رجعى تألف الكتب وتتاجر بها"، فكان الرد الحاسم من الشيخ :"هى مؤلفات كتبتها لله ، ولم تفرض على أحد ، ولم تتول الدولة توزيعها قهراً على المكتبات ودور الثقافة الحكومية لتسجن فى الرفوف دون قارىء، وليكسب أصحابها من مال الدولة مالا يحله الله " فبهت الذى ظلم وأدعى، لأنه كان فى مغرب حكمه بعد أن ابتلى بهزيمة نكراء.
وقع خلاف حاد بين الشيخ ونفس هذا الحاكم حول ما ذهب إليه الميثاق في شأن "الاشتراكية العلمية"، ورأي الشيخ فيها "المبادئ الشيوعية"، وكان خلاف آخر قد وقع حول مشروع القانون ١٠٣ لسنة ١٩٦١ الخاص بإعادة تنظيم الأزهر والهيئات التابعة له. وقال الشيخ: إنه ليس ضد أي إصلاح، ولكن الأزهر صانع الثوار والثورات.. هل من المنطق أن يدبر أمره في ليلة واحدة؟ وسرد عدداً من عهود الإصلاح وأشار إلي عهد الإصلاح الذي ابتدأه الإمام الشيخ محمد عبده وغيره وإلي ما اقترحه أحمد فتحي زغلول من إدخال دروس الرياضة والجغرافيا ولكن بكميات قليلة، ثم أرسي الشيخ مقولته وهي أن "كل إصلاح للأزهر يجب أن يكون مشتقاً من رسالته"، ومن ثم رأي أن يقوم الأزهر بتثقيف الأطباء والمهندسين بالثقافة الدينية، واقتراح أن يلتحق الحاصلون علي المؤهلات العليا من الجامعات وغيرها بالأزهر، وتوضع لهم مناهج خاصة لتثقيفهم دينياً، ولم ير الشيخ إنشاء كليات للطب والهندسة والعلوم... وصدرت قرارات مختلفة بحرمانه من التدريس في الجامعة، وإلقاء الأحاديث العامة وأغلقت أمامه أبواب التليفزيون والإذاعة والصحف، وانتهي بهم الأمر إلي أن قيدوا حريته في بيته، وحدث أن شارك في مناقشة رسالة دكتوراه في جامعة الأزهر للمرحوم الدكتور حسن صبري الخولي عن المسألة الفلسطينية وبصراحة الشيخ المعهودة فيه قال: "إن الرسالة عبارة عن بعض التقارير الخاصة برئاسة الجمهورية، وإن الطالب لم يكلف نفسه حتي بجهد ترتيب الصفحات أو حتي إصلاح الأخطاء اللغوية الفادحة"، وهمس أحدهم في أذن الشيخ بأن الطالب هو الممثل الشخصي لرئيس الجمهورية، فصاح أبوزهرة: "متحدث رسمي .. ممثل شخصي .. تلك مسميات في مكتب رئيس الجمهورية لا دخل لنا بها".
قال عنه الشيخ الباقوري: «مع اختلافي في الرأي مع الإمام أبوزهرة فإنني وأنا وزير للأوفاق، عندما استشكل علي موضوع فقهي واحتجت فيه إلي الفتوي لم ألجأ إلا للإمام أبوزهرة وعلي الفور يجيب لنا ومن الذاكرة علي الفتوي، ذاكراً المصادر التي استند إليها وبيان أوجه الاختلاف، بالإضافة إلي تأجيل كل ما يذكر، وبحق كان العلم يتدفق منه».
وظل أبوزهرة متمسكاً بكل آرائه الدينية والاجتماعية والسياسية إلي أن رحل في ١١ أبريل سنة ١٩٧٤م. رحم الله الشيخ محمد أبوزهرة الغاضب لما يعتقد أنه الحق ...