أسد القوقاز وبطل حرب التحرير القفقاسية
الإمام شامل..
محمد سيد بركة
المخططات الرامية للقضاء على الإسلام والمسلمين تنفذ في كل مكان من أرض الإسلام وهي تتخذ شكلا تذويبيا احتوائيا في البلاد التي يشكل فيها المسلمون أقلية بالنسبة لباقي السكان وهو ما يحدث منذ فترة في كثير من بلدان آسيا الوسطى التي كانت تعج بالإسلام والمسلمين والعلماء الذين قدموا الكثير للإسلام والمسلمين ..
والشيخ شامل أحد أبطال الإسلام الذين قادوا الكفاح والجهاد ضد الاحتلال الروسي في منطقة القوقاز ، ويعد الشيخ شامل أسد القوقاز وبطل داغستان القومي الأول .وهو مجاهد من المجاهدين العظام في زمن اشتدت فيه حاجتنا إلى المجاهدين العظماء، تعرض للشهادة في مواطنها، وأبى إلا أن يغترف من كأسها الطاهر المطهر؛ لكنه مات على فراشه بعد ملحمة طويلة، ومعارك جليلة أذاق فيها الروس القياصرة الذل والهوان، وهزمهم مراراً، هذا وروسيا آنذاك من القوى العالمية في الطبقة الأولى، وكانت في أوج عنفوانها وغطرستها، قد هزمت نابليون وتقدمت حتى دخلت باريس سنة 1816م .
وقد كتب الأديب التركي سلجوق قللي أول رواية تاريخية إسلامية تصور جهاد الداغستانيين بقيادة الإمام شامل ضد الروس المعتدين تحت عنوان صقور القوقاز .. رواية فيها تصوير لأثر الإسلام ونضارته في المجتمع. تحكي قصة بطولة وتضحية وفداء.. قصة الإمام الشيخ شامل أسد القوقاز .. صقر الجبال الذي دوخ روسيا العنصرية وتصدى لظلمها وجبروتها وجيشها وخاض معارك شرسة بثلة من الرجال.. صقور القوقاز، وحقق انتصارات شاملة مؤزرة صعقت بتخطيطها أرقى العقول العسكرية وأعظم القواد الروس الذين كانوا ينهزمون ويجرون أذيال الخيبة والفشل. وقدم ترجمة عربية بديعة لها الدكتور محمد حرب المتخصص في الدراسات العثمانية وبحوث العالم التركي ..
بلاد الشيشان مطمع الروس
في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي كانت الشيشان وداغستان وباقي الأراضي بين البحر الأسود وقزوين تداعب مخيلة القيصر الروسي إيفان الثالث، فاتفق مع قبائل القوزاق الموالية للدولة الروسية الوليدة بالغزو التدريجي لأراضي المسلمين في إقليم القوقاز. وأدى القوزاق المهمة بنجاح، فأقاموا أول مخفر أمامي على نهر تيرك، وصار هذا المخفر مدينة جروزني العاصمة الشيشانية فيما بعد. وخلال حكم إيفان الرابع -منتصف القرن السادس عشر الميلادي - قام القوزاق ببناء مجموعة من الحصون في شمال داغستان والشيشان، عاقدين تحالفات مع بعض شعوب الإقليم. ومع بداية القرن الثامن عشر كانت آلاف الأسر القوزاقية قد تجمعت في الإقليم، وامتزجت مع القبائل المحلية، وتزوجوا منهم.
وخلال حكم بطرس الأكبر وفي عام 1722م وقع أول صدام بين القوات الروسية والشيشانيين الذين كسبوا المعركة أمام قوة فتية مستكشفة. وسرعان ما تنتظم صفوف المقاومة تحت زعامة الإمام منصور (ولد في عام 1732م) الذي استطاع بفهمه العميق للقرآن أن يحول شيوخ القبائل إلى الإسلام، ونظم جماعات أطلق عليها اسم المريدين لمواجهة التوغل الروسي في القوقاز. وحقق مجموعة من الانتصارات حتى أوقع به الروس ومات في الأَسر سنة 1794 م ، غير أن المسرح الشيشاني لم يهدأ بعد موت الإمام منصور إلا لعقدين من الزمان، بعدها كان "الغازي مولا" قائدا لتلك الجماعات يكمل طريق الجهاد وتحرير الأرض المسلمة من دنس الروس المغتصبين .
في عام 1829 بدأ"الغازي مولا " في تحريك شعوب الجبال نحو حرب مقدسة لمواجهة روسيا، واشتهر بقدرته في التأثير على جنوده بسحر الكلمة وبلاغتها. كما قطع شوطا كبيرا في إرسال الدعاة من داغستان إلى سكان الجبال الشيشانية لتحويلهم من الوثنية إلى الإسلام.
وأمام تماسك قوة جماعة المريدين اتخذ الروس أسلوب حرق الدور على ساكنيها كي يجبروا المقاومين على الخروج. وشنوا هجوما واسعا إلى أن "الغازي مولا " سقط في معركة غمري بين جثث آلاف المريدين. وفى معركة غمري لم ينجُ إلا القليل، وتمكن اثنان منهم من الفرار، كان أحدهما شامل الذي كان قد أصيب إصابة قاتلة.
وبعد استشهاد " الغازي مولا" وجرح شامل اختير حمزة بيه من قبل المريدين قائدا بعد تزكية من كبار الشيوخ. وأفنى حمزة العامين التاليين في ترتيب الصفوف وتدعيم قوة الجيش، إلا أنه لقي الهزيمة، ثم اغتاله العملاء وهو يؤم المصلين في المسجد الجامع بمعقل المقاومة في هونزا بداغستان.
الإمام شامل والجهاد ضد الروس
حمل الإمام شامل راية الدعوة والجهاد بعد اغتيال الإمام حمزة في جامع (خونزاخ) ، فلمّا تولّى قيادة المريدين برز كإداري ممتاز، وقائد فذ بصير بالجهاد، يحمل مؤهلات القائد البارزة، ويجمع في نفسه عقل عالم الدين العالم، ورجل السياسة .
ولد الشيخ شامل ولد في 21/8 /1797م في قرية كيمرة من مديرية خوانزاخ وهي قرية زراعية مشهورة بجودة فواكهها، تلقى العلوم الشرعية في صباه على يد العالم المتبحر سعيد الهركاني وصحب منذ صغره الشيخ المجاهد محمد الكمراوي ـ وهو أول من قاد الثورة ضد الروس ـ، في رحلته العلمية وعكف معه على العلم والعبادة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعندما قامت الثورة المباركة ضد الروس، كان شامل الذراع اليمنى لمحمد الكمراوي وبعد استشهاد الكمراوي صار هو القائد العام للثورة.
لقد حجّ الشيخ شامل الى مكّة المكرّمة في عام 1828م وهناك قابل الأمير عبد القادر الجزائري والذي اخذ عنه اساليب حرب العصابات. وعندما عاد من الحج شرع الشيخ شامل في بناء دولة إسلامية قوية في الداغستان وقام بالقضاء على العملاء والخونة من أهل القوقاز الموالين للروس، وضم الشيشان مع داغستان، وقام ببناء جيش نظامي قوي بلغ تعداده ستين ألف مقاتل، وبنى مصانع للذخيرة والمدافع، واهتم بنشر العلوم الشرعية بين أبناء القوقاز، ونظمَّ القضاء والأمور الإدارية.
وقاد الشيخ شامل المريدين الذين اقسموا على الموت دفاعا عن مقر قيادة المريدين (أشيلطا) حيث نودي به إماماً، وعندما أحكم الروس بقيادة (فيسي) سنة 1837 حصارها قام بالاشتراك مع تاشو حاجي، وكيبيت محمد بفك الحصار واشترك في قتال يائس ضد الحملة الروسيّة، وتمركز بألفين من قواته في مواقع حصينة، واشتبكوا مع الروس بالسلاح الأبيض، إلا أن القوات الروسيّة تمكنت من الاستيلاء على (أشيلطا) وإحراقها بعد مجزرة رهيبة، واضطر القائد الروسي إلى مهادنته .وعندما شاهد (أشيلطا) وقد تهدّم مسجدها وخرّبت بساتينها وكرومها قال: حسناً يجب أن يرى هؤلاء القوم سفّاكو الدماء، الذين لم يبقوا على أسير، ولم يبقوا على حياة أحد، والذين دمّروا بيت الله، وخرّبوا المحاصيل النامية، وأنزلوا جام غضبهم على فاكهة الأرض، أن النهاية لم تحن بعد . ثم انتقل إلى (اخولخو) وقام بتحصينها، وجعلها ملجأ آمناً، ومعقلاً دفاعياً جبليا، وأعاد بسط سلطته على القبائل .
عهد الشريعة
وجّه الشيخ شامل عنايته في البداية لإعداد المحاربين، وأنشأ بيت المال وفق نصوص الشريعة، وعيّن الجباة والقضاة، وجعل للمتطوعين نصيباً معلوماً من الغنائم، وخصّ بيت المال بالخمس تطبيقاً لأحكام الله في الغنائم، وأنشأ حكومةً وطنيةً في الداغستان، بسط سلطانها على معظم البلاد، ونفّذ فيها أحكام الشريعة الإسلاميّة، وعني بالنواحي العمرانيّة والمدنيّة، وحافظ على الأمن والنظام، وأقام الحدود ونفّذ الأحكام.
وعندما أراد الأمبراطور (نقولا) زيارة القفقاس في خريف 1837، دعي لمقابلة الإمبراطور والاعتذار إليه، ولكنه رفض بإصرار، وقال في رسالة إلى القائد العام الروسي (فيسي): قرّرت في النهاية أن لا أذهب إلى تفليس حتى ولو مزّقت إرباً بسبب رفضي، لأنني كثيراً ما خبرت غدركم الذي يعرفه كافّة البشر .
وقضى ربع قرن في مقاومة الغزو القيصري الروسي دفاعاً عن استقلال بلاده، ثم حارب البلاشفة الروس إثر تنازل الفرس والترك عنها، واستسلام الأمراء، وكانت الراية التي قاتل تحتها مع أصحابه هي راية الإسلام .
وأخذت الحرب طابع الجهاد ضد الكفّار، وكانت حركة المريدين وعلماؤها يذكّون لهيب الثورة، ويجنّدون الناس للجهاد .نظّم أمور دولته التي شملت جزءاً من داغستان وأرض الشيشان، على قوانين الشريعة فعرف عهده باسم (عهد الشريعة) .
وكانت دولته مقسمة إلى 32 ناحية، على رأس كل منها نائب، وفيها مفت يعمل تحت إمرته أربعة قضاة يعيّنهم المفتي . وافتتح الحصون، وغنم الأسلحة والمعدّات، وألقى الرعب في قلوب الأعداء، وأجلاهم عن جميع البلاد ما عدا بعض المواقع التي ثبتوا فيها من الناحية الجنوبيّة .
وكانت معاركه تعتمد على السرعة، وخفّة الحركة، وتوجيه الضربات المباغته السريعة، والانسحاب إلى القواعد الحصينة، ووضع خطوط المواصلات والامداد تحت سيطرة قوات الثورة، وعزل الحاميات المقيمة في المواقع المنعزلة، وإرغامها على الاستسلام، وتميّزت الحرب التي خاضها بالانطلاق من فكرة الجهاد في سبيل الله، والتمسّك بفكرة تحرير بلاد المسلمين، والاعتماد على تقاليد الحرب الموروثة عبر التاريخ الإسلامي، وخوض الحرب طلباً للشهادة .
نودي به رئيساً للحكومة، وترأس وفد القفقاس الشماليّة إلى مؤتمر الصلح في باريس، حيث طالب بوحدة القفقاس . اتخذ حصن (ودنو) الجبلي المنيع حصناً له، وكان تحت قيادته حوالي ستين ألفاً من المحاربين .
صمد أمام الفرق الروسيّة الخمس وقاتل الروس خمساً وثلاثين سنة، وانتصر عليهم في كل المواقع التي خاضها معهم. وكان من البديهي أن تضمحل مقاومته أمام قوات الروس العظيمة، التي كان يرافقها من أعمال الفظاعة ما لا يوصف، بالإضافة إلى بذل الأموال بسخاء لشراء الخونة والجواسيس، وانشغال الدولة العثمانيّة بحرب القرم ..
وتقدّمت القوات الروسيّة ببطء في الجبال والمواضع المكشوفة من الغابات، فحاصرته في كوينب آخر معاقله .
وعرضت عليه تسليم نفسه إلى الخليفة العثماني، فسلم نفسه سنة 1859 بعد نزوله على إرادة أصحابه، وحمل إلى قيصر روسيا إسكندر الثاني في سانت بطرسبرج، فأحسن استقباله، وعاش حتى سنة 1869 في كالوغا إلى الجنوب من موسكو، وقيل: إن قيصر روسيا إسكندر الثاني قال للشيخ شامل في إحدى الحفلات المقامة في القصر: إنني فخور جداً أن أرى مثل هذا اليوم رجلاً عظيماً مثلكم في ضيافتي، فأجابه الشيخ بهدوء: لو أن شخصكم الكريم كان في أسري وضيافتي لكان سروري أعظم وافتخاري بذلك أجل .
ويقول المؤرخ البريطاني (برنارد لويس): كان ثالث ثلاثة برزوا في عصر واحد، تجمع بينهم كثير من الملامح المشتركة، فكلهم قاد حركة شعبيّة ضد المشركين، وثلاثتهم كانوا زعماء دينيين، وهم: أحمد بريلوي في الهند، وشامل في داغستان، وعبد القادر في الجزائر، ولقد غلبوا على أمرهم للفرق الهائل بين قوّتهم الصغيرة، وقوّة أعدائهم الضخمة.
نقل حفيده الشيخ سعيد، قول أحد القواد الروس الذين قاتلوا الإمام وأسروه: لولا وقوف هذا الشعب المقاتل في طريقنا لكنّا وصلنا إلى النيل غربا، وإلى بحر اليابان شرقا، بفضل القوّات التي خصّصناها للحروب القفقاسيّة .
واعترف خصوم الإمام شامل المعاصرون له بأنّ فيه عدداً من الصفات المدهشة، وهناك روايات روسية تعطيه بعض التقدير العميق، ومنها (رواية الحاج مراد) لتولستوي، كذلك فإن الحكم القيصري لم يحكم بالموت على ألد خصومه عندما قبض عليه في النهاية.
وعدّدت الموسوعة السوفييتيّة الكبرى صفات شامل وأثره، ووصفته بأنّه زعيم سياسي بارز، وقائد حربي قدير، وأنه كان يتمتع بسلطة هائلة بين الجماهير، وأبدى بطولة شخصيّة، ومهارة فائقة، فأصبح أسطورة شعبيّة، وأن أفكاره العامّة، والتنظيم الديني السياسي الذي وضعه لتنفيذها قد خلقت وحدة غير عادية حتى في القوقاز متعدد العناصر واللغات، والذي تم توحيده في الكفاح المباشر ضد السياسة القيصريّة .
وخلال العهد الشيوعي السابق، شنّت حملة ضد شامل منذ عام 1950 وصوّر كرجعي، وعميل للامبرياليّة الأجنبيّة، وجرت حملة ضخمة لتطهير كتب التاريخ السوفييتيّة من الأخطاء التي وقعت حول هذا الموضوع .
ولكن ذهب الشيوعيون ودالت دولتهم وبقي الحق أبلجا وسيذكر الشيخ شامل ما بقي الجهاد على وجه تلك البسيطة .
وظل شامل يقود المسلمين القوقازيين في حرب شاملة ضد الروس، لطردهم من البلاد طيلة خمس وعشرين سنة، كبد خلالها الروس خسائر ضخمة، ودوخهم في جبال القوقاز، حتى صار مثار إعجاب العالم بأسره، وأثنى عليه علماء وقادة العصر، ولما فشل الروس في مواجهته في ميادين القتال المفتوحة، استخدموا سلاح الغدر والخيانة، وفي 25 أغسطس من عام 1859, استسلم شامل واسرته للقوات الروسية وسجنوا في معتقل جونب في الداغستان.
عندما نجح الروس في أسر الشيخ شامل سنة 1859 اهتزت روسيا طربًا وفرحًا بسقوط الإمام المجاهد في قبضتها، وحُمل شامل بأسرته إلى سان بطرسبرغ للقاء القيصر، وبعدها نفي الى كالوجا, والتي كانت حينها بلدة صغيرة بالقرب من موسكو. وهناك استقبلوه بإعزاز واحترام لشدة هيبته ومكانته في العالم الإسلامي، ويبقى الشيخ شامل كاسبا الإحترام في القوقاز لمقاومة الروس وكذلك اتُخذ قدوة من قبل المجاهدين المعاصرين الذين يقودون الجهاد الحالي ضد السيطرة الروسية على المنطقة, والقائد الشيشاني شامل باسييف - يرحمه الله - كان قد سمّي نسبة له.
ومكث الشيخ شامل في روسيا تسع سنين، ثم سافر للحج، وبعدما أدى مناسك الحج، مكث في المدينة قليلاً، حيث وافته منيته في 28 صفر 1287هـ الموافق 28 مايو 1870م، ودفن في البقيع حيث مرقد الأطهار والأشراف والأنصار، وحسن أولئك رفيقًا .