اللواء محمد جمال الدين محفوظ
مؤرخ العسكرية الإسلامية
أبو الحسن الجمّال
حديثنا اليوم عن رجل تولى مسئولية خطيرة ومهمة بعد هزيمة ساحقة ألمت بالأمة العربية فى 5 يونيو 1967، التى حدثت نتيجة الزيغ والبعد عن منهج الله والاحتكام إلى النظريات المادية التى أضرت بالأمة وأدت إلى إحراجها فى مرحلة مهمة من مراحل التاريخ، هو اللواء أركان الحرب محمد جمال الدين على محفوظ، سنتحدث عنه بمناسبة الاحتفال بالذكرى الواحدة والأربعين لحرب أكتوبر المجيدة … تولى مدير إدارة التوجيه المعنوي للقوات المسلحة بعد الهزيمة التي سادت خلالها مظاهر الإحباط وروح الانهزامية، فعمل الرجل بكل ما يملك حتى أستعاد الجندي المصري ثقته بنفسه، لقد كان الاختيار مناسباً، لأن الرجل نشأ فى بيت علم طاهر، وأسس معرفته منذ صغره على مبادئ الإسلام الحنيف، وكان يرى أن قوة الأمة وازدهارها لا يمكن أن تتحقق إلا فى ظل الإسلام، وأنها لم تتقدم إلا فى ظل التمسك بمبادئ هذا الدين العظيم.. وقد أسدى الرجل للثقافة العربية مؤلفاته الجليلة، التى أبان فيها عن عظمة العسكرية الإسلامية، فقد تناول التاريخ الإسلامي ومواقعه وغزواته محللاً وقائعه فى ضوء النظريات الحربية الحديثة.
وقد ولد قائدنا فى أغسطس سنة 1922 فى بيت علم عريق يتلى فى جنباته القرآن، ويتردد عليه الناس ينهلون العلوم من صاحب هذا البيت، الشيخ "على محفوظ" أستاذ الوعظ والإرشاد وعضو جماعة كبار العلماء بالأزهر الشريف، وأستاذ الوعظ والإرشاد ويتصل نسبه بالحسن بن على رضى الله عنهما، وهو مؤلف الكتاب الشهير "هداية المرشدين إلى طرق الوعظ والخطابة"، تلقى الابن العلوم الإسلامية على والده، وكان منضبطاً على خلق عظيم، لم ينجرف إلى عادات الشباب فى هذا الوقت التى يشوبها التحرر الزائد، والبعد عن الخلق القويم، وإنما تخلق بالمعانى الإسلامية .. فبعد أن حصل على شهادة البكالوريا أراده والده أن يكون مقاتلاً يفيد وطنه الذى كان أرضه مدنسة بقوات الاحتلال البريطانى البغيض، والمكائد تدبر بليل للإجهاز على فلسطين، فالتحق بالكلية الحربية وتخرج منها عام 1942، وخدم طوال حياته فى سلاح المدفعية العريق، وكانت مدة خدمته 33 سنة، قضاها فى وظائف القيادة والتدريس والأركان والإدارة والتوجيه المعنوى والإعلام والحرب النفسية، وقد انتهت خدمته عام 1975، وكان الرجل طوال حياته يسعى إلى التعلم والاستزادة من العلم، فقد حصل على ماجستير العلوم العسكرية وعلى درجة زميل لكلية الحرب العليا وعلى ماجستير فى العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وحصل على دورات تخصصية فى كثير من المعاهد العسكرية والإنجليزية والروسية.
وظل الرجل منزوياً عن المكائد والتسلق ..هذه الظواهر سادت فترة، وساعدت فى إفساد الحياة السياسية والعسكرية فى ذلك الوقت نتيجة لتصدر بعض الجهلة بأمور القيادة، فجنح الرجل إلى الإخلاص فى عمله، يستفيد منه كل من خدم معه، ولهذا ذاع صيته نتيجة إخلاصه وتدينه وعلمه الغزير.
عين مديراً للتوجيه المعنوى للقوات المسلحة بعد نكسة يونيو 1967، فاتخذ منهج الإسلام لبناء الروح المعنوية وإرادة القتال، فقرر العديد من الأمور التى يتسلح بها الجندى معنوياً، فجعل "الجهاد فى سبيل الله" عقيدةً للقوات المسلحة، و"النصر أو الشهادة" شعاراً للقوات المسلحة، وجعل أيضاً "الله أكبر" صيحة القتال للقوات المسلحة، وجعل لعلماء الدين والوعاظ دوراً فعالاً فى معايشة القوات المسلحة وتحريض رجالها على القتال تحت لواء الجهاد، وربط أعمالهم فى السلم والحرب بالدين وقد كان هذا المنهج من أهم أسباب النصر فى حرب رمضان 1393هـ (أكتوبر1973م).
هذا على المستوى العسكرى، أما على المستوى الثقافى فقد أضاف اللواء محفوظ للمكتبة العربية العشرات من الأبحاث والكتب والمقالات فى التاريخ العسكرى الإسلامى والعسكرية الإسلامية والتوجيه المعنوى وعلم النفس العسكرى، فهو الرائد فى هذا المجال لا يدانيه إلا القليل، منهم: اللواء الركن محمود شيت خطاب، واللواء محمد فرج، واللواء عبد الرحمن زكى، واللواء جمال حماد، وقد قرر بعض هذه الكتب فى المعاهد والكليات العسكرية، ومن أهم كتبه: "المدخل إلى العقيدة والإستراتيجية العسكرية الإسلامية"، و"العسكرية الإسلامية ونظريات العصر"، و"العسكرية الإسلامية ونهضتنا الحضارية"، وفى هذه الكتب يحمل الدعوة إلى إحياء أمجاد العسكرية الإسلامية باعتبارها جانباً رائداً من الحضارة الإسلامية.
شارك بأبحاثه فى المؤتمرات الدولية مثل مؤتمر"الدفاع والعالم الإسلامى" فى لندن عام 1399هـ والمؤتمر الثالث للسنة والسيرة النبوية بالدوحة فى المحرم 1400هـ والمؤتمر الرابع للسنة والسيرة الذى عقد بالقاهرة فى صفر عام 1406هـ ، والمؤتمر الخامس للتربية الإسلامية فى القاهرة فى رجب عام 1407هـ.
كان اللواء محفوظ عضواً بالعديد من الهيئات الإسلامية والعسكرية مثل: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وعضواً شرفياً بالمعهد الإسلامى لشئون الدفاع والتكنولوجيا بلندن.
انجازات العسكرية الإسلامية في التاريخ:
ويرى اللواء جمال محفوظ الإسلام باعتباره حضارة كاملة، وأنه نظم كافة أمور الحياة ديناً ودنيا، قد عالج أمور الحرب باعتبارها ظاهرة اجتماعية، ووضع خير المناهج والمبادئ بكل ما يتصل بها من حيث أهدافها وقوانينها وآدابها، ويقول: "والباحث المحقق لا يجد في الإسلام كل ما تحتويه النظريات العسكرية المعمول بها في الشرق أو الغرب فحسب، بل إنه ليكتشف بالتحليل والمقارنة أن نظريات الإسلام الحربية تتجاوز تلك النظريات وتتفوق عليها سواء من الناحية الفنية البحتة أو من حيث نبل المقاصد والأهداف، وقد نشأت في المدينة بعد الهجرة أول مدرسة عسكرية في تاريخ العرب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قائدها ومعلمها الأول، وعلى أساس مبادئ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة القولية والعملية والتقريرية قامت نظريات العسكرية الإسلامية في مختلف شؤون الحرب والقتال مثل: أسباب الحرب وأهدافها – آداب الحرب – بناء الجيش القوي – بناء المقاتل – إعداد القادة – التدريب على القتال – الحرب النفسية – المخابرات والأمن ومقاومة الجاسوسية – الانضباط والجندية وتقاليدها – بناء الروح المعنوية وإرادة القتال – إعداد الأمة للحرب – الصناعة الحربية واقتصاديات الحرب… الخ، وهكذا تكوّن أول جيش في تاريخ الإسلام والمسلمين، وتعلم رجاله في المدرسة العسكرية الإسلامية على يد قائدها ومعلمها الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أذِنَ اللهُ لهم بالقتال طبّقوا ما تعلموه في المعركة فكانوا مضرب الأمثال في الكفاية القتالية والشجاعة والعبقرية الحربية، وكانوا دائماً منصورين على أعدائهم بإذن الله" .
وجملة القول أن تنظيم الإسلام لأمور الحرب قامت عليه وعلى نظرياته المدرسةُ العسكرية الإسلامية كما قام أيضاً جيش الإسلام بقادته ورجاله، ودخل الجيش الإسلامي "بوتقة الحرب"
فماذا كانت النتيجة؟
ويرى أيضاً إن أعظم الأدلة التي تبرز النتائجَ التي حققتها العسكرية الإسلامية شهادةُ التاريخ.. فلقد حققت الجيوش الإسلامية من المهام والانجازات ما أصبح من الحقائق التاريخية التي لا تنازع والتي نذكر منها على سبيل المثال:
أولاً – تأمين الدعوة وقيام الدولة الإسلامية:
وهذا ما حققه جيش الإسلام في عصر النبوة، الذي حارب فيه المسلمون أكثر من عدو، فقد حاربوا المشركين واليهود والروم، وكانوا في كل معاركهم يواجهون عدواً متفوقاً عليهم في العدد والعدة، لكن نصر الله كان حليفهم.
ثانياً – الفتوحات الإسلامية:
وفي أقل من مائة عام امتدت الفتوحات الإسلامية من حدود الصين شرقاً إلى شاطئ الأطلسي غرباً، وقد بلغ عدد القادة الفاتحين في أيام الفتح الإسلامي ستة وخمسين ومائتي قائد (256) منهم ستة عشر ومائتا (216) من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم مؤسس المدرسة العسكرية الإسلامية ومعلمها الأول، وأربعون من التابعين بإحسان رضي الله عنهم.
ولو أردنا أن نلخص ما ينطوي عليه هذا الانجاز العظيم في تاريخ المسلمين في كلمة واحدة فإننا نقول إن معناه الواضح هو أن "العسكرية الإسلامية" قد هزمت كلا من العسكرية الفارسية والعسكرية البيزنطية.
القدرة الدفاعية الإسلامية:
ويحلل اللواء جمال الدين محفوظ القدرة الدفاعية الإسلامية التي بناها الرسول القائد صلى الله عليه وسلم، وتركها أمانة في أعناق المسلمين من بعده إلى عناصرها الأساسية، ثم يتأمل فيما فعل المسلمون بها، لكي نستخلص الدرس والعبرة لحاضرنا ومستقبلنا، فالله تعالى يقول: "فاعتبروا يا أولي الأبصار" (الحشر: 2).
ويعدد اللواء محفوظ عناصر تلك القدرة الدفاعية ما يلي على سبيل المثال:
1- جيش قادر على الردع وتحقيق الأهداف الإستراتيجية..
ليس من شك أن في الجيش الإسلامي في عصر النبوة قد حقق الهدف الاستراتيجي وهو تأمين الدعوة وقيام الدولة الإسلامية وتوفير الأمن والاستقرار لها لكي تؤدي رسالتها السامية لخير البشرية.
ولقد حدد الرسول القائد صلوات الله وسلامه عليه هذا الهدف منذ اللحظة الأولى من الصراع مع المشركين حين رفع يديه بالدعاء إلى ربه بعد أن نظم صفوف الجيش في بدر وقال: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلن تعبد في الأرض.." بهذا الوضوح والتحديد ربط عليه الصلاة والسلام برباط وثيق بين الدعوة وبين القدرة على الدفاع عنها وتأمينها، فكان من ذلك الهدف الاستراتيجي واضحاً ومحدداً.
وفي سبيل تحقيق هذا الهدف حارب المسلمون أكثر من ستين عملية من عمليات القتال قاد منها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه ثماني وعشرين غزوة، وقد واجه المسلمون –وهم قلة في العدد والعدة- في تلك العمليات أكثر من عدو، فقد حاربوا المشركين واليهود والروم.
2- جيش على مستوى عصره..
في فترة وجيزة لا تتجاوز سبع سنوات لحق جيش الإسلام الأول بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم بمقتضيات عصره من حيث تكوين القوة الضاربة والتنظيم والتسليح: فلقد كانت الاستراتيجية العسكرية العالمية المعاصرة لعصر النبوة (فارس وبيزنطة) تقوم على أساس أن تشكل القوة الضاربة للجيش من الفرسان بنسبة الثلث تقريباً من مجموع قوته.
وكان جيش الإسلام في بادئ الأمر يفتقر إلى الفرسان، ففي أولى الغزوات مثلاً –وهي بدر – كانت لدى الجيش فرَسان فقط، فعُني الرسول صلى الله عليه وسلم بتدريب المسلمين على الفروسية وحثهم على اقتناء الخيول حتى قفزت قوة الفرسان إلى المعدل العالمي وهو الثلث، ففي آخر غزوة -وهي تبوك- كان عدد الفرسان عشرة آلاف في جيش قوامه ثلاثون ألف مقاتل، وتطور تسليح الجيش بأن أضاف إلى أسلحته المنجنيق والعرادات والدبابات، وهي أسلحة خاصة بالحصار ودك الحصون والأسوار. فقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بعثة من اثنين من المسلمين إلى جرش في الشام فتعلما صنعة هذه الأسلحة، ثم استخدمها الرسول صلوات الله وسلامه عليه في حصار الطائف وخيبر.
3- مدرسة عسكرية كاملة..
وترك الرسول القائد صلى الله عليه وسلم مدرسة عسكرية كاملة لها مبادئها ونظرياتها في أسباب الحرب ودوافعها وآدابها، ونظرياتها في إعداد الأمة للحرب، وفي إعداد المقاتلين وإعداد القادة، وفي الاستطلاع والأمن ومقاومة الجاسوسية، ونظرياتها في الحرب النفسية والتدريب على القتال واقتصاديات الحرب ، وترك لنا أيضاً شهادة من التاريخ بأن الجيوش التي تطبق هذه المبادئ تصبح قوة لا تقهر.
4- جيل من القادة الخبراء بفن الحرب..
بلغ عدد قادة الفتوحات الإسلامية ستة وخمسين ومائتي قائد، كان منهم ستة عشر ومائتا قائد من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين تعلموا على يديه وفي مدرسته، وليس هذا فحسب، بل باشروا القيادة تحت إشرافه وتوجيهه بصور شتى، فعملوا تحت قيادته العليا قادة للوحدات الفرعية التي يتألف منها الجيش، وقادوا السرايا الحربية قيادة مستقلة، وشاركوا في التخطيط الحربي فأصبحوا خبراء في التخطيط والقيادة معاً. والمعروف أن القادة الذين اكتسبوا خبرة عملية في الحرب يعدون من أثمن الثروات الاستراتيجية لأمتهم.
5- شخصية إسلامية قوية راسخة العقيدة..
ومن أهم ما ترك الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك البناء الشامخ للشخصية الإسلامية التي أسلمت وجهها لله وملآت قلبها بعقيدة الإيمان بوحدانية الله، وتخلقت بالأخلاق التي أمر بها سبحانه وتحررت من رق العبودية لغير الله..
ولقد نشأت هذه الشخصية في مجتمع إسلامي، قام أفراده بواجبهم نحو ربهم، وجمعتهم رحمة الأخوة وسماحة التآلف وكرم الإيثار، وباعوا أنفسهم وأموالهم صادقين مطمئنين لقاء ما أعطاهم ربهم من جنته ومغفرته ورضوانه، وملك حب الله قلوبهم فأحبوا من أحبه وعادوا من عاداه ولو كان أقرب الناس إليهم.. وهكذا تهيأ المناخ الصالح للشخصية الإسلامية لإظهار كل طاقاتها المدخرة فيها.
الرسول صلى الله عليه وسلم القائد:
خص اللواء جمال محفوظ الرسول صلى الله عليه وسلم بالعديد من الدراسات والمقالات والبحوث التى ضمنها كتبه فقد ذكر أن عدد العمليات الحربية في عصر النبوة بلغت أكثر من ستين عملية ما بين غزوة وسرية، وقاد الرسول القائد صلى الله عليه وسلم بنفسه من هذه العمليات ثماني وعشرين غزوة.. ويقول: "وإذا تناولنا هذه الغزوات بالتحليل الإحصائي، من حيث النوع والكمية والتوزيع الزمني، فسوف تتكشف لنا عدة مبادئ في القيادة الحربية في غاية الفائدة للأمة الإسلامية، وتعد من أبرز خصائص العسكرية الإسلامية.".
فقد استعرض محفوظ غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وأثبت أنه حرص على مباشرة القيادة بنفسه طوال فترة الصراع كلها. (من السنة الثانية إلى السنة التاسعة للهجرة) وفي كل سنة من سنواتها بلا استثناء، مع إتاحة الفرصة – في الوقت نفسه- لأصحابه أن يتولوا قيادة الأعمال الحربية المختلفة تحت إشرافه وتوجيهه بصفته القائد الأعلى، وهذه العمليات تسمى بالسرايا التي بلغ عددها خلال نفس الفترة أكثر من ثلاثين سرية، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاد في السنة الثانية للهجرة –وهي أول سنوات الصراع- أكبر عدد من العلميات الحربية، وهو ثماني غزوات بينما لم يزد عدد العمليات التي قادها في كل سنة بعد ذلك عن ثلاث أو أربع عمليات في المتوسط. هذا التركيز في قيادة عمليات أولى سنوات الصراع له دلالاته التي لا تفوت القائد المحنك الخبير بفن الحرب، ويعد في نظر العلم العسكري والإستراتيجية الحربية من علامات القيادة الحربية الفذة، فهو يتيح للقائد –في بداية الصراع وقبل تصاعده- الفرصة لدراسة مسرح العلميات دراسة شخصية من الناحية "الطبوغرافية" (مثل طبيعة الأرض والطرق وموارد المياه والتضاريس.. الخ) ومن الناحية "الديموغرافية" (وهي الأهداف التي تسبب للعدو من الأضرار ما يؤدي إلى إحداث تغييرات حادة في الموقفين العسكري والسياسي ويؤثر تأثيراً بالغاً على تطور الصراع المسلح عامة)، ويتيح للقائد كذلك الفرصة لدراسة عدوه عن طريق الاحتكاك المباشر، وتقييم كفاءته القتالية مادياً ومعنوياً، ودراسة أساليبه في القتال، وأسلحته التي يستخدمها، وكل ذلك يكسب القائد ما يسمى "بالخبرة القتالية"، هذه الدراسة الشخصية الشاملة تمكن القائد من التخطيط السليم لجميع العمليات الحربية المقبلة، كما تمكنه من إدارة المعارك بكفاية تامة، ومن توجيه المقاتلين إلى ما يحقق لهم النصر على أعدائهم.
فجر البحرية الإسلامية:
وهناك كتاب رائع فريد فى بابه للواء جمال الدين محفوظ بعنوان "فجر البحرية الإسلامية..باكورة عمليات الأسطول الناشئ" وهذا بخلاف كتبه الأخرى التى زادت على العشرين كتابا بالإضافة إلى مئات المقالات المتخصصة التى أجلت نقاطا ناصعة فى تاريخ الإسلام، وفيه بين أن الحرب البحرية لم تعرف فى صدر الإسلام وعهد النبوة، ولم يكن المسلمون الأوائل قد سجلوا فى صفحات بيض أنهم استطاعوا وهم رجال البادية أن يقتحموا مجالاً جديداً هو "الحرب البحرية"، وأن يدخلوا السلاح البحرى وحرب الأساطيل وصناعة السفن فى إستراتيجيتهم العسكرية لأول مرة فى التاريخ رغم ظلمات البحر وأعماقه وسطوة الموج وهياجه، وأوضح المؤلف أن بناء الأسطول ضرورة إستراتيجية فبعد هزيمة الفرس والروم فى الشام ومصر وتحقيق مكاسب على الأرض وبطولات خارقة لم تحدث مطلقا فى التاريخ الإنسانى بفعل إيمان المسلمين بقضيتهم وتغلغل العقيدة الإسلامية بداخلهم وعدلهم مع الأمم عند فتح الأمصار، وسرعان ما أدركوا من تطور أحداث الفتوح والدروس المستفادة منها أن بناء أسطول إسلامى ضرورة إستراتيجية وحيوية وهذا راجع لأسباب فى نظره يلخصها كالآتى:
1- فخلال سنوات الفتح بين عامى 13إلى 30هـ (634-650م) لم يجد المسلمون عدواً لهم فى معاركهم أقسى من البحر وما يأتيه من أخطار ..فبينما كانت مدن الشام الداخلية تتساقط دون عناء كبير كانت موانئ الساحل تصمد طويلا وتتحمل الحصار بسبب إمدادها المستمر عن طريق البحر ومن ذلك على سبيل المثال أن قيسارية لم تسقط إلا بعد سبع سنوات من جمادى الأولى سنة 13هـ إلى شوال سنة19هـ
2- وبينما كانت مدن الداخل تخضع للمسلمين بعد فتحها وتسلم إليهم مقاليد ولائها كانت مدن الساحل دائمة الفتن والثورات والاضطرابات بسبب تحريض الروم ووجود اتصال بحرى بينها وبين تلك المدن.
3- كان الأسطول الرومى البيزنطى عندما يدرك استحالة المقاومة والصمود أمام الحصار افسلامى على الموانى فى الشام ومصر يتولى إجلاء الجنود والمدنيين منها لحمايتهم من ملاحقة المسلمين..فكانت المسلمين يدخلونها يجدونها خالية تماما من السكان ..
4- شوطىء الدولة الإسلامية امتدت من طرسوس شمالاً إلى برقة جنوباً وهى أكثر من 1500ميل وهذه الشواطئ الطويلة تواجه تهديدا خطيرا من البيزنطيين وأساطيلهم فكان لابد من حمايتها والدفاع عنها ضد الغزو البحرى.
5- هذا فضلا على أن المسلمين بعد الفتوح الشامية والمصرية كانوا يهدفون إلى القضاء على الإمبراطورية البيزنطية على نحو ما حدث للدولة الساسانية فكان عليهم أن يفتحوا القسطنطينية قلب بيزنطة والعالم القديم والرأس المدبر للتنظيم البحرى للروم فى حوض البحر المتوسط الشرقى..
ويرى محفوظ "من أجل هذه الأسباب كان إنشاء الأسطول البحرى الإسلامى ضرورة إستراتيجية..وهذا الكتاب جديد فى مادته فريد فى موضوعه كادت تخلو منه المكتبة الإسلامية وإن لم تخل منه مكتبة المستشرقين فهو يتناول نشأة الأسطول الإسلامى وباكورة عملياته التى كان من أبرزها معركة ذات الصوارى البحرية وقام اللواء محفوظ بتحقيق ما اختلف عليه المؤرخون وحسم الروايات التى أرتاها صحيحة بعد أن استعان بعدة خرائط تضم خريطة نادرة نشرها فى ثنايا كتابه لأول مرة..
هذا وقد ظل اللواء جمال الدين محفوظ يخدم وطنه فى الحرب والسلم، وكان لا يبغى الظهور والأضواء وحسبه أنه أرضى ربه ثم أرضى وطنه.