علال الفاسي
مجلة الكوثر
يعد علال الفاسي أحد أعلام الحركة الإسلامية الحديثة التي ظهرت في القرن العشرين، والتي دعت إلى نوع من السلفية التجديدية، لذلك يترافق اسمه مع أسماء مفكرين مثل: محمد عبده، ورشيد رضا، والطاهر بن عاشور.
ولد علال الفاسي في ( 8 من المحرم 1328هـ – 20 من يناير 1910م) في مدينة فاس المغربية، وهو ينحدر من أسرة عربية مسلمة هاجرت من الأندلس إلى المغرب، واستقرت في مدينة فاس، يقال لعائلته، الفاسي، وأحياناً الفهري، نسبة إلى قبيلة بني فهر. فأبوه عبد الواحد كان من كبار علماء المغرب، وكان مدرساً في جامعة القرويين، وكان قاضياً ومفتياً، وكذلك كان أجداده من العلماء والقضاة والمجاهدين.
شهد العالم الإسلامي في القرن العشرين زعامات وطنية كثيرة، قادت حركات التحرر ومقاومة الاحتلال وألهبت حماس الجماهير وسيطرت على أفئدتهم، وقليل من هذه الزعامات من جمع إلى جانب العمل السياسي والجهاد الوطني زعامة الفكر، وأصالة الرأي، والقدرة على الكتابة والتأليف والمعرفة الواسعة بالإسلام، ومن هؤلاء علال الفاسي داعية الإصلاح، وزعيم حركات التحرر في المغرب العربي.
نشأته
التحق علال الفاسي وهو دون السادسة من عمره بالكتاب، حيث حفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم التحق بعد ذلك بإحدى المدارس الابتدائية الحرة التي أنشأها زعماء الحركة الوطنية في فاس، وكان المغرب آنذاك قد خضع للحماية الفرنسية سنة ( 1330هـ - 1912م) ووقع في براثن الاحتلال ثم التحق بعد ذلك بجامعة القرويين وهي واحدة من أهم جامعات العالم الإسلامي، تخرج فيها جميع زعماء الحركة الوطنية المغربية، وحفظت للمغرب لسانه العربي وثقافته الإسلامية.
برزت شخصية علال في هذه الفترة وهو لا يزال طالباً ولفت الأنظار إليه بفصاحته وعذوبة لسانه وقدرته على التأثير في مستمعيه، وجرأته في قول الحق غير هياب ولا وجل.
شارك في الدفاع عن قضية تزويد مدينة فاس بالماء، وكانت سلطات الاحتلال الفرنسي تحاول حرمان السكان منها، وساعد عبد الكريم الخطابي في جهاد الاحتلال الفرنسي، ودفعته همته إلى تأسيس جمعية أطلق عليها اسم "جمعية القرويين لمقاومة المحتلين" جمع إليها زملاءه من الطلاب، وظل على نشاطه الدائب حتى نال شهادة العالمية من جامعة القرويين سنة 1351 هـ - 1932) ولم يتجاوز عمره الثانية والعشرين.
الظهير البريري
وفي غمرة مقاومة الشعب المغربي للعدو الغاصب الذي كان لا يمل من التفكير من وضع خطط ماكرة يسيطر بها على البلاد، ويلتقط أنفاسه اللاهثة حتى يحكم قبضته عليها، هداه تفكيره إلى ضرورة الوقيعة بين العرب والبربر، فأصدر قراراً عرف "بالظهير البربري" يهدف إلى تقسيم الشعب المغربي إلى فريقين، فجعل البربر غير خاضعين للقانون الإسلامي في نظام الأسرة والميراث، ودعا إلى إقصاء اللغة العربية من مدارسهم، وأن تكون البربرية والفرنسية هما لغتي التعليم، وكان الهدف من وراء ذلك فرنسة المغرب لغوياً وسياسياً وتعليم البربر كل شيء إلا الإسلام.
لم يقف علال الفاسي مكتوف اليد إزاء هذه التدابير الماكرة، فقام بإلقاء الخطب والدروس ليعرف أهل وطنه بحقيقة ما يدبر لهم في الخفاء ويثير الحمية في نفوسهم ويطالبهم بالثورة والاحتجاج، وكان لصدق لهجته أثر كبير في استجابة الناس له، وخرجت المظاهرات الحاشدة تندد بهذه السياسة الخبيثة خاصة من البربر أنفسهم، وكان الخطباء في المساجد يختمون كلماتهم بهذا الدعاء "اللهم يا لطيف نسألك اللطف فيما جرت به المقادير، وألا تفرق بيننا وبين إخواننا".
وقابل المحتل الفرنسي هذه المظاهرات بعنف بالغ واعتقل الكثير من المتظاهرين، وكان من بينهم علال الفاسي، غير أن المظاهرات ازدادت حدة وضراوة، واحتج البربر أنفسهم على هذه السياسة وقاوموها بشدة، ولم يجد الحاكم الفرنسي بداً من الإفراج عن علال الفاسي والتخلي عن الإجراءات التي أعلنت بخصوص البربر.
التوعية سبيل المقاومة
وبعد خروج علال الفاسي من السجن بدأ رحلة جديدة لتوعية الناس بإلقاء الدروس والمحاضرات التي تتناول سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – مقارناً بين حالة المسلمين الأوائل وواقع إخوانهم المعاصر، وقد جذبت هذه الدروس اهتمام المحاربة من الرجال والنساء، ولم يكتف بهذا بل اختار نخبة من زملائه وأوفدهم إلى شتى القرى لنشر الوعي والأفكار الصحيحة وتأجيج الشعور الوطني.
وقفت الإدارة الفرنسية مع هذا النشاط الموفور موقفاً عدائياً ورأت في هذه المحاضرات مظاهرات سياسية قومية، فحاولت منعها بكل السبل، ولم تجد وسيلة إلى ذلك سوى القبض على علال نفسه ونفيه إل خارج البلاد، وكانت جهود المحتل قد فشلت في احتواء علال بإغرائه بالمناصب الرفيعة، حيث عرض عليه أن يكون وزيراً للعدل في مراكش، لكنه رفض أن يعمل تحت حكم استعماري دخيل.
في منفاه بالغابون
وبعد أن أصدر المحتل الفرنسي قراراً باعتقال علال الفاسي حمل في 28 من شعبان 1356 – 3 من نوفمبر 1937م في طائرة خاصة إلى منفاه بالغابون، وكانت إحدى المستعمرات الفرنسية في إفريقيا الاستوائية.
ظل في منفاه تسع سنوات حيث أودع زنزانة مظلمة عانى فيها آلام الوحدة والغربة، ولم يسمح له بالحصول على مصحف يقرأ فيه إلا بعد عام ونصف من الاعتقال.
لم يعد إلى وطنه إلا في سنة ( 1366 هـ - 1946م) ليواصل أداء دوره الناهض، وكانت البلاد تحت رعاية سلطان وطني هو السلطان محمد الخامس، الذي شاء أن يواجه الاحتلال فأعلن استقلال البلاد، لكن إقامته لم تطل فسافر إلى فرنسا، وكتب في الصحف هناك داعياً إلى استقلال بلاده، ثم غادر فرنسا وزار عدداً من البلاد العربية، ثم ألقى عصاه في القاهرة التي أحسنت استقباله، وظل مقيماً بها حتى نال المغرب استقلاله، فعاد إلى بلاده سنة (1377هـ - 1957م).
العودة إلى الوطن
بعد رجوع الملك محمد الخامس إل عرشه، ونيل المغرب استقلاله عام 1956، عاد علال الفاسي إلى وطنه بعد غياب عشر سنوات قضاها في القاهرة، وعاود نشاطه القديم فتولى رئاسة حزب الاستقلال الذي أنشئ من قبل واختير عضواً رئيساً في مجلس الدستور لوضع دستور البلاد، ثم انتخب رئيساً له، وقدم مشروع القانون الأساسي، وشارك في وضع الأسس الأولى لدستور سنة 1962م، ودخل الانتخابات التي أجريت سنة ( 1383هـ - 1963م) ودخل الوزارة، وإليه يرجع الفضل في إنشاء مشروع وزارة للدولة مكلفة بالشؤون الإسلامية.
وإلى جانب ذلك انتخب عضواً مراسلاً في مجمع اللغة العربية بدمشق، ومجمع اللغة العربية بالقاهرة.
إنتاجه الأدبي
أما إنتاجه الأدبي وبحثه العلمي والديني والثقافي، فكان كثيراً، وتعجب كيف اتسع له الوقت مع مسؤولياته السياسية والاجتماعية أن يخرج هذا القدر من الإنتاج الذي يعجز المتفرغ عن أن يأتي بمثله، ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقد أخرج علال الفاسي أكثر من عشرين كتاباً في ميادين الثقافة المختلفة، فألف في التاريخ كتابه " الحركات الاستقلالية في المغرب العربي" بناء على تكليف من جامعة الدول العربية، وهو عرض لخلاصة الحالة في المغرب العربي في صورها المختلفة, وكتابه "المغرب العربي منذ الحرب العالمية الأولى" وأصله محاضرات ألقاها سنة 1955م على طلبة قسم الدراسات التاريخية والجغرافية في معهد الدراسات العربية التابع للجامعة العربية.
وفي مجال الشريعة الإسلامية وضع كتابه المعروف "مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها" وهو في أصله محاضرات ألقاها على طلبة كلية الحقوق بجامعة محمد الخامس بالرباط، وطلبة كلية الحقوق بفاس، وكلية الشريعة بجامعة القرويين، وكتاب "دفاع عن الشريعة" الذي ألفه بهدف بيان حقيقة الشريعة وما فيها من محاسن وما لها من مميزات وكونها شريعة صالحة لكل زمان ومكان مع بيان مقاصد القوانين الاستعمارية التي ورثناها وما فيها من دس وغش وهدم للعدل وكيان الأمة الإسلامية.
وله أيضاً كتابان آخران يتصلان بهذه الموضوعات هما: "المدخل إلى الفقه الإسلامي" و "تاريخ التشريع الإسلامي" وقد أوضح فيهما بأدلة قاطعة أن القوانين الغربية حتى الفقه الروماني في صورته الموجودة اليوم تأثرت بالفقه الإسلامي واستمدت منه عن طريق الشراح والمفسرين الذين أخرجتهم مدرسة بولونيا الإيطالية وغيرها من المدارس الأوروبية وهؤلاء تأثروا بالثقافة العربية التي وصلتهم عن طريق الأندلس.
ومن أهم كتبه كذلك: "النقد الذاتي" وقد تضمن معظم آرائه وتوجهاته الإصلاحية وقد كتبه سنة 1949م عندما كان مقيماً في القاهرة، وحدد فيه المنهج الفكري لبناء المغرب المستقل متخذاً من الحرية والفكر أساساً لكل نجاح، وداعياً إلى نشر حرية التفكير حتى لا يظل وقفاً على طبقة معينة أو حكراً على فئة خاصة.
وألف في ميدان الاقتصاد والاجتماع والوحدة والتضامن عدة كتب، منها: "معركة اليوم والغد"، و "دائما مع الشعب"، و"عقيدة وجهاد".
وفاته
شاء الله أن توافي الزعيم علال الفاسي منيته وهو في ميدان العمل والجهاد، حيث توفي في بوخارست عاصمة رومانيا، وهو يعرض على رئيسها انطباعاته عن زيارته التي قام بها وفد حزب الاستقلال المغربي برئاسته، ويثير قضية المغرب وصحراء المغرب، ونضال الشعب الفلسطيني في سبيل نيل حريته وأرضه، وخرجت روحه الطاهرة بعد ظهر يوم الاثنين ( 20 من ربيع الآخر 1394هـ - 13 من مايو 1974م).
مجلة الكوثر – العدد 121.