العالم المجاهد محمد خير زيتوني
د. عبد الله الطنطاوي
[email protected]
ولد الشيخ محمد خير زيتوني في حي أقيول بحلب الشهباء، عام 1948م، لأبوين صالحين تقيَّين، بلغ من صلاحهما حرصُهما الشديد على المال الحلال، فلا يغذّيان أنفسهما وأولادهما إلا من المال الحلال، وقد زرعا هذا في نفوس الأولاد، فشبُّوا عليه، وكان محمد خير أحرص الجميع عليه.
وشيء آخر كانا يحرصان عليه، هو مَلء البيت بتلاوة القرآن الكريم، في الصباح والمساء، الأمر الذي حبّب القرآن العظيم إلى نفس محمد خير، فعكف عليه حتى حفظه على يد أبيه الشيخ عبد القادر زيتوني وهو فتى!. في هذه البيئة الصغيرة الصالحة نشأ الفتى محمد خير على حبّ الله ورسوله والإسلام.
دخل الفتى المدرسة، كسائر فتيان حيّه، وأنهى فيها المرحلتين: الابتدائية والإعدادية. ولحبّه وحبّ أبويه الإسلام، ترك المدرسة النظامية الرسمية، ودخل المدرسة الشعبانية الشرعية، ليدرس العلوم الشرعية والعربية على أيدي عدد من كبار علماء حلب، وفي طليعتهم العلامة الشيخ عبد الله سراج الدين، والعلامة الشيخ أحمد القلاش، وسواهما من العلماء العاملين الداعين إلى الله على بصيرة. وكان الفتى محمد خير متفوّقاً في دراسته وسلوكه وأخلاقه، فأحبّه مشايخه، واستمرّت الصِلات الطيبة بين
التلميذ وبين أساتذته العلماء، إلى أيامه الأخيرة في حلب؛ فقد رأوه مكبّاً على علوم الدين وعلوم اللغة العربية، يرتاد مجالس العلم والعلماء، والمكتبات العامة والخاصة، يطالع كتب الفقه والتفسير والحديث، ويسأل سؤال طالب العلم الذي يرغب في العلم ليتقوّى به على طاعة الله، وخدمة الإسلام والمسلمين، وليس لحمل شهادة تكون مطيّة لوظيفة يعتاش منها هو وأسرته، كأكثر خريجي المعاهد والجامعات .
ثم انتسب إلى كلية اللغة العربية في جامعة الأزهر ، وتخرّج فيها عام 1977 م.
بعد أن تخرّج في الكلية الشرعية (الشعبانية) عمل الشيخ محمد خير إماماً في مساجد حلب، كانت تلاوته متميّزة في شدّتها ورقّتها ، وفي وقفاتها، وفي وصل الآيات بعضها مع بعض، وكذلك كان الخشوع في الوقوف والركوع والقيام والسجود، وفي التكبير والسلام …
وبعد الصلاة صِلات… صلة مع هذا الفتى الذي توسّم فيه الخير، وذاك الشاب… يجيب على أسئلة المستفتين من الكبار والصغار، ويجلس معهم، ويصحبهم إلى بيته، ويكرمهم بلا تكلف، ويزورهم في بيوتهم، ويتعرّف إلى الآباء والإخوة، ينصحهم، ويدعوهم إلى أن يعمروا بيوت الله، فيُنقل الشيخ، وقد أسس خليّة قبل أن يغادر الحيّ، وأحكم الصلة ببعض الشباب والرجال ليتابعوا ما بدؤوه معه …
وهكذا كان الشيخ الشاب يتنقّل من مسجد إلى آخر، وكان يستفيد من تجاربه في المسجد الذي سبق أن عمل فيه، حتى تراكمت لديه الخبرات الدعوية، وهو ما يزال في ريعان الشباب، وأفاد منها عملنا المسجدي .
وفي عام 1965 تفتّق ذهن الشيخ عن أسلوب طريف في الدعوة إلى الله فقرر الشيخ أن يدخل إلى السينما قبيل انتهاء "الفلم" من الباب المعدّ للخروج، وحيث يفتح الباب في الدقائق الأخيرة من عرض الفيلم. ويصعد إلى المسرح فور إشعال الأضواء، ويفاجأ الناس بشيخ ينادي فيهم: أيها الناس، يا جنود محمد، يا أحباب الله… ثم يعِظُهم موعظة قصيرة مؤثّرة… وحين يشعر أنه ملَك قلوبهم، يدعوهم إلى التوجّه إلى المسجد الأقرب… وتستجيب له الجماهير.
سيق الشيخ الشاب إلى خدمة العلم كسائر الشبان، ودخل السجن، وكان داعية في السجن، وتأثّر به عدد من العساكر، فنقلوه إلى قطعة أخرى، وإلى سجن آخر، والمجنّد الداعية ماضٍ في طريقه، ودائرة المتأثرين به تزداد اتساعاً. وكلما ضيّقوا عليه، وجد المخارج لنشاطه، وكان الله يوفّقه فيما هو فيه، لما علم من إخلاصه وصدقه في جهاده، وصبره ومصابرته على أعدائه… كان توفيق الله حليفه حيثما حلّ وارتحل.
ثم إنه انتسب إلى الأزهر الشريف وبنى علاقة حميمة مع الخطيب المتميّز الداعية عبد الحميد كشك، رحمه الله رحمة واسعة. وكان يحضر خطبة الجمعة لديه في مسجد (دير الملاك) في القاهرة، وبعد الصلاة يذهب إلى غرفته، ويصيح وهو واقف في الباب:
السلام عليكم ورحمة الله .
فيهتف الشيخ الكشك :
أهلاً بالشيخ محمد السوري . تفضلْ !
ويتزود الشيخ محمد خير من علم الشيخ، ومن روحه وتجاربه، ما يجعله يعود إلى حلب بزادٍ روحيّ هائلٍ، تمثّل في دعائه المستمرّ بأن يرزقه الله الشهادة في سبيله وأن يجعله أهلاً لها.
أبرز صفاته:
كان - رحمه الله – قويَّ البنية ، أميَل إلى الطول، أبيض أشقر، وجهه المحلّى بلحيته الشقراء، كقرص الشهد، وعيناه الزرقاوان عينا عُقاب، نشيط، تغلب عليه الحركة، فلا يكاد يهدأ في المسجد والرحلات وحيث كان.
لباسه نظيف، تغلب عليه البساطة وعدم التكلّف.
كان كريماً، ويداعب ضيفه، ولا يتكلّف له. تسمعه وهو يقدّم الطعام، أو يدعوك إلى الفطور أو الغداء أو العشاء عنده… تسمعه يقول: وما أنا من المتكلفين .
وكان الشيخ يتحدّث باللغة العربية الفصيحة أو بلهجة عامية مفصّحة ، يأمر أهله وأولاده بها ، وينصح بها إخوانه ويعدّها من شعائر الإسلام، وقد أمرنا بها الإمام الشهيد في وصيته الثالثة من وصاياه العشر .
كان خدوماً لإخوانه، في المسجد، والبيت، والرحلات خاصة، وكم كان الشبان والفتيان يفرحون عندما يذهبون معه في رحلة، فيها سباحة وسياحة فكرية ودعوية… كان يعمل ويتعب في تلك الرحلات أكثر من أي أخ فيها.
وكان متسامحاً، وَصولاً متواضعاً، ذكيّاً، فطناً، فهيماً، ذا ذوق رفيع، ونفس صافية نقيّة شفّافة، وحاضر البديهة، لا تفارق الابتسامة شفتيه، يحاول التعرُّف إلى من يلقاه من الناس، ويحاول تقديم ما يستطيع من خدمات وتسهيل أمور، فهو يلبّي كلّ طلبٍ فيه رضا الله وخدمةُ الدعوة، مهما كلّفه من جهد ومال ومشقّة… يسترخص كل شيء في سبيل الله، ولإخوانه ودعوته.
همومُ الأمة هي همومه يتفطّر قلبه لمصاب أخ، أو رؤية منكر، وتبلغ به السعادة مداها عند زوال ما نزل… يحاول تضميد الجراح، وإيقاف النزيف، وتخفيف حدّة الآلام والأحزان الملمّة بأبناء الدعوة والإسلام.
وكان التزامه بالإسلام أروع التزام، يطبّق مبادئه وتعاليمه وسننه تطبيقاً عملياً… قولاً وفعلاً، وكان سلوكه منبثقاً من فكره المنهجي الملتزم.
كان يجمع بين صفتين كريمتين، كأعلى مستوىً يمكن أن يتحلّى به تقيّ، وهما الذلّة على المؤمنين، والعزّة على الكافرين. وإذا وجِد من يتحلّى بإحدى الصفتين فإن التحلّي بهما جميعاً يعدُّ من المزايا النادرة.
وكان شجاعاً، مقداماً، ونذكر هنا حادثة من مجموع حوادث كلها تبرهن على شجاعته الفائقة. أما الأولى فكانت في مصر، عندما كان طالباً في الأزهر، فقد تقدّم عدد من إخواننا السوريين الذين يدرسون في الأزهر، بمذكرة إلى اتحاد المحامين العرب في القاهرة شرحوا فيها الأوضاع المتردّية للحرّيّات، وما صاحب الدستور العلماني الذي أراد حافظ أسد أن يفرضه على الشعب السوري، من مظاهرات سلمية احتجاجية قوبلت بالرصاص والدماء، وتحدّثت المذكّرة الطلابية عن التضييق على الحريّات العامة، وقهر
المواطنين، واعتقال العلماء… وتفاعلَ المحامون مع المذكرة التي قدّمها الشيخ محمد خير، وعندما علم أحد مشايخ حلب، من المحسوبين على النظام، نصحه ونصح إخوانه بأن يسحبوها، لأنهم سيعودون إلى سورية، وسوف يتحملون مسؤوليتها، فأبى الشيخ محمد خير أن يسحبها، ووقف معه إخوانه، وأصرّوا على عدم سحبها، وقال الشيخ محمد خير لذلك الشيخ الناصح:
هذه المذكرة أضعف الإيمان، ومن أقلّ الواجبات علينا.
قصص من داخل السجن:
هذه بعض قصصٍ رواها إخوة كانوا معتقلين مع الشيخ في اعتقاله الأخير الذي انتهى باستشهاده، رحمه الله. وهي قصص تدل على ذكائه، وتجرّده، وجرأته، وكرمه؛
قال له المحقق: أنت تحرّض الناس على السلطة، وتزعُم أنها سلطة غير شرعية، وأن طاعتها ليست واجبة عليهم …
فأجابه الشيخ: انظُرْ! إن الله قد أخذ على أهل العلمِ الميثاقَ بأن يبيّنوا الحق ولا يكتموه. وإن واجبي الشرعي يحتّم عليّ أن أقوم بهذا الواجب إبراءً لذمّتي أمام الله.
3. وتلقى الشيخ ألواناً هائلة من التعذيب، تركت على ظهره وساقيه وقدميه آثار السياط، بل خلّفت جروحاً عميقة، ثم التهابات، ثم ندوباً ظاهرة وأخاديد مشوِّهةً .
وكان الشيخ - رحمه الله – يحرص على ستر ذلك كله، ولا يحدِّث أحداً بما تعرَّض له من التعذيب، خوف أن يذهب ذلك ببعض ثوابه!.
4. وكان في الشهور التي قضاها في سجن القلعة، وهي أكثر الشهور سعةً وانفراجاً، كان يعقد لإخوانه المعتقلين معه في المهجع دروساً ودوراتٍ في عدد من العلوم الإسلامية، وحلقات لحفظ كتاب الله تعالى وحديث نبيه.
وبين حين وآخر كان والده الشيخ عبد القادر يرسل إليه بعض المال، لعلّه يخفف عن نفسه بهذا المال بعض الضيق. فماذا كان الشيخ محمد خير يفعل بهذا المال؟!
لقد كان يتفنّن بأساليب إنفاقه على إخوانه المعتقلين أو كان يوزّع المال على من يراهم أشدّ حاجة من غيرهم، أو يوزِّعه مكافآت على حفظة القرآن الكريم، والحديث الشريف… والمهم أنه لا ينبغي أن يبيت ليلته، بعد تسلّمه المال من والده، قبل أن يوزّع هذا المال على إخوانه.
استشهاده:
اعتُقِل الشيخ محمد خير مع آلاف الإخوان عام 1979 وكان صابراً محتسباً، وبعد أن حوكِم تلك المحاكمة الصوريّة المهزلة في محكمة أمن الدولة، قادوه إلى سجن تدمر، ليلقى الألاقي مع إخوانه البررة الأحرار الأطهار.
وقد روى بعض الإخوة الناجين من مجازر سجن تدمر الرهيب، أنهم سمعوا الشيخ محمد خير يكبّر بصوته الجهوري قبل أن يصعد إلى حبل المشنقة. وهذه كانت عادة الإخوان، فقد كان الأخ يكبّر بصوتٍ قويٍّ عالٍ، وهو يصعد إلى حبل المشنقة، أو قبيل إطلاق الرصاص عليه.
رحم الله المجاهد الشهيد محمد خير زيتوني، ورحم إخواننا الشهداء والمعتقلين جميعاً، فقد كان نموذجاً رفيعاً بين شباب الدعوة، مُلِىء إيماناً، وعلماً، وصبراً، وجهاداً…
وقد نال ما تمنّى إن شاء الله تعالى، وهو الآن – فيما نحسب، ولا نزكّي على الله أحداً، يرتع في رياض الجنة، في حوصلة طير أخضر إن شاء الله تعالى.