حدث في الثالث والعشرين من ذي القعدة
محمد زاهد أبو غدة
في الثالث والعشرين من ذي القعدة لعام 233، توفي في بغداد، عن 75 عاماً، الحافظ الكبير أبو زكريا يحيى بن مَعين المُرِّي البغدادي، الإمام الحافظ، شيخ المحدثين وأعرفهم بالرجال.
ولد ابن معين سنة 158، ونشأ ببغداد، ويرجع أصله إلى قرية من قرى الأنبار بالعراق يقال لها نقيا، وكان والده معين كاتباً لعبد الله بن مالك الخزاعي على خراج الريّ، ولم ينشأ ابن معين في أول حياته في الثراء لأن هارون الرشيد عين عبد الله بن مالك على الري سنة 189، وابن معين بدأ في طلب العلم في سنة 178، ولكن والده عندما توفي ترك له ألف ألف درهم، فأنفقها ابن معين على الرحلة في طلب الحديث حتى لم يبق له نعل يلبسه، ولكنه بعد أن أصبح من كبار المحدثين كان صاحب هيئة حسنة تماثل الأثرياء فقد كان يركب البغلة ويتجمل في لباسه.
سمع ابن معين الحديث من كبار المحدثين من أمثال عبد الله بن المبارك، وهشيم، وإسماعيل بن عياش، وسفيان بن عيينة، وعبد الرزاق الصنعاني، ووكيع بن الجراح، وخلق كثير بالعراق والحجاز والجزيرة والشام ومصر، وذهب إلى الحج مرات أولها في سنة 182 وعمره 24 عاماً حين ذهب راجلاً من بغداد إلى مكة المكرمة.
وروى عن ابن معين أئمةٌ من كبار المحدثين من أمثال أحمد بن حنبل، وأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري، وأبي داود السجستاني، وغيرهم مما لا يحصيهم العدد، وهو أسنُّ الجماعة الكبار الذين هم: علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو خيثمة، فكانوا يتأدبون معه، ويعترفون له، رحمهم الله تعالى.
قال الإمام علي بن المديني، المولود سنة 161 والمتوفى سنة 234: انتهى العِلمُ بالبصرة إلى يحيى بن أبي كثير وقتادة، وعِلمُ الكوفة إلى أبي إسحاق والأعمش، وعلم الحجاز إلى ابن شهاب وعمرو بن دينار، وصار علم هؤلاء الستة إلى اثني عشر رجلا: ابن أبي عَروبة، ومعمر، وشعبة، وحماد بن سلمة، وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة، ومالك، والأوزاعي، وابن إسحاق، وهشيم، وأبي عوانة، ويحيى بن سعيد، ويحيى بن أبي زائدة إلى أن ذكر ابن المبارك، وابن مهدي، ويحيى بن آدم.
فصار علم هؤلاء جميعهم إلى يحيى بن معين.
وعلَّق على هذا القول الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: نعم، وإلى أحمد بن حنبل، وأبي بكر بن أبي شيبة، وعلي بن المديني، وعدة. ثم من بعد هؤلاء إلى أبي عبدالله البخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وأبي داود، وطائفة. ثم إلى أبي عبدالرحمن النسائي، ومحمد بن نصر المروزي، وابن خزيمة، وابن جرير. ثم شرع العلم ينقص قليلا قليلا، فلا قوة إلا بالله.
ولسعة ذاكرته واهتمامه صار ابن معين المرجع الأول في توثيق رواة الحديث وتضعيفهم، واعترف له كبار الأئمة بذلك، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل المولود سنة 164 والمتوفى سنة 241، ولتقاربهما في السن كانت العلاقة بينهما وثيقة جداً، وكان بينه وبين الإمام أحمد من الصحبة والألفة والاشتراك في الاشتغال بعلوم الحديث ما هو مشهور ، وكان الإمام أحمد ابن حنبل، يقول: كل حديث لا يعرفه يحيى بن معين، فليس هو بحديث، وقال الإمام أحمد عن ابن معين في مناسبة أخرى: ها هنا رجل خلقه الله لهذا الشأن، يُظهِرُ كَذِب الكذابين. بل كان الإمام أحمد يحيل عليه من يسأله عن صحة الحديث، قال أبو سعيد الحداد: كنت عند أحمد فجاءه رجل، فقال: يا أبا عبدالله، انظر في هذه الاحاديث، فإن فيها خطأ. قال: عليك بأبي زكريا، فإنه يعرف الخطأ.
وقد يشتبه على القارئ غير المختص الفروقات بين الإمام أحمد وبين يحيى بن معين، ولبيان تخصص ابن معين فإن جواب ذلك عند معاصرهما الإمام الجليل اللغوي المحدث أبي عبيد القاسم بن سلام الذي قال: ربانيو الحديث أربعة، فأعلمهم بالحلال والحرام: أحمد بن حنبل، وأحسنهم سياقا للحديث وأداء له علي بن المديني، وأحسنهم وضعاً لكتاب ابن أبي شيبة، وأعلمهم بصحيح الحديث وسقيمه يحيى بن معين. وزاد هذا إيضاحاً الإمام أحمد بن حنبل فقد قال: أعلمنا بالرجال يحيى بن معين، وأحفظنا للأبواب سليمان بن داود الشاذكوني، وكان أحفظنا للطوال علي بن المديني. وينبغي الإشارة هنا أن كثيراً من المحدثين قد ضعّفوا الشاذكوني.
ونورد في هذا السياق رأي تلميذ لهما ذكره الإمام المحدث عبد المؤمن بن خلف النَسَفي المتوفى سنة 346: سألت صالح جزرة، أبا علي صالح بن محمد المتوفى سنة 293: من أعلمُ بالحديث يحيى بن معين أو أحمدُ بن حنبل؟ فقال: أحمد أعلم بالفقه والاختلاف، وأما يحيى، فأعلم بالرجال والكُنى.
وكان يحيى بن معين يجِلُّ الإمام أحمد ويعتبر الحديث عن فضائله من باب مجالس الذكر، فقد كان يحيى بن معين في مجلس فيه جماعة من كبار العلماء، فجعلوا يثنون على أحمد بن حنبل ويذكرون فضائله، فقال رجل: لا تكثروا، بعضَ هذا القول! فقال يحيى بن معين: وكثرة الثناء على أحمد بن حنبل تُستكثر، لو جلسنا مجلسنا بالثناء عليه ما ذكرنا فضائله بكمالها، ذِكرُ أبي عبد الله من محاسن الذكر! وصاح يحيى بالرجل. ومن عادة الناس أن تقارن الصاحبين بعضهما ببعض، ويبدو أن ذلك وقع في المقارنة بين الإمام أحمد وبين يحيى بن معين، ولكن يحيى كان يقول: أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد بن حنبل، لا والله لا نقدر على أحمد، ولا على طريق أحمد.
وبيَّن الإمام ابن معين منهجه في نقد الرجال وبيان أحواله، فقال: ما رأيت على رجل خطأ إلا سترته، وأحببت أن أزين أمره، وما استقبلت رجلا في وجهه بأمر يكرهه، ولكن أبين له خطأه فيما بيني وبينه، فإن قبل ذلك، وإلا تركته.
وبيَّن كذلك اتقاءه الخطأ ودقته في الرواية فقال: إني لأحدِّث بالحديث فأسهر له مخافة أن أكون قد أخطأت فيه.
قال الحافظ الكبير محمد بن يحيى الذهلي النيسابوري، المولود سنة 172 والمتوفى سنة 258، وكان حافظَ خراسان: سمعت يحيى بن معين يقول: الذَّبُّ عن السنة أفضل من الجهاد في سبيل الله، فقلت ليحيى: الرجل ينفق ماله، ويتعب نفسه، ويجاهد، فهذا أفضل منه!؟ قال: نعم، بكثير. وهذا من الإمام فقهٌ عظيم للأولويات وأهمية بناء الأسس الفكرية على هدي من القرآن، والسنة النبوية تشرحه وتفصِّله.
وقد يتبادر إلى الذهن أن يحيى بن معين رحمه الله نظراً لتصديه لتعديل الناس وتجريحهم وبيان مثالبهم، أنه رحمه الله غليظ القلب، يتعالي بعلمه أو صلاحه على الناس، ولكنه كان أبعد الناس عن ذلك، واعياً لمهمته الدقيقة والحرجة في تعديل الرجال وبيان أحوالهم، وكان يعلم أن ذلك محفوف بمخاطر كبيرة أقلها شبهة الغيبة، ولكنه أمرٌ لا بد منه لحماية السنة النبوية من الكذابين والوضاعين، قال يحيى بن معين مبيناً وعيه واحتسابه لما يقوم به: إنا لنطعن على أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من أكثر من مئتي سنة!
ولأنه كشف كثيراً من الكذابين والمدلسين، كان مكروهاً عند جمع غفير منهم، ولذا قال الإمام المحدث أبو حاتم الرازي: إذا رأيت البغدادي يحب أحمد بن حنبل، فاعلم أنه صاحب سنة، وإذا رأيته يبغض يحيى بن معين، فاعلم أنه كذاب. وقال محدث آخر: إذا رأيت الرجل يقع في يحيى بن معين، فاعلم أنه كذاب، يضع الحديث، وإنما يبغضه لما يبين من أمر الكذابين.
ولزم الإمامَ ابنَ معين وصار راويتَه محدثٌ كبير وحافظ جليل هو عباس الدُّوريّ، أبو الفضل عباس بن محمد، مولى بني هاشم، المولود سنة 185 والمتوفى سنة 271، فقد أخذ عنه دهراً وأكثر عنه، وسأله عن الرجال، وكان يحيى إذا ذكره قال: عباس الدوري صديقنا وصاحبنا. وهو الذي روى كتاب تاريخ يحيى بن معين، وقد طبعته جامعة أم القرى بمكة المكرمة سنة 1399= 1979 بتحقيق فضيلة الأستاذ د. أحمد محمد نور سيف.
وكان يحيى بن معين على جلالة قدره وهيبته، خفيف الروح مع أصحابه المقربين من المحدثين، ومن مزاحه معهم أنه لقب بعضهم بألقاب محببة لا نبز فيها، أحبها من أُطلِقت عليه وتشرف بها، فلقب محمدَ بن إبراهيم بمربع، ولقب عبيد بن حاتم بالعجل، ولقب صالح بن محمد بجزرة، ولقب محمد بن صالح بكيلجة، والكيلجة: مثقال من الأوزان، وهؤلاء كلهم من كبار أصحابه وحفاظ الحديث.
صنف الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام الخُراساني ، المتوفى بمكة سنة 224، كتاباً جليلاً في غريب الحديث النبوي، ولم يكن كتاب أبي عبيد بأول كتاب في غريب الحديث، بل سبقه إلى ذلك أئمة من أهل اللغة والحديث مثل أبي عبيدة معمر بن المثنى، وقُطْرُب، والأخفش، والنضر بن شميل، ولم يأتوا بالأسانيد، وعمل أبو عدنان النحوي البصري كتاباً في غريب الحديث، وذكر فيه الأسانيد، وصنفه على أبواب السنن والفقه إلا أنه ليس بالكبير؛ فجمع أبو عبيد عامة ما في كتبهم، وفسرَّه، وذكر الأسانيد، وصنف المسند على حدته وأحاديث كل رجل من الصحابة والتابعين على حدته، وأجاد تصنيفه، فرغب فيه أهل الحديث والفقه واللغة لاجتماع ما يحتاجون إليه فيه.
وقد بذل القاسم بن سلام في كتاب غريب الحديث عمره، ونعى على من يأتيه ويريد أن يتلقى منه هذا العلم في شهور معدودة، قال رحمه الله: أمضيت في تصنيف هذا الكتاب أربعين سنة، وربما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال، فأضعها في موضعها من الكتاب فأبيت ساهراً فرحاً مني بتلك الفائدة، وأحدكم يجيئني فيقيم عندي أربعة أشهر أو خمسة أشهر فيقول قد أقمت الكثير!
وكان يحيى بن معين صديقاً لأبي عبيد، وقد تزاملا في الرحلة إلى مصر سنة 213، وكان أول من سمع هذا الكتاب من أبي عبيد تقديراً لمكانته واستفادة من علمه، ولما رأى الإمام أحمد بن حنبل الكتاب استحسنه وكتبه، وقال: جزاه الله خيراً، أبو عبيد ممن يزداد عندنا كل يوم خيراً. وأثنى على أبي عبيد يحيى بن معين وجعله فوق أن يُسأل عنه، قال حمدان بن سهل: سألت يحيى بن معين عن الكتابة عن أبي عبيد والسماع منه، فقال: مثلي يُسأل عن أبي عبيد؟! أبو عبيد يُسأل عن الناس. لقد كنت عند الأصمعي يوماً إذ أقبل أبو عبيد، فشقَّ إليه بصره حتى اقترب منه، ثم قال: أترون هذا المقبل؟ قالوا: نعم، قال: لن يضيع الناس ما حيي هذا المقبل.
وكان في أيام ابن معين إمام مشهور بالزهد والتصوف الصادق هو الإمام معروف الكرخي المتوفى سنة 200، وكان الإمام أحمد يجله ويقدره، وكان لدى معروف الكرخي جزء حديثي، فقصده الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين يكتبان عنه، فقال يحيى: أريد أن أسأله عن مسألة، فقال له أحمد: دعه. فسأله يحيى عن مغزى سجدتي السهو، فقال له معروف: عقوبة للقلب لم اشتغل وغفل عن الصلاة؟ فقال أحمد بن حنبل ليحيى بن معين: هذا في كيسك؟ وهو تعبير شائع في ذلك الزمان يعني: هل عندك من هذا الباب؟ أشار به الإمام أحمد إلى توفيق الله لمعروف الكرخي في فهم علة هذا الحكم الفقهي.
تأثر الإمام يحيى بن معين بأساطين الفقه الحنفي في عصره من تلاميذ الإمام أبي حنيفة، وأولهم تلميذه الإمام القاضي أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم، المولود سنة 113والمتوفى سنة 182، وكان من المحدثين، قال الإِمام أحمد بن حنبل: أول ما طلبت الحديث اختلفتُ إلى أبي يوسف فكتبتُ عنه، ثم دُرت على المشايخ. وقال يحيى بن مَعِين يقول: ما رأيت فِي أصحاب الرأي أثبت فِي الحديث، ولا أحفظ، ولا أصح رواية من أبي يوسف، أبو يوسف: صاحب حديث وصاحب سنة. وقال يحيى بن معين: القراءة عندي قراءة حمزة، والفقه فقه أبي حنيفة على هذا أدركتُ الناس. ونقل يحيى بن معين عن يحيى بن سعيد القطان البصري، المولود سنة 120 والمتوفى سنة 198، وهو من أقران الإمام مالك، قوله: جالسنا والله أبا حنيفة وسمعنا منه، وكنتُ والله إذا نظرتُ إليه عرفتُ في وجهه أنه يتقي الله عز وجل.
وأخذ الإمام يحيى بن معين عن تلميذ أبي حنيفة الإمام محمد بن الحسن الشيباني، المولود سنة 132 والمتوفى سنة 189، وكتب عنه كتاب الجامع الصغير، وتأثر ابن معين بمدرسة أبي حنيفة الفقهية وبدا ذلك واضحاً في اختياراته الفقهية التي خالف فيها أهل الحديث، حتى قال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: قد كان أبو زكريا رحمه الله حنفياً في الفروع، ثم عدّد الذهبي آراءه الفقهية التي تبع فيها المذهب الحنفي، ومنها رأيه في زكاة الفطر: لا بأس أن تعطى فضة، وأن من صلى خلف الصف وحده: يعيد الصلاة، ومن صلى بقوم على غير وضوء، قال: لا يعيدون ويعيد.
وإن الباحث ليعجب من روايات أخرى أوردتها كتب فيها تحامل على الأحناف، وترويها عن ابن معين نفسه تناقض هذه الروايات، وتقدح في الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، ولست من أهل العلم والنقد لأميز بين هذه الروايات وأرجح بينها، أو أوفق بينها، ولكنني رغبت في الإشارة إلى ورودها استكمالاً للموضوع.
وتحت هذا الباب تنبغي الإشارة كذلك إلى أن يحيى بن معين وعلي بن المديني وبعض المحدثين قد ضعفوا الإمام الشافعي في ميدان الحديث، على أن فضله مشهور معروف ولا خلاف في إمامته.
خرج الإمامان يحيى بن معين وأحمد بن حنبل إلى اليمن للقاء محدثيها والتلقي عنهم وعلى رأسهم عبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفى سنة 211، وهشام بن يوسف المتوفى سنة 179، وخرج معهما محدث جليل هو أحمد بن منصور الرمادي المتوفى سنة 265 في صورة الخادم لهما، ومعما كذلك الحافظ أبو خيثمة زهير بن حرب المولود سنة 160 والمتوفى سنة 234، وروى كيف تبين في اليمن معرفة يحيى بن معين بالحديث الشريف ورواته، قال أبو خيثمة:
لما قدمنا صنعاء غلق الباب عبد الرزاق، ولم يفتحه إلا لأحمد بن حنبل، لديانته، فدخل، فحدثه بخمسة وعشرين حديثاً، ويحيى بن معين بين البابين جالس، فلما خرج قال يحيى لأحمد: أرني ماحدثك؟ فنظر فيها، فخطَّأ الشيخَ في ثمانية عشر حديثاً، فلما سمع أحمد بالخطأ رجع، فأراه موضع الخطأ، وأخرج عبد الرزاق الأصول، فوجده كما قال يحيى، ففتح الباب، فقال: ادخلوا، وأخذ مفتاح بيت، فسلمه إلى أحمد بن حنبل، وقال: هذا البيت ما دخلته يد غيري منذ ثمانين سنة، أسلمه إليكم بأمانة الله على أنكم لا تقولون ما لم أقل، ولا تُدخِلون علي حديثاً من حديث غيري. ثم أومأ لأحمد، فقال: أنت أمين الله على نفسك وعليهم. وفي القصة شيء من المبالغة أو التناقض في قوله منذ ثمانين سنة، فقد توفي الإمام عبد الرزاق عن 85 عاماً.
وحدثت لابن معين وأحمد بن حنبل قصة طريفة مع أبي نُعيم الفضل بن دكين، الحافظ الكبير، شيخ الإسلام المولود سنة 130 والمتوفى سنة 219، وروى القصة الحافظ أحمد بن منصور الرمادي خادمهما في هذه الرحلة قال: لما عدنا من اليمن إلى الكوفة، وفيها أبو نعيم، قال يحيى بن معين لأحمد بن حنبل: أريد أختبر أبا نعيم، فقال له أحمد: لا تزد، الرجل ثقة. فقال يحيى بن معين: لا بد لي.
فأخذ ورقة وكتب فيها ثلاثين حديثاً من حديث أبي نعيم، وجعل على رأس كل عشرة منها حديثاً ليس من حديثه، ثم جاءا إلى أبي نعيم فدقا عليه الباب، فخرج فجلس على دكان طين حذاء بابه، فأخذ أحمد بن حنبل فأجلسه عن يمينه، وأخذ يحيى بن معين فأجلسه عن يساره، ثم جلست أسفل الدكان.
فأخرج يحيى بن معين الطبق، فقرأ عليه عشرة أحاديث، وأبو نعيم ساكت، ثم قرأ الحديث الحادي عشر، فقال له أبو نعيم: ليس من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشر الثاني وأبو نعيم ساكت، فقرأ الحديث الثاني فقال أبو نعيم: ليس من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشر الثالث، وقرأ الحديث الثالث فتغير أبو نعيم وانقلبت عيناه وأقبل على يحيى بن معين فقال له: أما هذا - وذراع أحمد في يده - فأورع من أن يعمل هذا، وأما هذا - يريدني - فأقل من أن يفعل مثل هذا، ولكن هذا من فعلك يا فاعل، ثم أخرج رجله فرفس يحيى بن معين فرمى به من الدكان، وقام فدخل داره، فقال أحمد ليحيى: ألم أمنعك من الرجل وأقل لك إنه ثبت؟ ! فقال: والله لرفسته لي أحب إلي من سفري.
وهناك قصة أخرى طريفة تتناول كذاباً في مسجد يروى حديثاً بزعمه عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وكانا حاضرين، فلما قاما إليه وواجهاه ببهتانه، قال لهما: كأن ليس في الدنيا يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل غيركما!! كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين غيركما. وقد قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: هذه الحكاية اشتهرت على ألسنة الجماعة، وهي باطلة.
ومن المحدثين الثقات في زمن يحيى بن معين: غُندُر، محمد بن جعفر البصري المتوفى سنة 193 وهو في عَشر الثمانين، وكان فيه بساطة وسذاجة مع ضبط وحفظ لما يرويه، وكان يحيى بن معين يسايره لعلمه بسلامة صدره وطويته، قال يحيى بن معين: دخلنا على غندر في البصرة، فقال: لا أحدثكم بشئ حتى تجيئوا معي إلى السوق وتمشون، فيراكم الناس، فيكرموني.
قال: فمشينا خلفه إلى السوق، فجعل الناس يقولون له: من هؤلاء يا أبا عبد الله؟ فيقول: هؤلاء أصحاب الحديث، جاؤوني من بغداد يكتبون عني.
وكان أبو سعيد الحرَّاني، يحيى بن عبد الله بن الضحاك، المعروف بالبابْلُتي، والمتوفى سنة 218 عن 90 عاماً، يحدث عن الأوزاعي بسنده أحاديث إلى عائشة وإلى أبي هريرة رضي الله عنهما، وقدِمَ يحيى بن معين حرَّان فطمع البابلتي أن يجيئه، فوجه إليه بصرة فيها مئة دينار وطعام طيب، فرد الصرة وقبل الطعام، فقيل ليحيى يوم رحل: ما تقول في البابلتي؟ قال: إن صلته حسنة وطعامه طيب إلا أنه لم يسمع والله من الأوزاعي شيئاً.
ولعل الحديث عن هذا الإمام الجليل يمنحنا فرصة لذكر مثال واحد على شدة التقصي والتدقيق عند المحدثين في العصر الذهبي للحديث، فقد كان من محدثي ذلك العصر حافظٌ إمامٌ حجةٌ، هو أبو سلمة موسى بن إسماعيل التَبُوذَكي، المتوفى بالبصرة سنة 223، وقصده يحيى بن معين ليسمع عنه الحديث، فكتب عنه 35.000 حديث، وقال عنه: ما جلست إلى شيخ إلا هابني، أو عرف لي، ما خلا هذا التبوذكي.
وحدثت القصة التالية بين هذين المحدثين الكبيرين: كتب يحيى بن معين عن التبوذكي، ثم قال له: إني أريد أن أذكر لك شيئا، فلا تغضب. قال: هات، قال: حديث همام، عن ثابت، عن أنس، عن أبي بكر حديث الغار، لم يروه أحد من أصحابك، إنما رواه عفان وحبان، ولم أجده في صدر كتابك، إنما وجدته على ظهره، قال: فتقول ماذا؟ قال: تحلف لي أنك سمعته من همام؟ قال: ذكرتَ أنك كتبت عني عشرين ألفا، فإن كنت عندك فيها صادقا، فما ينبغي أن تكذِّبني في حديث، وإن كنت عندك كاذبا، ما ينبغي أن تصدقني فيها، ولا تكتب عني شيئا، وترمي به! بَرَة بنت أبي عاصم طالقٌ ثلاثا إن لم أكن سمعته من همام! والله لا كلمتك أبدا!
ولما رحل ابن معين إلى الشام قابل محدثها الإمام أبو مسهر، عبد الأعلى بن مسهر الغساني الدمشقي، المولود سنة 139 والمتوفى سنة 218، ويبدو أن بعض المحدثين رغبوا إليه أن يحدثهم يحيى بن معين في دمشق، فأبى وقال: الذي يحدث ببلد به من هو أولى بالتحديث منه أحمق.
إن حِرصَ المحدثين على طلب الحديث والرواية في كل حين أمرٌ معروف وغني عن التأكيد، ونجتزأ في هذا الصدد بقصة واحدة في سيرة الإمام يحيى بن معين، فقد كان المحدث محمد بن عبيد الله المنادي، المولود سنة 171 والمتوفى سنة 272، يروى قولاً عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن عمر بن ذر الهمداني أنه كان يقول: اللهم إنا أطعناك في أحب الأشياء إليك: شهادة أن لا إله إلا أنت، ولم نعصك في أبغض الأشياء إليك: الشرك، فاغفر لنا ما بينهما.
قال محمد بن عبيد الله المنادي: حضرت جنازة فذكرت هذا الحديث لقوم معي فجذبني رجل من خلفي فالتفتُّ فإذا هو يحيى بن معين فسلمت عليه، فقال: يا أبا جعفر حدثني هذا عن أبي النضر فإني ما كتبته عنه. فامتنعت من ذلك إجلالاً له، فما تركني حتى أجلسني في ناحية من الطريق وكتبه عني في ألواح كانت معه.
وكان علم الحديث في ذلك العصر قائماً على أن يكتب كل محدث ما يسمعه من أحاديث بيده، فلا يعتمد على كتابة غيره، بل عُدَّ ذلك ثلباً في بعض المحدثين، وكان عماد ذلك أن يكون القلم والمحبرة جاهزين لئلا يفوت المحدث بعض الكلام وهو يبري قلمه أو يصلح دواته، ولذا قال يحيى بن معين: إذا رأيتَ الرجل يخرج من منزله بلا محبرة ولا قلم، يطلب الحديث، فقد عزم على الكذبة. وكان منهج يحيى بن معين هو كتابة كل ما يسمعه من الشيوخ أو العلماء دون اقتصار على الحديث الصحيح وكان يقول: سيندم المنتخِبُ في الحديث حيث لا تنفعه الندامة. وكان كذلك لا يقتصر في النقل والكتابة على مادة اختصاصه وهي الحديث الشريف، وكان يحيى بن معين يقول: إذا كتبت فقمِّش، وإذا حدثت ففتش. والتقميش هو جمع الفوائد من هنا وهناك.
قال يحيى بن معين: كنت أنا وأحمد بن حنبل عند عبد الرزاق الصنعاني، وكنت أكتب الشعر والحديث، وكان أحمد يكتب الحديث وحده، فخرج إلينا يوماً عبد الرزاق، وهو يقول:
كن موسراً إن شئت أو معسراً ... لا بد في الدنيا من الهم
وكلما زادك من نعمة زا ... دك ما زادك من غم
فقال له أحمد: كيف قلت؟ كيف قلت؟ فأعادها عليه فكتبها.
وفي سنة 218 بدأ الخليفة العباسي المأمون في محاولة إجبار العلماء على اعتناق المذهب المعتزلي الذي يقول إن القرآن مخلوق من مخلوقات الله وليس كلاماً صادراً عنه، وهو ما يسميه المؤرخون بمحنة خلق القرآن، وكانت عقوبة القتل تنتظر من لم يقل إن القرآن مخلوق بحجة أنه قد كفر بأن نسب إلى الله صفة بدنية من صفات المخلوقات وهي الكلام، وأظهر عدد كبير من العلماء موافقتهم على هذا الرأي خشية من القتل، واستعمل بعضهم التورية في ذلك، إلا الإمام أحمد بن حنبل الذي رفض بإصرار وضُرب ضرباً مبرحاً بالسياط دون أن يتراجع عن رأيه.
وكان يحيى بن معين وعلي بن المديني ممن أظهر موافقته على أن القرآن مخلوق، وذلك خوفاً من السيف، وسئل الإمام أحمد بن حنبل عن كتابة الحديث عن يحيى بن معين وأمثاله، فكان لا يرى الكتابة عن أبي نصر التّمّار، ولا عن يحيى بن معين، ولا أحدٍ ممّن امتحن فأجاب. وتبرير ذلك مع تمام الثقة بصحة نقلهم وبعدهم عن الكذب أن ذلك يضعهم في موقع الأستاذية، فيتأثر الناس بآرائهم. ولا تذكر لنا كتب التاريخ إن استمر الإمام أحمد على رأيه أم أنه عدل عنه فيما بعد!
أما يحيى بن معين فقد كان له رأي مغاير، فقد ذُكر عنده علي بن المديني مرة فحمل الحاضرون عليه فقال أحدهم ليحيى: يا أبا زكريا، ما عليٌّ عند الناس إلا مرتد! فقال: ما هو بمرتد، هو على إسلامه: رجلٌ خاف فقال، ما عليه؟
خرج يحيى بن معين من بغداد إلى الحج في سنة 233، وحدَّث أحد رفاقه أنهم لما وصلوا بلدة فيد، أُهدي إلى يحيى فالوذج لم ينضج، قال: فقلنا له: يا أبا زكريا، لا تأكله، فإنا نخاف عليك. فلم يعبأ بكلامنا وأكله، فما استقر في معدته حتى شكا وجع بطنه وانسهل، إلى أن وصلنا إلى المدينة ولا نهوض به، فتفاوضنا في أمره، ولم يكن لنا سبيل إلى المقام عليه لأجل الحج، ولم ندر ما نعمل في أمره، فعزم بعضنا على القيام عليه وترك الحج. وبتنا فلم يصبح حتى وصَّى ومات.
فلما أصبحنا تسامع الناس بقدومه وبموته، فاجتمع العامة، وجاءت بنو هاشم، فقالوا: نخرج له الأعواد التي غسل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكرِهَ العامةُ ذلك، وكثر الكلام، فقالت بنو هاشم: نحن أولى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أهلٌ أن يغسل عليها، فغُسِلَ عليها، وصلى عليه الناس، وخرجت جنازته، ورجل ينادي بين يديه: هذا الذي كان ينفي الكذب عن حديث رسول الله.
وخلف يحيى من الكتب 114 قِمطَراً، وأربعة حُباب - خوابي- شَرابية مملوءة كتباً، ولا عجب في ذلك، فقد قال الإمام علي بن المديني: لا نعلم أحدا من لدن آدم كتب من الحديث ما كتب يحيى. وقال هو: كتبت بيدي هذه ست مئة ألف حديث. قال الإمام الذهبي: يعني بالمكرر، ألا تراه يقول: لو لم نكتب الحديث خمسين مرة ما عرفناه.
وقال يحيى بن معين: ما الدنيا إلا كحلم، والله ما ضرَّ رجلا اتقى الله على ما أصبحَ وأمسىَ، لقد حججت وأنا ابن أربع وعشرين سنة، خرجت راجلا من بغداد إلى مكة، هذا من خمسين سنة كأنما كان أمس!
كان الإمام يحيى بن معين ينشد الشعر في مجالسه ترويحاً عن نفوس الحاضرين، وروي عنه إنشاده لعدد من الأشعار في الزهد والوعظ والغزل، ولا ندري إن كان هو رحمه الله قد نظمها أم أنشدها فحسب، ومن ذلك ما أنشده في الزهد:
المال يذهب حِلُّه وحرامُه ... يوماً وتبقى في غد آثامه
ليس التقي بمتق لإلهه ... حتى يطيب شرابه وطعامه
ويطيب ما يحوي وتكسب كفه ... ويكون في حسن الحديث كلامه
نطق النبي لنا به عن ربه ... فعلى النبي صلاته وسلامه
ومنها في الغزل:
له حقٌ وليس عليه حقٌ ... ومهما قال فالحسنُ الجميلُ
وقد كان الرسولُ يرى حقوقاً ... عليه لأهله وهو الرسول
ومنها في التذكير بالآخرة:
نؤمل أن نبقى طويلاً وإنما ... نَعُدُّ من الأيام طَرفاً وأنفاساً
ولابن الجوزي رحمه الله في كتابه صيد الخاطر فصلٌ هامٌّ وسديدٌ في ارتباط الحديث بالفقه، ارتأيت إيراده لأهميته في بيان الفاضل والمفضول من العلوم ولبيان أن غرض الشريعة غرضٌ عمليٌ هو خدمة الناس وبيان الحلال والحرام لهم، والفقه هو سبيل ذلك. قال رحمه الله:
فصلٌ في ارتباط الحديث بالفقه:
هذا فصل غزير الفائدة: اعلم أنه لو اتسع العمر لم أمنع من الإيغال في كل علم إلى منتهاه، غير أن العمر قصير والعلم كثير، فينبغي للإنسان أن يقتصر من القراءات إذا حفظ القرآن على العشر، ومن الحديث على الصحاح والسنن والمسانيد المصنفة، فإن علوم الحديث قد انبسطت زائدة في الحد، والمتون محصورة، وإنما الطرق تختلف.
وعلم الحديث يتعلق بعضه ببعض وهو مُشتهى، والفقهاء يسمونه علم الكسالى، لأنهم يتشاغلون بكتابته وسماعه، ولا يكادون يعانون حفظه، ويفوتهم المهم وهو الفقه، وقد كان المحدثون قديماً هم الفقهاء، ثم صار الفقهاء لا يعرفون الحديث، والمحدثون لا يعرفون الفقه، فمن كان ذا همة ونصح نفسه تشاغل بالمهم من كل علم، وجعل جل شغله الفقه، فهو أعظم العلوم وأهمها.
ولو اتسع العمر كان استيفاء كل الطرق في كل الأحاديث غاية في الجودة، ولكن العمر قصير، ولما تشاغل بالطرق مثل يحيى بن معين فاته من الفقه كثير، حتى أنه سئل عن الحائض أيجوز أن تغسل الموتى! فلم يعلم، حتى جاء أبو ثور، إبراهيم بن خالد المتوفى سنة 240، فقال: يجوز، لأن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أُرجِّلُ رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض.
فيحيى أعلم بالحديث منه، ولكن لم يتشاغل بفهمه، فأنا أنهى أهل الحديث أن تشغلهم كثرة الطرق، ومن أقبح الأشياء أن تجري حادثة يُسأل عنها شيخ قد كتب الحديث ستين سنة فلا يعرف حكم الله فيها.
وكذلك أنهى من يتشاغل بالتزهد والانقطاع عن الناس أن يُعرِضَ عن العلم، بل ينبغي أن يجعل لنفسه منه حظاً ليعلم إن زلَّ كيف يتخلص.