سطور من حياة الداعية الرباني عمر التلمساني (15)
سطور من حياة الداعية الرباني
عمر التلمساني (15)
بدر محمد بدر
عارض الإخوان المسلمون زيارة الرئيس السادات للقدس, وعارضوا توقيع اتفاقيات كامب ديفيد مع العدو الصهيوني المحتل, وكانت افتتاحيات مجلة "الدعوة" تتحدث عن ذلك بكل وضوح, وربما كان هذا الموضوع من أوائل الأزمات التي وترت الأجواء بين الرئيس السادات والإخوان المسلمين, وعندما التقى الأستاذ عمر بالرئيس السادات بعد ذلك في استراحة الرئاسة بمدينة القناطر الخيرية سأله الرئيس عن سبب معارضته لمعاهدة السلام, فقال التلمساني: إني لا أعارض المعاهدة سياسة (أي لأكسب بها مواقف سياسية), ولكني أعارضها ديناً, لأن الإسلام يرفض أن يعترف المسلم لغير المسلم باغتصابه أرضاً مسلمة, لأنه إذا ديست أرض المسلمين, وجب على كل مسلم ومسلمة أن يخرجوا للجهاد, حتى تخرج المرأة بغير إذن زوجها, والعبد بغير رضاء سيده.. ويقول الأستاذ عمر: "وأقسم غير حانث أن السادات قال لي: اكتب (أي عارض كما تشاء) وهي حسنة لا أنساها له".
لكن الرئيس السادات لم ينس أن الإخوان المسلمين عارضوا زيارته للقدس واتفاقيات السلام مع إسرائيل, وخلقوا رأياً عاماً في المجتمع المصري, رافضاً لهذا التوجه السياسي, فكان اتهامه للأستاذ التلمساني في اللقاء الشهير الذي عقد في مدينة الإسماعيلية ليلة الثامن والعشرين من شهر رمضان 1399 (1979), وهو اللقاء الذي اعتاد الرئيس على إقامته سنوياً في مدينة الإسماعيلية, بعنوان " ملتقى الفكر الإسلامي " مع عدد من العلماء والدعاة ورجال الأزهر احتفاءً بليلة القدر, وفي ذلك العام طلب السيد منصور حسن وزير الثقافة والإعلام (وقتها) من الأستاذ عمر أن يحضر اللقاء, بناءً على رغبة الرئيس السادات, وبعد أخذ ورد قال له الأستاذ عمر إنه قبل الدعوة لكنه لن يحضر, لأنه كان يرى في رئيس الجمهورية حرصاً على التعالي على الناس جميعاً, وبالتالي فلا فائدة ترجى من اللقاء.
وفي أول اجتماع لمجلس تحرير "الدعوة" قبيل ذهابه إلى ملتقى الفكر الإسلامي, عرض الأستاذ عمر الدعوة التي تلقاها من الوزير منصور حسن لحضور الملتقى بمدينة الإسماعيلية, وطلب رأي الحضور في جدوى المشاركة من عدمها, وكان مجلس التحرير حينذاك عبارة عن مجموعتين: الأولى كبار السن من الإخوان وهم أقلية, منهم الأستاذ صالح عشماوي والأستاذ مصطفى مشهور والشيخ محمد عبد الله الخطيب, والثانية شباب من طلبة كلية الإعلام ومن طلاب الجامعات وكنت أقدمهم في العمل بالمجلة, وكان الجميع لايزيدون على خمسة عشر أخاً, ولم يكن لطلاب الجامعة حينئذ أي ارتباط تنظيمي بالإخوان, ورغم ذلك آثر الأستاذ عمر سؤال الجميع: هل أذهب أم لا ؟ وانقسم الحضور إلى فريقين: الأول يرى أنه لامانع من الذهاب لحضور اللقاء, فقد يكون خيراً للإخوان, كأن تتاح له الفرصة للدفاع عنهم, وإن لم يكن ذا فائدة فلن يضر, وكنت من أنصار هذا الرأي, والثاني كان يرى عدم جدوى الحضور, لأن الرئيس السادات سوف يستغل الفرصة للإساءة والهجوم على الجماعة, وكان الرأي الأول هو الغالب, ولم يتحدث الأستاذ عمر مؤيداً لرأي دون رأي, حتى إذا كانت الأغلبية تؤيد ذهابه قال: إذن سأحضر الملتقى.
كان هذا اللقاء بعد وفاة زوجته ورفيقة حياته بنحو أسبوعين, وقد تأثر بشدة بهذا الفراق, وشعر كل من حوله بلوعة الموت وخصوصاً بعد أن قارب الخامسة والسبعين من العمر, لكنه رغم الألم كان متماسكاً وصابراً محتسباً.
بين السادات والتلمساني
يقول الأستاذ عمر: "وفي ليلة 28 من شهر رمضان من ذلك العام (1399 ـ 1979) سافرت إلى الإسماعيلية في صحبة الأخوين الكريمين الحاج مصطفى مشهور والدكتور عبد العظيم المطعني, ـ رحمهما الله ـ وعندما وصلت إلى مكان الاجتماع جلست في آخر الصفوف, وبعد دقائق جاءني المشرف على تنظيم الحفل, وألح وأصر على أن أجلس في الصف الأول, وقلت إن ذلك تكريم منهم لي فتفاءلت خيراً, ولعل هناك بدءاً لتفاهم جديد (بين السلطة والإخوان المسلمين), ولكن هذه الجلسة كانت لغرض كشفت عنه أحداث الحفل, فقد أجلسني منظم الحفل في الصف الأول على كرسي, لو مددت منه خطاً مستقيماً لوجدته ينتهي عند الكرسي الذي يجلس عليه الرئيس السادات في منصة الملتقى, وكأنهم أرادوا بذلك أن أكون أقرب من الرئيس, عندما بدأ سيل اتهاماته المنهمرة يترامى من حولي شمالاً وجنوباً ويميناً ويساراً, رجاء أن يصيب مني مقتلاً.. تهم لي وللإخوان لا حصر لها, بالتخريب والعمالة وإثارة الطلبة والفتنة الطائفية.. وطال السباب وضاق الصدر واستثارتني عاطفة الحب للإخوان, فقاطعته قائلاً: إن هذا كلام يحتاج إلى ردود, فأجابني "لما أخلص كلامي رد كما تشاء".
".. وما أن انتهى من حديثه, حتى وقفت أمام الكرسي الذي كنت أجلس عليه, ولم يكن أمامي مذياع ولا مكبر صوت, ولم يكن في ذهني رد بعد, ولكن الله سبحانه يدافع عن الذين آمنوا, وأساله سبحانه أن أكون من بينهم, ألهم منظمي الحفل أن يأتوني بمكبر صوت أتحدث من خلاله, ولعلهم حرصوا من وراء ذلك أن يسمعوا العالم اعتذاراتي وأسفي وحسرتي على ما بدر مني, فيبعث ذلك الراحة في صدره المثقل بعدوانه للإخوان المسلمين, لكني فندت كل التهم التي وجهها إلىّ وإلى الإخوان واحدة واحدة بالدليل والبرهان, وختمت ردي بالعبارة التالية: "لو أن غيرك وجه إلىّ مثل هذه التهم لشكوته إليك (بصفتك رئيس الجمهورية), أما وأنت يا محمد يا أنور يا سادات صاحبها, فإني أشكوك إلى أحكم الحاكمين, وأعدل العادلين, لقد آذيتني يا رجل, وقد ألزم الفراش أسابيع من وقع ما سمعت منك..".