سطور من حياة الإمام المجدد "حسن البنا" (9)

سطور من حياة الإمام المجدد

"حسن البنا"

(9)

الإمام الشهيد حسن البنا

بدر محمد بدر

[email protected]

لم يدع "حسن البنا" أن عالم أو فقيه, ولكنه اختار وصف المدرس الذي درس بعض الأحكام الشرعية, ويريد أن ينشرها بين الناس, فلا محل إذن لجدال عقيم, أو نقاش سقيم, أو سقطة لا طائل من ورائها, ومن أقواله في هذا المقام:

".. إن هذه المسائل اختلف فيها المسلمون مئات السنين, ولازالوا مختلفين, والله تبارك وتعالى يرضى منا بالحب والوحدة, ويكره منا الخلاف والفرقة, فأرجو أن تعاهدوا الله أن تدعوا هذه الأمور الآن, وتجتهدوا في أن نتعلم أصول الدين وقواعده, ونعمل بأخلاقه وفضائله العامة, وإرشاداته المجمع عليها, ونؤدي الفرائض والسنن, وندع التكلف والتعمق, حتى تصفو النفوس, ويكون غرضنا جميعاً معرفة الحق, لا مجرد الانتصار للرأي, وحينئذ نتدارس هذه الشئون كلها معاً, في ظل الحب والثقة والوحدة والإخلاص"..

أرأيت هذا العمق في فهم الدين وأصوله ومقاصده؟!.. وهذا الوضوح في الهدف, والبساطة في الأسلوب, والبراعة في الاستفادة من المشكلة؟!.. إن الداعية الواعي وضع الأمور في نصابها الصحيح, ووعد بالرجوع إلى البحث في الأمور الخلافية, ولكن على قاعدة: الحب والأخوة والانتصار للحق وحده, وهو ما كان له تأثيره العجيب في النفوس والقلوب, فتعاهد الحضور في الدرس على ذلك.

واستمر اللقاء في تلك الزاوية بعد ذلك، بعيداً عن جو الخلاف والجدال والشحناء والانتصار للرأي.. وواصل الداعية الحكيم طرقه لمعاني الأخوة والحب, ولطبيعة التسامح عند الخلاف ووجوب احترام الآراء الخلافية بين المسلمين, تحقيقاً لهدف أسمى هو: وحدة الصف المسلم, وبالتالي قوة وعزة وازدهار المجتمع والأمة الإسلامية.. لا يكاد يترك لقاءً دون أن يتحدث عن هذه العاطفة المؤثرة, بل إنه استمر ـ إلى أن لقي ربه ـ يذكر إخوانه في كل لقاء بالحب والأخوة في الله.

مرت قرابة خمسة أشهر منذ أن بدأ "حسن أفندي" أولى خطواته في مقاهي مدينة الإسماعيلية, خطيباً وواعظاً ومذكراً ودارساً لأحوال الناس وظروفهم وأشربتهم المتعددة, أي مدة ما بقي من عام 1927 وأوائل عام 1928 (من نوفمبر إلى مارس) (جمادي الأولى .. إلى شوال 1346 هـ) وكان يضع نصب عينيه في تلك الأشهر الخمسة, الاستمرار في دراسة أحوال الناس والمجتمع وأوضاع العامة دراسة دقيقة, وبالتالي التوصل إلى معرفة عوامل التأثير في هذا المجتمع الجديد, الذي لم يألفه, وخرج من الدراسة والتأمل بأن هناك أربعة عوامل مهمة, تؤثر بقوة في هذه المدينة, وتحدد وجهتها والرأي فيها, الأول: العلماء, والثاني: شيوخ الطرق الصوفية, والثالث: الأعيان, والرابع: نادي العمال التابع لجمعية التعاون.

وهنا تتجلى حكمة الداعية, الذي يريد لدعوته أن تنجح, ولغرسه أن ينبت, ولهدفه أن يتحقق.. أنه يسعى لفهم أدوات التأثير في الواقع المحيط به, وبالتالي يستخدمها الاستخدام الأمثل, ليحقق أفضل النتائج في أقل وقت ممكن, ويتفادى الفشل أو المعوقات أو الأخطاء المؤثرة.

وقد كان .. فمع العلماء .. حرص على أن يسلك مسلك الصداقة والتوفير والإجلال التام, وحرص على ألا يتقدم أحداً منهم في درس أو محاضرة أو خطبة, وإذا كان يتحدث أو يلقي درساً, وقدم أحدهم, تنحى له وقدمه إلى الناس.. وكانت نتيجة هذا السلوك أن لقي منهم حسن الذكر, وطيب الكلام, والداعية الناجح لم يكن يفعل ذلك إلا وهو صادق مع نفسه ومع دينه ومع دعوته ومع الناس كذلك.

ومع رجال الطرق الصوفية, وقد كانوا كثرة كثيرة, كان يتأدب بأدب الطريق, وهو الخبير بها, ويخاطبهم بلسانها, ويقدمهم إلى الناس, ثم هو بعد ذلك يذكرهم بالتبعة الملقاة على كاهلهم لهؤلاء الأتباع البسطاء, الذين وثقوا بهم وأسلموهم قيادهم, ليدلوهم على طريق الله, ويرشدوهم إلى الخير, ثم يطلب إليهم في النهاية أن يوجهوا كل جهودهم إلى إثارة الأذهان, وتوجيه العقول لهؤلاء الناس بالعلم والمعرفة, وإلى التربية الإسلامية الصحيحة, وجمع كلمتهم على عزة الإسلام, والعمل على إعادة مجده.. وقد نجحت هذه الطريقة مع كثير مع دعاة الصوفية, خصوصاً من الشباب المتعلم, الذي كان يفد إلى المدينة, ليعقد حلقات الذكر, ويخطب في الأتباع والمريدين, حتى أن بعضهم أخذ عهداً على نفسه, أن ينفذ ما يصبو إليه "حسن البنا", وكانوا يزورونه كلما نزلوا مدينة الإسماعيلية..

ومع الأعيان, كان هناك, إثر الخلافات الفقهية المذهبية المنتشرة في المدينة وقتذاك, فريقان متصارعان, كل فريق متمسك برأيه, لا يرى حقاً أو صواباً إلا فيه, فكان حرص الداعية الحكيم على أن يتصل بالطرفين, وأن يكون هذا الاتصال في وضوح وجلاء, وألا يصنفه أحد مع هذا أو ضد ذاك, فإذا دخل بيت زعيم أحد الفريقين, تعمد أن يقول شيئاً عن منافسه فلان, وأنه لا يضمر له إلا الخير, ويذكره بالخير كذلك, وأنه من واجبهما أن يتعاونا على ما فيه مصلحة بلدهما, وأن الإسلام يأمر بهذا..

وبهذا الأسلوب الحكيم, استطاع أن يظفر بصداقة واحترام الطرفين, وكان لهذه الطريقة أيضاً أثرها الطيب في اجتماع الطبقات المختلفة على دعوة الإخوان المسلمين, حين نشأت بعد ذلك..

أما العامل الرابع المؤثر في أهل المدينة فكان نادي العمال؛ حيث فيه نخبة من الشباب المثقف, الذي يريد أن يستمع ويتعلم, وكذلك هناك فرع لجمعية منع المسكرات, تلقى فيه المحاضرات حول هذا الموضوع, فاتصل "حسن أفندي" بهما, وألقى فيهما بعض المحاضرات الدينية والاجتماعية والتاريخية, كانت سبباً, بعد ذلك, في تهيئة النفوس والقلوب والعقول بين المثقفين في المدينة, لتقبل الدعوة الجديدة..

عمل إيجابي:

كان الداعية المتحمس يعيش في تلك التجربة, بكل كيانه ووجدانه, ويبنى عليها آماله وأحلامه.. كان يرويها بفكره الحي وإخلاصه العميق, والتزامه الدقيق, وجهده المتواصل, فربما كانت ـ هي نفسها ـ الآمال العراض التي من أجلها سهر الليالي الخوالي, وجاءتها الفرصة لترى النور, وتنبت شجرتها المورقة على أرض الواقع الخصيب..

كانت هذه الجهود العامة المتواصلة, في المقاهي والزوايا والأندية, وفي البيوت وعبر اللقاءات والزيارات, كفيلة بتوضيح منهج "حسن البنا" أمام الناس, وكيف يفهم الدعوة إلى الله, وكيف يخاطب الناس خطاب المكلوم, الحريص عليهم, المحب لهم, وبالتالي اجتمع عليه جمع غفير, يتابعونه في المقاهي وفي الدروس العامة.. وكان لابد أن تتحول هذه الجهود المتواصلة إلى عمل إيجابي, يراه الناس على أرض الواقع, ويلمسون أثره, ويجنون ثمرته, وبالفعل بدأت أولى الخطوات المباركة.. أول لبنة من لبنات البناء السامق.. أول دفقة من دفقات الدم الذكي في جسم هذه الدعوة الرشيدة, دعوة "الإخوان المسلمين" بهذا الاجتماع العفوي القدري في بيت "حسن البنا"!.