سطور من حياة الإمام المجدد "حسن البنا" 4
سطور من حياة الإمام المجدد "حسن البنا"
( 4 )
بدر محمد بدر
وبعد نقاش وجدال, احتكم الجميع إلى التجربة العملية, فبدأوا بالوعظ في المقاهي الواقعة بميدان صلاح الدين وأول منطقة السيدة عائشة, ثم في أحياء السيدة زينب وطولون, ويذكر الأستاذ البنا في مذكراته أنه "ربما ألقى في تلك الليلة أكثر من عشرين خطبة في أكثر من عشرين مقهى, تستغرق الواحدة ما بين خمس وعشر دقائق" ويصف ردود الفعل على هذه التجربة الفريدة فيقول: " .. كان شعور السامعين عجيباً, وكانوا ينصتون في إصغاء, ويستمعون في شوق, وكان أصحاب المقاهي ينظرون في غرابة أول القول, ثم يطلبون المزيد منه بعد ذلك, وكان هؤلاء يقسمون بعد الخطبة أننا لابد أن نشرب شيئاً أو نطلب طلبات (شاي.. قهوة.. ينسون .. إلخ ) فكنا نعتذر لهم بضيق الوقت, وبأننا نذرنا هذا الوقت لله, فلا نريد أن نضيعه في شئ, وكان هذا المعني يؤثر في أنفسهم كثيراً.. لقد نجحت التجربة مائة في المائة, وعدنا إلى مقرنا في "مسجد" شيخون, ونحن سعداء بهذا النجاح, وعزمنا على استمرار الكفاح في هذه الناحية, وكنا نتعهد الناس بالموعظة العملية على هذه الطريقة في كثير من الأحيان...".
لم تكن تلك الجهود البسيطة, التي يقوم بها شباب متحمسون قليلو العدد, قادرة على مواجهة هذا التيار الجارف, من التحلل في النفوس والآراء والأفكار, والذي تنامى وتزايد بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى (1332 ـ 1336 هـ) ـ (1914 ـ 1918م), فكانت موجة الإلحاد والإباحية والتغريب والمادية, قوية جارفة طاغية, لا يكاد يقف في وجهها شئ, تزيدها وتساعد عليها الحوادث والظروف الصعبة التي تمر بها مصر والبلدان العربية والإسلامية, ففي تركيا مثلاً أعلن الطاغية مصطفى كمال إلغاء الخلافة, رمز المسلمين السياسي, وكذلك فصل الدين عن الدولة لأول مرة في تاريخ المسلمين, واندفعت تركيا تتنصل من الدين في كل مظاهر الحياة, وأصبحت العلمانية كأنها الدين الجديد الذي يخضع له كل شئ, أما في مصر, فقد تزايدت مظاهر التغريب والتحلل من الدين, وتحولت الجامعة المصرية (جامعة القاهرة الآن) من معهد أهلي يدرس العلوم الدنيوية بعيداً عن منهج الدين, إلى جامعة حكومية تديرها الدولة وتحظى باهتمامها ورعايتها, واندفعت الجامعة الجديدة الوليدة وراء التفكير المادي المنقول عن الغرب بحذافيره, وعرف أساتذتها وطلابها بالتحلل والانفلات من القيود والتقاليد الاجتماعية والدينية.
كان طبيعياً إذن أن تجد هذه الموجه العاتية رد فعل قوياً في الأوساط الإسلامية, وعلى رأسها الأزهر الشريف, حصن الإسلام, ومنارة العلم الشرعي, وكذلك بعض الدوائر الإسلامية الأخرى ـ على قلتها ـ لكن عامة الناس في ذلك الوقت كانوا إما من الشباب المتعلم, وهو معجب بالجديد الذي يسمعه من التيار المادي التغريبي, وإما من العامة الذين انصرفوا عن التفكير في هذه الأمور, لقلة الوعي, وقلة الحيلة!.
صورة مؤلمة وواقع مرير:
عاش "حسن البنا" هذه الصورة بكل مرارتها, وتألم لهذا الواقع المذري أشد الألم, واختلطت أنفاسه ونبضاته بهذا الشعور الرهيب, وتململ في نومه وفي يقظته أشد التململ.. كان يرى معسكر الإباحية والتحلل والتغريب في قوة وفتوة, ونشاط وحيوية, ومعسكر الإسلامية الفاضلة في تقلص وضعف وانكماش, وفي خمول وهزال, واشتد به القلق حتى أنه قضى نحواً من نصف شهر رمضان في ذلك العام (1344 هـ ـ 1926 م), في حالة أرق شديد, لا يجد النوم إليه سبيلاً.
كان يخفف من ألمه بعض الشئ, أن يفضي بهذا الشعور الذي ملأ عليه نفسه وقلبه وعقله وكيانه, إلى كثير من أصدقائه وزملائه, من طلاب الأزهر الشريف ودار العلوم, والمثقفين من "الإخوان الحصافية" التي لم يكن قد انقطع عنها بعد.. كان هؤلاء جميعا يسمعون منه, ويتحدثون معه في وجوب القيام بعمل إسلامي كبير مضاد لهذا التيار القوى, وكان يخفف ألمه أيضاً تردده على المكتبة السلفية, حيث يلتقي بالكاتب الإسلامي الكبير (سوري الأصل) السيد محب الدين الخطيب, ويلتقي عنده بجمهرة من أعلام العلماء والفضلاء, المعروفين بغيرتهم الإسلامية, وحميتهم الدينية, وعلى رأسهم العالم الجليل فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين (تونسي الأصل) ـ شيخ الأزهر فيما بعد ـ وأيضاً كان "حسن البنا" يتردد على مجالس العالم الكبير الشيخ محمد رشيد رضا, صاحب المنار وتلميذ الإمام محمد عبده, وأيضاً الشيخ يوسف الدجوي والأستاذ محمد فريد وجدي وغيرهم من العلماء الفضلاء.
لم يهدأ الشاب الثائر "حسن البنا", وما كان لهذه الطاقة الإيمانية المتوقدة, وهذه العاطفة الإسلامية الحية, وهذا البركان الذي يغلي, وهذه الثورة ضد الانحلال والإلحاد, لأن تنطفئ حماستها أو أن تخمد ثورتها, أو أن تخور قواها, حتى توصل إلى فكرة إيجابية: لماذا لا يحمل هؤلاء القادة من علماء المسلمين ودعاتهم ومصلحيهم هذه التبعة؟! لماذا لا يدعوهم في قوة إلى أن يتكاتفوا ويتعاونوا على صد هذه الهجمة؟ وأن يتفقوا على أسلوب أمثل للمواجهة؟.. فهؤلاء هم علماء الأمة العاملون, وأملها الأخير للخروج من هذه الأزمة, وهم المكلفون بالعمل والتوجيه والنصح والإرشاد, فإذا لم يتحركوا لخدمة دينهم, والدفاع عن إسلامهم, فمن يتحرك؟!.. وبالفعل بدأ الشاب الثائر بزيارة العالم الجليل الشيخ يوسف الدجوي ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ وكانت بينه وبين الشيخ صلة روحية وعلمية, بحكم النشأة الصوفية, والسبب في اختياره أن له صلات واسعة بكثير من رجال المعسكر الإسلامي, من علماء ووجهاء, وأن هؤلاء يحبونه ويقدرونه.
تحدث الشاب الثائر إلى الشيخ يوسف الدجوي في أحوال الأمة الإسلامية, وما يمر بها من أزمات عنيفة, وتيارات منحرفة, وأفكار غريبة, فأظهر الشيخ الجليل الألم والأسف, وأخذ يعدد له مظاهر الداء, والآثار السيئة المترتبة على انتتشار هذه الموجة في الأمة, وانتهى من حديثه إلى ضعف الجانب الإسلامي أمام المتآمرين عليه, وكيف أن الأزهر الشريف حاول كثيراً أن يصد هذا التيار الجارف فلم يستطع, حتى جمعية "نهضة الإسلام" التي ألفها الشيخ الدجوي نفسه, ومعه لفيف من العلماء لتساعد في المواجهة ـ كما يقول الشيخ ـ لم تجد نفعا, وانتهى الشيخ ـ بعد حديث طويل ـ إلى أنه لا فائدة من كل هذه الجهود المبذولة, وحسب الإنسان أن يعمل لنفسه, وأن ينجو بها من هذا البلاء!