أبو سلمى
بمناسبة مائة عام وعام على ميلاده
د. حبيب بولس *
بداية:
· تحاول هذه المقاربة الاقتراب من شعر الشاعر الفلسطيني الكبير أَبي سلمى "زيتونة فلسطين" بعد النكبة. وهي تقول مقولَتَها بهدف الوقوف على الشعر ودوافعه وميزاته في الحُقبة الأكثر حرجا من تاريخ مسيرة أدبنا.
· نزح شعب فلسطين عام 1948 "عام النكبة", وشُرِّد عن بلاده مُؤمّلا في العودة السريعة. يقول أبو سلمى: "وبتاريخ 28 نيسان 1948 غادرتُ عكا إلى دمشق عن طريق ترشيحا والجبل ومعي مفاتيح البيت والمكتب للعودة السريعة خلال أسبوعين, كما وَعَدَتْ الدول العربية, ولكن عكا سقطت في أيدي الأعداء في 16 أيار/ 1948, وبقيت البلاد تتساقط واحدة تِلو الأخرى وتتساقط معها الكرامة العربية, ولا تزال المفاتيح تنتظر العودة مع أصحابها إلى فلسطين". (بركات ص 69).
· هذا الكلام الذي ينطوي على مرارةٍ وانتقادِ يعني أن أبا سلمى مع معظم أبناء شعبنا سيغوصُ في جحيم المقلاة الفلسطينية ذلك لأن اللجوء والتشرد يعنيان حياة الذلّ والفقر والعَوْز, وتبدل الحالة من استقرار إلى ضياع. هذه الحالة الجديدة لا بد لها وأن تفرز واقعا جديدا, غير الواقع الذي كان قبل النكبة. والسؤال: هل ستتغير نظرة أبي سلمى في هذا الواقع الجديد للحياة وللناس, بعد أن فارق وطنه؟ وهل سينسى وطنه ومرابِعَه التي تغنّى بها؟ هل سيخيّم الحزن على نفسه؟ هل سيلوم نفسُه ويجلدُها كما فعل غيره؟ والسؤال الذي يهمنا في هذه المقاربة: هل سيحدث تغييرٌ ما في شعر أبي سلمى الذي كان قبل النكبة؟ مضامين وأشكالا وأبنية؟
عن هذه الأسئلة سنحاول أن نجيب:
· بداية أقول: إن أبا سلمى كان معروفا كشاعر له خصوصيّته وتجربته الشعرية. فقد قال عنه "إبراهيم عبد القادر المازني": " انه شاعر هذه البلاد العربية – فلسطين- غيرُ مُدافَع". (الأسد ص129).
والملفت للنظر في شعر أبي سلمى سواء ما كان منه قبل النكبة أو بعدها أنه واضحُ المبدأ بيِّنُ القصد, يقول "إبراهيم عبد الستار" في كتابه "شعراء فلسطين العربية في ثورتها القومية" إن أبا سلمى "شاعر إنساني النزعة, اشتراكي المبدأ يتمرد على الظروف السياسية القاهرة, أشدّ التمرد, ويسخط عليها أشدّ السخط (....), انه يمتاز بنزعته التحررية, ومذهبه التقدميّ, ونقمته على الأثرياء الجامدين والمحافظين والرجعيين, فهو إذن شاعر الشعب الكادح يصوّر آلامهم وآمالهم, وينادي بتحطيم الفوارق الاجتماعية والنّظم البالية". (عبد الستار ص45).
هذا الجوهر هو الباعث الحقيقي الذي يشكّل شخصية أبي سلمى وشعره طيلة حياته. لقد ظلّ أبو سلمى نشيدا فلسطينيا صافيا يستقي نبرته من الألم, وينسج قصائده من رائحة الدماء التي لم تبرد يوما, ويلون عاطفته الصادقة الصُّلبة بضراوة المخيمات التي امتزج بها القهر والتحفز والثورة. "ينظر إلى الواقع مرة والى النفس مرة أخرى, فيرى أنهما بقدر ما يُثيران من أمواج متناقضة متضاربة فإنهما في الوقت نفسه يمنحان فرصة التأمل, يستطيع به الشاعر الصادق كأبي سلمى أن يلتقط منه الوهج الحقيقي الذي يستعطي على الألم ويشير إلى المستقبل" (مصطفى ص85).
وأبو سلمى منذ رائعته "أنشر على لهب القصيد" انحاز إلى الشعب وأشار إلى الدور الذي يمكن أن يقوم به هذا الشعب. وهو منذاك دائم الإلحاح على هذين القطبين اللذين تجسدا فيه كإنسان وشاعر. هذان القطبان هما اللذان جعلاه جذعا نبتت عليه أغاني المقاومة" كما كتب محمود درويش في مقدمة ديوان أبي سلمى "من فلسطين ريشتي".
· أن شعر أبي سلمى في توهجاته جميعها ظلّ محافظا على تقاليد الشعر العربي الحديث التي تبلورت في النصف الأول من القرن العشرين والتي كان من همومها إعادة الأسس لعمود الشعر العربي العباسي "النيوكلاسيك". وقد كان لأبي سلمى دور كبير في إحياء هذه الأسس والأهم في تطويعها كي تكون قادرة للتعبير عن حركة الواقع العربي الذي نعيش فيه وله.
أن القاعدة التي ينطلق منها شعر أبي سلمى والتي تشكل روحَ شعره عامّة- بيّنها أبو سلمى في قصيدة قصيرة رثى بها الشاعر "مطلق عبد الخالق", حيث يقول:
"مطلق ما المرء سوى تائهٍ يجولُ في اليم على زورقِ
الموج من جانبه غاضبٌ والريح إن تلعب به يغرق
أنت تحرّرات ولكننا في القيد يا مطلقُ لم نطلقِ
الوطن الغالي على تربِهِ دم يرويه ولم نُعتق
والدمُ والنارُ سبيلا هدىً منارتا عزّ لمن يرتقي"
إن التيه والضياع مهما كانا قاسيين هما محكومان بقدرة الإنسان ووعيه لهما, فإذا كان الموت الطريق للخلاص من عبوديّة التيه فانه لا يصح طريقا للجماعة. ومن هنا يبدأ الفعل الإنساني في التحرر فالتيه أو الضياع لا يخترقه سوى الدم والنار إذ أنهما السبيل إلى ذلك, لان معنى الحياة كامن في هذا السبيل وبدون ذلك لا أمل يُرجى ولا عودة" (مصطفى ص88).
هذا هو منطلق مسيرة أبي سلمى الشعرية اللاهبة التي جمعت بين روحٍ نقدية قاسية وخيال وثّاب يستقي مادته من الطبيعة والمرأة والأرض.
"وأبو سلمى بمعنى آخر يقدّم لنا زمنا شعريا على أكثر من مستوى. فهذا الزمن قد تمثّل حركة الواقع والنفس في صيرورتها وعكس حركتهما الماديّة والشعريّة وفقا للحاجات الآنية والمستقبلية". (مصطفى ص88).
أن قضية أبي سلمى تؤكد على هُويّتها وفهمها الذي نضج عبر التجربة وتعكس في رؤيتها حالة الشاعر الفلسطيني الملتزم بفهم القصيدة التقليدية والمتواترة مع فهم أكثر شمولية, ونابع من التصور الفكري الذي يحمله الشاعر نفسه. (صالح ص51). ولهذا يلحّ أبو سلمى على الوظيفة التي يحملها شعره ويتكرس لها هذا الشعر كمسألة يمكننا من خلالها تفسير قدرة أبي سلمى الشعرية وتصوير الظاهرة التاريخية في قصائده. يقول:
" شعري جسر يلتقي فوقه أهلي بما يحلو وما يشجُنُ
وكلّ شعر لم يصغه الهوى وتربتي السمراء مستهجنُ".
فالشعر حامل التجربة التاريخية وعاكسها في إنتاج أبي سلمى, وهو الذي يستعيد فيه الشاعر تجربة المكان الفلسطيني من خلال التذكر, تذكر الأرض التي تؤمّن الحياة قبل التشرد الفلسطيني.
واستعادة الذكريات عند أبي سلمى توفر الراحة وهذا الشعور هو ما يؤمِّن حالة استعادة أُلْفَةِ الماضي عبر الذاكرة الفلسطينية التي يعذبها حب الافتقاد وتلوعها مرارة التجربة التاريخية, ومن هنا فان واقع المأساة هو الذي أبرزّ في شعر أبي سلمى صور النفي والغربة والضياع والانشداد إلى الأهل والربوع. (صالح ص52). هذه الصور التي وفرت في قصيدته عبر استيحاء الذاكرة والصدمة التي يوفرها الواقع المتمثل في نتائج الغربة والضياع. إن هذا الامتزاج في شعره بين مشهد طبيعي عاكس لحركة النفس الداخلية وتجربة المكان المستعاد عبر الذاكرة هو الذي يحدد في قصائده نمو التجربة الشعرية المتزامنة مع ظرفها التاريخي من حيث هي تطوير للمفهومات التي تقوم عليها القصيدة العربية الحديثة " وتؤكد على أن تجربة أبي سلمى الشعرية هي تجربة رائدة في إطار القصيدة, العمودية, تقدِّم في نتاجها الشعري وشِهادتها الأدبية التاريخية, خلاصة الفهم, الأدبي- السياسي, لحركة وطنية صاعدة في تلك الفترة التي تلت النكبة". (صالح ص52).
ما يميز شعر أبي سلمى حقيقة, هي هذه القدرة على استعادة الأمكنة في الذاكرة وتجاربها ومزجها مع الحبيبة والأرض بحيث تصل العلاقة بينهما حد التناسخ بين الإنسان وأرضه. يقول أبو سلمى في قصيدته " الأفق المعطر":
رحّبتْ بي فأي أفق معطّر وسرت فالنسيم مسك وعنبر.
موكب الياسمين في الدرب قل لي أم تراه الهوى على الدرب أزهر
لا تقل ما اسمها وفي كل حرف عبق فاضح وشوق مفسّر
وكأن الأنفاس من نسمِ الكرمل ريّا ومن عبير الصنوبر
فمُها العذب تلتقي عنده الأحلام كالنبع في بلادي مكوْثَرْ
صوتها نغمة شرود على الشاطئ من بلبل هنالك أسمر
جارتي كم أغارُ من قُبَل الصبح ومن خفقة الشعاع المحيّر
هل سَرَقتِ الفتون من قسمات القدس أو فجرها الحبيب الأشقر
لستُ أدري هل جمّلتكِ بلادي أم تمثّلتِ في كلّ منظر.
(المشرد ص29-31).
هذه العلاقة مع أنها بلاغية إلا أنها تتوظف في مكانها من القصيدة في رسم معالم الوطن الضائع وحفظ جغرافيته.
"وجغرافية الوطن في قصائده تذوبُ من ثمّ في تجربةٍ تُحِلّ المحبوب في المكان في علاقة شبه صوفية تلتهب داخل القصيدة, بحيث يصبح من الصعب على المتلقي التفريق بين الحالة الإنسانية المتمثّلة في تجربة الحب وبين حالة التوحد بالأرض التي يصوغها الشاعر في إطار تجربة الاستعادة" (صالح ص53). يقول:
" أنا يا جارتي!- غريب غريب القلب والدار والفراق مقدَّرْ
أنا لولاكِ ما نما الورد في داري ولولاكِ ما ترّنم مزهَرْ.
أنا لولا عيناك ما اختمر العنقود في الكرم أو تلألأ مِحْجَرْ.
لا تقولي يا شاعري غنِّ بالشعر ليالي الهوى فَطَرْفُكِ أشْعَر"
(الأفق المعطّر/ المشرد ص32-33).
إن تجربة أبي سلمى الشعريّة تتصاعد وتتطور مع تطور القضية الفلسطينية ففي قصيدته نجد تحريضا سياسيا يستنفر الحماس, كما نجد قصيدةً تختلط فيها إيقاعات الحياة الفلسطينية.
أمرٌ آخر يميّز شعر أبي سلمى أنه بدأ شعره بعد النكبة حين كان الوضع العربي ساكنا اسنا, لذلك صاغ قصائد عمودية فجائعية تعكس حالة الفلسطيني في تشرده وضياعه يرسم فيها مرارة التجربة التي ولّدتها النكبة, ولكن وهذا هو المهم أنه استطاع أن يفجر في هذه القصائد ثورة وطنية فلسطينية. "إن تحويل فلسطين إلى لوحة رائعة إلى أفق في قمة الحلم كان في الواقع الوعاء الرئيس خلال فترة طويلة لينقل الحقيقة الفلسطينية ولحفظ الحقيقة الفلسطينية لأجيال ما بعد النكبة.
كان هذا المزاج تخميرا للأرض- لميلاد الحركة الوطنية الفلسطينية" (سالم جبران ص62). يقول أبو سلمى:
" يا أخي أنت معي في كلّ درب فاحمل الجرح وسر جنباً لجنبِ.
قد مَشَيْناها خطىً داميةً أنبتت فوق الثرى أَنْضَر عُشْبِ
نحن أنْ لمْ نحترق كيف السّنى يملأ الدنيا ويَهْدي كلّ ركبِ.
والّدمُ الحرُّ الذي وحّدنا خلد التاريخ في أروعِ كتبِ.
سرْ معي في طرقِ العمرِ وقلْ أينَ من يحمي الحِمى أو من يلبَي؟
فهنا الأيتام في أدْمُعِهِم وهنا تُهوي العذارى مثلَ شُهبِ
وشيوخ حملوا أعوامهم مثقلاتٍ بشظايا كلّ خطبِ.
هم ضحايا الظلم هل تعرفهم؟! إنهم أهلي على الدهر وصحْبي.
يا رفاقَ الدهرِ! هل شرّدكم في الورى غدرُ عدوٍ أم محبِّ.
زعماءُ! دنّسوا تاريخَكُم وملوكَ! شردوكم دون ذنبِ.
(قصيدة المشرّد/ المشرّد ص7-9).
وميزة أخرى تلُّفُ قصائد أبي سلمى هي التفاؤل, فهو رُغم ما يشيع في القصائد بسبب نظمها من يأس, هذا اليأس يتبدد في القصيدة عبر استحضار رؤيةٍ متفائلة تعيد كتابة الواقع وقراءته من خلال استشراف مستقبل الحركة الوطنية الفلسطينية. فهو شاعر متفائل رغم ما مرّ على فلسطين وشعبها. (راجع جبران سليمان ص129).
وهو من خلال رصده الأمل يقيم قصيدته العمودية على "صياغة الوجدان الفلسطيني المتجاوز للتمزق (....) خصوصا صياغة الهُوية المقاتلة للشعر الفلسطيني". (جبران سالم ص61).
يقول غسان كنفاني عن أبي سلمى: "كان في مقدمة الشعراء الذين وضعوا أسسا عريضةً وفي وقت قصير نسبيًّا لأدب عربي يمكن وصفه بأدب المنفى". (مصطفى ص93)
وميزة أخرى لهذا الشعر هي اختلاط لغة أبي سلمى الغنائية والتي شاعت في قصائده الغزلية, بلغة مباشرة آتية من قصائده السياسية التحريضية. وبهذا يصل في قصائده الفجائعية عن الضياع, والأرض إلى جوهر خصوصيته التي تميزه وهي قدرته على مزج الكتابة السياسية المباشرة بالحالة الإنسانية التي تفجرها. (صالح ص55)
(عن الغنائية في شعره راجع سليمان جبران ص136 وما بعدها).
يقول: "ويسألني الرفاق ألا لقاءٌ وهل من عودةٍ بعد الغياب.
أجل سنقبِّل التربَ المندّى وفوق شفاهنا حمرُ الرغابِ.
غدا سنعود والأجيال تصغي إلى وقع الخُطى عندَ الإياب.
(....)
ونحن الثائرين؟ بكل أرض سنصهر باللظى نيرَ الرقابِ.
(....)
أجل ستعود آلاف الضحايا ضحايا الظلمِ تفتحُ كلّ بابِ".
(القصيدة سنعود/ المشرّد. ص110-ص112).
من الجدير ذكره ونحن نتحدّث عن شعر أبي سلمى أنّه وقبل غيره تنبّه إلى مؤامرة محو الهُوية الفلسطينية. لهذا كان دائم الإلحاح في شعره على الجغرافية وعلى تشبُّث الإنسان بالمكان, حيث كان يمزج بين تجربة المكان وتجربة الشعر". وهذا الأمر أضفى على شعره "جمالية تنبع من هذه الفلسطينية, التي تذيب العالم والكون في خصوصيتها وترفع الشعر إلى مستوى هذه الفلسطينية الخالصة". (صالح ص58)
يقول أبو سلمى: " من فلسطين ريشتي وبياني- فعلى الخُلد والهوى يدرُجانِ من فلسطين ريشتي ومن الرملة واللد- صغتُ حُمرَ الأغاني من شذا برتقال يافا قوافيها- ومن سهل طولكرم المعاني أحرفي من قطاع غزة والشاطئ- تمشي مصبوغة الأردان. يوم غابت نابلس مخضلة العينين- لم تغتمض لنا عينان (....)
شعراء الجليل والشاطئ الغربي- أنتم طلائع الفرسان شعركم مثلُكُم خلودا يسري- من فلسطين فيه نفح الجنان من شفا عمرو الجريحة والبِروة- من كوكب الهوا ومن بيسان زِنتم الليل بالحروف نجوما- يا أحِبائي في أحبّ مكان تتحدون بالقوافي المدَمّاة- نضالا عصابة الشيطان. (قصيدة من فلسطين ريشتي الديوان ص36-ص37 وص41-ص42)
إن تجربة أبي سلمى الشعرية بلغت قمة تطورها حين استطاعتْ أن تعيش زمنها الفلسطيني وتعيد كتابته في الشعر. (صالح ص60) لقد استطاع أن ينطق العمود الشعري التقليدي بكافة إمكانياته وأن يطوِّعه ليصب فيه روحا جديدة, حيث يتحقق في هذه الصياغة الجديدة امتزاج الكتابة التحريضية السياسية مع كتابة التجربة في عمقها وشمولها وتجاوزها للصراخ والافتعال الذي عرفناه في الشعر الكلاسي العربي. (صالح ص61)
يقول: " كلما حاربتُ من أجلكِ أحببتُكِ أكثر.
أيّ أفق غيرُ هذا الأفق... في الدنيا معطّرْ.
كلّما دافعتُ عن أرضِكِ... عودُ العمر يَخضّرْ
وجناحي يا فلسطين... على القمة يُنْشَر".
(قصيدة أحببتك أكثر/ المشرّد ص26)
ومما يجب ذكره في هذا السياق أنه كما برع أبو سلمى في قصائده التحريضية التي ذكرناها برع أيضا في مرثياته. فهو في رثائه كما في أغراض شعره الأخرى يمتحُ صُوَرَهُ من الطبيعية ويستعيرُ منها. وفي مراثيه التي نظمها بعد النكبة يُركّز على الشهداء والأبطال, وهو يُكبِرُ في رثائه البطولة والاستشهاد كما ويكثر من ذكر الوطنية والحرية. (بركات ص86)
يقول في رثائه للطالبة رجاء حسن أبو عماشة:
" منسيةً مثل بلادي رجاء- مرت كما مرّ شعاع الضياءْ
أغَفَت على سفح أريحا- ولا من أدمع, إلا دموع السماءْ
يا عبقا يا نفحَ ريحانةٍ- لما يَزَل في أرضنا والفضاءْ
نحن على عهدك لمّا نزل- نرفع في ساحة الجِهادِ اللواء." (بركات ص86).
وجانب آخر حلّق فيه أبو سلمى لم نذكره لغاية الآن هو الغزل. لقد كبر أبو سلمى مع القضية كما أسلفت وعَصَرَهُ الألم بعد تشرده عن الوطن, ولكن رغم ذلك ظل صاحب نفس شفافة تستمدُّ من طبيعة فلسطين وتُغَذِّي هذه الطبيعة قلمه. وفي غزله بعد النكبة كما قبلها يمازج بين حب القلب وحب الوطن ويتنامى الحبان معا فهو منذ بداياته أعرب عن أنغام قلبه وصوّر أحلامه". (توما ص29) والمُتَتَبِّع لغزل أبي سلمى يجد أن من الملامح الواضحة في غزل الكرمي---أيضا المزاوجة بين الحبيبة/ المرأة والأرض والوطن". (سليمان جبران ص132) يقول:
" أين الشذا والحلم المزهر- أهكذا حبُّكَ يا أسمر؟!
أهكذا تذوي أزاهِيرُنا- وكان منها المسك والعنبرُ
الشّفةُ الحلوةُ ما بالها- تحملُ لي الخمرَ ولا تُسْكِرُ؟
أهواكِ في شعبي وفي موطني- فأنتِ لا أحلى ولا أنضَرُ".
(ابنة بلادي/ المشرّد ص87)
وفي قصيدة أخرى يقول:
" سأل الفجرُ أينَ خولةُ؟ فانهلّت طيوب, وتمتمت: كيف تسألْ
هي في كل زهرة من بلادي عبق في صميمنا يتغلغلْ
إنها من مروج عكّاء والرملة واللد نشوة تتنقلْ
من كروم الجليل, خمرية الأنداء نشوى, ومن كروم المجدلْ
عطرها منذ كان, أنفاس بيسان ورغم الزمان لم يتبدّلْ
خطرت والشموخ من جبل الجرمق فيها, ومن شغاف القسطلْ"
(قصيدة فلسطين/ من فلسطين ريشتي ص15)
بعد هذه الوقفة يرتفع السؤال وماذا مع فنية شعر أبي سلمى؟ للإجابة أقول: للشعر الفلسطيني خصوصية نبعت من خصوصية الواقع الفلسطيني. هذا الواقع أعطى للشعر مذاقا خاصّا, كما أنه حتّم على الشاعر أن يكون ظهيرا لشعبه في معركته, من هنا تحوّل الشعر في الكثير إلى سلاح يستجيب لحركة الواقع ولكن هذا الواقع لم يمنع من نشوء نزعات أدبية كما هو الحاصل في شعر أبي سلمى الذي يميل إلى الواقعية, النقدية التي تتسم بوضوح القصد ودقّة التعبير كما تتّسم بالخيال وبالتأكيد على الذات مع توازن بينهما. أي هي تمزج بين الكلاسية والرومانسية. (مصطفى ص95). (يراجع سليمان جبران الذي يرى أنّ أبي سلمى يميل إلى الواقعية الاشتراكية ص129).
يستمدّ أبو سلمى صوَرهُ الشعرية من طبيعة فلسطين ومن نفسية شعبها. قصائده جاءت كما يقول ناصر الدين الأسد " محتويةً على وَفْرَةٍ من القيم الموسيقية التي تلُفّ شعرَه, حتى كانت أكثر قصائده مُقْطعاتٍ غنائية قصيرة ملحة, ذات ألفاظ موسيقية منتقاة, يستعير لبيانه أجنحة يحلّق بها في البعيد البعيد". (مصطفى نقلا عن الأسد ص69) وهو في ذلك كان دقيق الصياغة بعيدا عن التقعُّر, رشيق العبارة يرفض الّلغو والحشوَ, حتى كان من الممكن القول إن شعره من السّهل الممتنع". (توما ص29).
(للاستزادة راجع حنا أبو حنا ص160 وما بعدها, وسليمان جبران ص134 وما بعدها).
وأخيرا, هذا هو شعر أبي سلمى بعد النكبة, شعر صوّر فيه المأساة الفلسطينية بلوحات شعريّة جميلة تمثّل الكارثة ولكنها لا تعلَقُ بها بل تتجاوزها إلى التفاؤل الثوري. فأبو سلمى منذ حداثة شعره كان رائدا لخطٍّ واضح يقيم الصلة بين القضية الوطنية والقضية الطبقية. (...) فهناك قصائد له بكاملها تعتبر قصائد يسارية, بمناسبتها وفكرها ولغتها على حد سواء" (سليمان جبران ص127). ولو استعرضنا شعر العربية تالدا وطريفا وصنّفنا من هامَ منهم بوطنه وعَلِقُوا بحبِّه, وقارنا ما أنشدوه بما أنشده أبو سلمى لوجدناه قد بزّ أقرانهُ بلون فريد من شعر الحنين إلى الوطن ووصف مصائبه واحنه--- وتصويره لكوارثه ومِحَنِهِ". (العودات ص539)
المراجع
1. بركات, م: الحبّ والطبيعة في شعر أبي سلمى, الأسوار, عكا, 1987.
2. الأسد, ن: الاتجاهات الأدبية الحديثة, معهد الدراسات العربية, القاهرة, 1957.
3. عبد الستار, ا: شعراء فلسطين العربية في ثورتها القومية, نادي الإخاء العربي, حيفا, د.ت.
4. خلف,ع: أبو سلمى زيتونة فلسطين, الأسوار, عكا, د.ت. مقال: سالم جبران: شاعر الصراع والتشرد والثورة. ص57-ص62. ومقال: خالد علي مصطفى: النشيد الوطني, ص84-ص96.
5. صالح, ف: أبو سلمى والتجربة الشعرية. الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين, عمان, 1982.
6. جبران, س: نظرة جديدة على الشعر الفلسطيني في عهد الانتداب. الكرمل وحيفا, 2006.
7- شلحت، ا: ابو سلمى الرمز والقصيدة، دار ابو سلمى، عكا، 1982
مقال: اميل توما: الوان في شعر ابي سلمى، ص28-ص39
8- ابو حنا، ح: ثلاثة شعراء، مواقف الناصرة، 1995
9- العودات، ي: من اعلام الفكر والادب في فلسطين، ط3 ، دار الاسراء، عمان، 1992
ملاحظة:
نص المحاضرة التي قدّمت في الناصرة بدعوة من بلدية الناصرة ، مكتبة ابو سلمى ومؤسسة توفيق زياد، وشركة المراكز الجماهيرية، في 27-10-2010
* د. حبيب بولس – ناقد أدبي ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية .