عادل زعيتر.. رائد المترجمين العرب
عادل زعيتر.. رائد المترجمين العرب
أبو الحسن الجمّال
سنلتقى فى السطور التالية عن علم من أعلام الترجمة من اللغات الحية وأهمها الفرنسية التى عشقها وذاب فيه عشقا وولها ونقل عن أعلامها روائع الأعمال التاريخية والأدبية فى لغة بيانية عذبة وقد خلدت ذكر هذه الاعمال ومازال الناس يقبلون عليها برغم رحيل صاحبها منذ ستة عقود..سنلتقى مع المترجم العربى الكبير محمد عادل زعيتر ابن مدينة نابلس الفلسطينية العريقة وجامعتها "النجاح" هكذا اسمها اسما ونعتا.. بها ولد نشأ وعاصر العديد من الأحداث المهمة فى تاريخ الإسلام المعاصر ..عاصر الحرب العالمية الأولى (1914-1917) وشارك فيها ضابطاً احتياطيا فى الجيش العثمانى وعاصر الثورة العربية الكبرى 1916 وعاصر القضاء على الخلافة الإسلامية العثمانية فى استنبول 1924 وعاصر الثورة الفلسطينية 1935 كما عاصر النكبة الكبرى وهى ضياع فلسطين 1948 بواسطة العصابات الصهيونية التى استغلت ضعف العرب وتواطؤ حكام العرب معهم وتسليم فلسطين لهم على طبق من فضة، ولم تشغله هذه الأحداث عن تلقى العلم وبعد الانتهاء من دراسته قرر أن يفيد أمته من خلال الترجمة وتعريف الناس بروائع الأعمال الأدبية والتاريخية والاجتماعية فقد ترك لنا ثمانية وثلاثين مجلداً لثلاثة عشر علماً من أعلام الفكر العالمى وعلى رأسهم الأديب الفرنسى الكبير "جوستاف لوبون" الذى ترجم له سبعة عشر كتابا وترجم لأناتول فرانس وغيرهم والحق يقال أن عادل زعيتر قد رد للترجمة العربية مجدها الزاهر وانتصر على المرتزقة والمزروين والمراهقين الذين كانت عينهم لا تقع إلا على روث الأفكار ...
لقد أغنى عادل زعيتر المكتبة العربية بعشرات الكتب التى نقلها للعربية وبما ينيف عن الخمسين كتاباً من روائع الكتب العالمية منها التربوى والسياسى والفلسفى والقانونى والفكرى والتى يقبل عليها الناس حتى يومنا هذا ويعاد طباعتها وتنفذ فور صدورها بما تمتاز بها من حسن سبك ومتانة لغة وجزالة أسلوب وكانت عادل زعيتر لا ينقل كتاباً إلا بعد اناة وتدبر وتساؤل طويل عن فائدته وقيمته وعن مدى انتفاعنا به وما يمكن ان يضيفه إلى ثقافتنا من رفد ومدد حتى إذا رجح الكتاب فى كفة البحث والتمحيص والتحقيق والتدقيق والنظر السديد فى قيمته وفائدته أكب على ترجمته وقد تفرغ لهذه الترجمة وانقطع لها وباعد ما بينه وبين الناس لأن مجال الترجمة شاق ومضنى ويستهلك الوقت الكثير الذى يشغل المترجم عن حتى بيته وأسرته إذا ترجم لعمل صغير فما بالك بعادل زعيتر الذى تصدى للأعمال الضخمة فى لغتها الصعبة القديمة فكانه لا يعيش إلا فى جو الكتاب الذى ينقله وكأن أفكار الكتاب ومعانيه تنبض من الدم الذى يسرى فى عروقه فيجيىء النقل على هذا النسق الرفيع من الإحكام والدقة والأمانة والمعجزة.
ولد محمد عادل زعيتر في مدينة نابلس 1897، لسرة عريقة منها والده عمر حسن زعيتر الذى عمل فى بداية حياته قاضيا فى محكمة الحقوق لينتهى به المطاف رئيسا لبلدية نابلس حتى وفاته عام 1924، كما أن أخيه الأصغر أكرم زعيتر(1906- 1996) الأديب والمؤرخ السياسى، عمل فى السلك الدبلوماسى سفيرا للأردن فى العديد من العواصم العربية والإسلامية، وأتم فيها دراسته الابتدائية، ثم التحق بالمكتب السلطاني في بيروت متتلمذا على يد العالم اللغوى الشهير مصطفى الغلايينى (1885- 1944) وقد ظهر تفوقه على كافة أقرانه مما دفع أستاذه ان يهديه اهم مؤلفاته "اللورد كرومر" ممهورا بتوقيعه وقد رد فيه الغلايينى بالحقائق والأسانيد على مزاعم اللورد كرومر التى حشاه كتابه "مصر الحديثة"، وترك عادل زعيتر بيروت ليلتحق بالمكتب السلطاني في الآستانة، حيث درس اللغتين التركية والفرنسية، عين أثناء الحرب العالمية الأولى ضابطاً احتياطياً في الجيش العثماني، وحين نشبت الثورة العربية الكبرى في 10/6/1916 عاد إلى نابلس، ثم توجه إلى مقر قيادة الأمير فيصل بن الحسين في "أبي اللسن"، ولم يطل به المقام حتى توجه إلى القاهرة ليتابع دراسته، ثم عاد إلى نابلس، إثر احتلال القوات البريطانية إياها، وانتخب هو ومحمد عزة دروزة، وإبراهيم القاسم عبد الهادي ممثلين عن المدينة في المؤتمر السوري الذي عقد في دمشق سنة 1919، ويتابع الأمير فيصل ملكاً على سورية، ثم رجع ثانية إلى نابلس بعد معركة "ميسلون"، واحتلال الفرنسيين دمشق، ثم غادرها إلى باريس، وانتسب إلى كلية الحقوق في جامعة السوربون، ونال شهادة الحقوق سنة 1924. وشرع يعد للدكتوراة، ولكن وفاة والده دفعت به إلى العودة إلى فلسطين، ليخوض معترك الحياة محامياً لامعاً، وكاتباً، ووطنياً مرموقاً وخلال إقامته في باريس ترجم عدداً من الكتب لغوستاف لوبون.
اختير أستاذاً في معهد الحقوق في القدس لتدريس الفقه الدستوري والدولي، وقانون المرافعات المدنية والجزائية. وقد ترجم أثناء فترة تدريسه هذه، كتاب “أصول الفقه الدستوري” للدكتور ايسمان، أستاذه في جامعة السوربون.
وعندما اندلعت ثورات 1929 و1931 و1933 و1936 – 1939 في فلسطين، هب عادل زعيتر للدفاع عن المهتمين العرب بلا مقابل. كما عهد إليه المجلس الإسلامي الأعلى المرافعة في قضايا الأراضي التي كان الصهيونيون يحاولون انتزاعها من الوقف الإسلامي. ويقف مدافعاً عن الحق العربي في فلسطين في المؤتمرات التي كان يحضرها، وقد ترك التدريس في معهد الحقوق بعد نكبة 1948، واختير عضواً مراسلاً في مجمع اللغة العربية بدمشق. واستقر نهائياً في نابلس منصرفاً إلى الترجمة انصرافاً تاماً حتى وفاته سنة 1957 .
مع جوستاف لوبون:
التقى عادل زعيتر مع المفكر الفرنسى الكبير "جوستاف لوبون" (ت1931م) فى أعمال عدة لما وجد منه الإنصاف والبعد عن التعصب والهوى على عكس معاصره "أرنست رينان" الذى تحامل على الإسلام ونبى الإسلام والمسلمين لذا لم يلتزم لوبون بنهج سابقيه، ومن يطلع على مؤلفات لوبون وبقراءة سريعة يكتشف نزعته العلمية المحايدة للطروحات العرقية والعنصرية المُسبقة غير المبنية على مشاهدات واقعية والتي كانت سائدة آنذك في فرنسا وفي مقدمتها نظريات أرنست رينان. لذلك لم يكن هُمه فعلاً أن يسير على نهجٍ مخالف بقدر ما كان شغوفاً باكتشاف أسرار الحضارات العظيمة التي أثرت في البشرية. ومن أجل ذلك قام لوبون بجولاته ليرى ويكتشف بنفسه فكان له بالفعل نظرته الإستثنائية للحضارات العربية الإسلامية. حيث زار لوبون بين عامي 1882 -1884 كل من: المغرب والجزائر وتونس ولبنان ومصر وسوريا وبغداد وتركيا، وتعرف من خلال زياراته على أوجه هذه الحضارة وإسهاماتها على العالم الغربي وتأثيرها فيه إلى حد الإقرار في كتابه الشهير حضارة العرب بأن المسلمين هم الذين مَدَنوا أوروبا وليس العكس. ولهذا فأبرز ما اهتم به هو البحث عن أسباب انحطاط هذه الحضارة العظيمة، وترجم له زعيتر 12 كتاباً منها: "حضارة العرب"، و"روح الثورات والثورة الفرنسية"، و"روح الجماعات"، و"السنن النفسية لتطور الأمم"، و"روح التربية"، و"روح السياسة"، و"فلسفة التاريخ"، و"اليهود فى تاريخ الحضارات"، و"حياة الحقائق"، و"الآراء والمعتقدات"، و"حضارات الهند"، و"روح الاشتراكية"، وقد أنصف غوستاف المسلمين فى كتابه "حضارة العرب" قائلاً:
"وكلما أمعنا في دراسة حضارة العرب والمسلمين وكتبهم العلمية واختراعاتهم وفنونهم ظهرت لنا حقائق جديدة وآفاق واسعة، ولسرعان ما رأيتَهم أصحاب الفضل في معرفة القرون الوسطى لعلوم الأقدمين، وإن جامعات الغرب لم تعرف لها مدة خمسة قرون موردًا علميًّا سوى مؤلفاتهم، وإنهم هم الذين مدَّنُوا أوربا مادة وعقلاً وأخلاقًا، وإن التاريخ لم يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه في وقت قصير، وأنه لم يَفُقْهم قوم في الابتداع الفني".
ويقول: "ولم يقتصر فضل العرب والمسلمين في ميدان الحضارة على أنفسهم؛ فقد كان لهم الأثر البالغ في الشرق والغرب، فهُما مدينان لهم في تمدُّنِهم، وإن هذا التأثير خاص بهم وحدهم؛ فهم الذين هذّبوا بتأثيرهم الخُلُقي البرابرة، وفتحوا لأوربا ما كانت تجهله من عالَم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية، فكانوا مُمدِّنين لنا وأئمة لنا ستة قرون، فقد ظلت ترجمات كتب العرب ولا سيِّما الكتب العلمية، مصدرًا وحيدًا للتدريس في جامعات أوربا خمسة أو ستة قرون، فعَلى العالم أن يعترف للعرب والمسلمين بجميل صنعهم في إنقاذ تلك الكنوز الثمينة".
"ولا يمكن إدراك أهمية شأن العرب إلا بتصور حال أوربا حينما أدخلوا الحضارة إليها، إذا رجعنا إلى القرن التاسع والقرن العاشر من الميلاد، حين كانت الحضارة الإسلامية في إسبانيا ساطعة جدًّا، رأينا أن مراكز الثقافة في الغرب كانت أبراجًا يسكنها سنيورات متوحشون يفخرون بأنهم لا يقرِؤجوستاف لوون، وأن أكثر رجال النصرانية معرفة كانوا من الرهبان المساكين الجاهلين الذين يقضون أوقاتهم في أديارهم ليكشطوا كتب الأقدمين النفيسة بخشوع".
وترجم أيضا كتاب "روح الشرائع" هو سفر "مونتسكيو" السياسي الرائع، ولم يؤلف في الغرب ما يفوقه، وهو "أعظم كتاب فرنسي في القرن الثامن عشر". فهو جامع لفلسفة الاشتراع وحكمة التاريخ والفقه الدستوري، وهو سفر تحليلي، وهو في موضوعه أكثر الكتب تأثيراً في الأزمنة التي جاءت بعده ولم يظهر مثل واضعه كاتب مثّل في التاريخ السياسي دوراً مهماً، فقد استوحته دساتير فرنسة منذ ذرّ قرن الثورة الفرنسية، وكان له الأثر البالغ في وضع دساتير العالم حتى يومنا هذا. ومن الواضح انتحال الدساتير الأمريكية لمبادئه في فصل السلطات على الخصوص، وكتاب "روح الشرائع" هو الأثر الذي عُدَّ به" مونتسكيو" واضع علم السياسة وعلم الاجتماع في الغرب. كما ترجم لمونسكيو كتاب "العقد الاجتماعي" و"التربية" لروسو، و"التفاؤل" لفولتير، و"بسمارك"، و"نابليون"، و"النيل حياة نهر"، و"البحر المتوسط"، و"كليوباترا"، و" لإميل لودفيغ، و"الغزالي"، و"ابن سينا" لكرادفو، و"حياة محمد" لأميل درمنجم، و"حديقة أبيقور"، و"الألهة عطاش" لأناتول فرانس، و"تليماك" لفرانسوا فلينون، و"تاريخ العرب العام" لسيديو، و"ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية" لجاستون بوتول، و"ابن رشد والرشدية" لأرنست رينان وغيرها من الروائع..
بعد اعتزاله المحاماة، ظل عادل مقيماً في نابلس منكباً على الترجمة حتى وفاته فيها في 21 يناير 1957 نتيجة أزمة قلبية اصابته بينما كان منكباً على ترجمة كتاب "مفكرو الإسلام" للمؤلف الفرنسي "كارا دو فو". وقد قالت عنه الدكتورة بنت الشاطىء: "أعاد إلى الترجمة اعتبارها بعد أن هبط بها المرتزِقة والمأجورون وصنائع الاستعمار الفكريّ، وأنّه الذي وقف في غمرة الظلمة الداجية، يحمل المشعل بيده الكريمة ليضيء لقومه العرب، طريق الحقّ والخير والعِزّة. وما كان مشعله المضيء سوى قلم قويّ، نبيل أصيل، يستمدّ قوّته ونبله من عقل ناجح، وضمير حيّ، وقلب كبير، وذكاء ساطع". وتضيف: "لقد ظل عادل زعيتر في أفقه العالي حريصاً على الأمانة، معتزاً بكرامة قلمه، ضنيناً بمستواه على النزول جاذباً قراءه إلى بعيد الآفاق، وعالي الذرى، دون أن يدخل في حسابه قط مسألة الكم والعدد والربح والرواج، ولكم حاول بعض الناشرين أن يغروه بالنزول عن مستواه ليكسب مزيداً من القراء، لكن المحاولة ضاعت سدى وبقي حيث هو مصعداً، فمن أطاق من قرائه أن يشارف آفاقه فهو به سعيد وراض ومغتبط".