محمد أركون
المثقف النقدي التنويري المتبحر في محيطات
شاكر فريد حسن
مرة اخرى تفقد الساحة الثقافية والفكرية العربية المعاصرة قطباً آخر من اقطابها ،هو المفكر والأكاديمي والباحث الجزائري ،وريث ابن رشد ،البروفيسور محمد اركون،بعد حياة حافلة بالمنجزات والأعمال البحثية والفكرية في مجال الفلسفة والدراسات الاسلامية .
يعتبر محمد أركون من أعلام الفكر الفلسفي العربي الحديث ومراجع ثقافتنا العربية المعاصرة . اقام في فرنسا وأشغل رئيس قسم الدراسات العربية والاسلامية في جامعة السوربون الجديدة. وهو من أكبر وأعمق المثقفين التنويريين الجدد المتبحرين في محيطات المعرفة الاسلامية ،الذين راهنوا على قراءة الاسلام العربي بمنهجية علمية تحليلية وتفكيكية نقدية ، ومن المقاتلين والمدافعين عن قيم العلم والتنوير والتقدم، والداعين الى تأسيس وارساء نهضة اصلاحية مؤهلة لتجديد الفكر الاسلامي وتحديثه في العمق،وأحياء صوت العقل والأعتدال في الفكر الاسلامي ، وتأصيل الحداثة اسلامياً عبر تجديد الفكر الديني وتنويره بالعقل ليصبح مفتاحاً لفهم روح العصر والتفاعل معه، بدل أن يبقى ارثاً متحجراً يرزح تحت نير الرؤى السلفية الظلامية التي تعوق تطلعات الشعوب نحو الحرية والانعتاق.
بدأ محمد أركون مشروعه الفكري النقدي العلمي ، الاستمولوجي كرد على المعرفة الاتباعية، ونتيجة ذلك واجه التهم التكفيرية لكنه واصل جهوده العلمية ونشاطه المعرفي والفكري الواسع، منجزاً الكثير من الأعمال والمؤلفات والبحوث التاريخية ، وهي: " الأخلاق والسياسة، بحث في علم الأخلاق، ، قراءات في القراّن ،الاسلام ـ الدين والمجتمع، الفكر العربي الاسلامي، نقد واجتهاد الاسلام ـ أمس والغد، بحث في الفكر الاسلامي، الانسانية العربية في القرن الرابع عشر، اين هو الفكر الاسلامي المعاصر، الاسلام ـ أوروبا والغرب، رهانات المعنى وارادات الهيمنة، نافذة على الاسلام ، العلمنة والدين، الاسلام ـ المسيحية، الغرب، من الاجتهاد الى نقد العقل الاسلامي ، الفكر العربي، الاستشراق بين دعاته ومعارضيه، كيف نفهم الاسلام اليوم، قضايا في نقد العقل الديني ، من فيصل التفرقة الى فصل المقال.. أين هو الفكر الاسلامي المعاصر" وغير ذلك.
أن شواغل أركون كمثقف معاصر تطال موضوعات وجوانب كثيرة في سياق مشروعه الاسلامي ، وأبحاثه واسهاماته الفكرية والفلسفية تنصب على تحليل ما هو مفكر فيه وما هو محظور، وما يغفل التفكير فيه في الفكر الاسلامي ، أنها تكشف لنا عن عقل منهجي راجح واسع المعرفة وعميق الاطلاع، وعن توجه جديد داخل حقل الفكر الاسلامي يتجاوز المألوف ويبدأ من لحظة العقل المعاصر. وقد سعى أركون الى نقد العقل الاسلامي بتوسل ما أنتجته العلوم الاجتماعية والانسانية الحديثة والمعاصرة من أدوات ومفاهيم، ونجح بأن يجعل الاسلام، علماً وفلسفة، ساطعاً ومضيئاً على العالم بأكمله وذلك انطلاقاً من توجهه العقلي المنفتح.. وعن ذلك يقول: " عندما أدعو الى نقد العقل الأسلامي ، كما يبادراّخرون الى نقد العقل السياسي أو العقل الشرعي أو العقل الجدلي أو العقل اللاهوتي أو العقل الأخلاق، فأنما أهدف الى استكشاف كل ما يتحكم بنشاط العقل ونتائجه من عوامل متفاعلة وقوى متصارعة ، وأهواء متضادة وتوترات داخل الذات أو خارجة عنها".
وأبحاث وكتابات محمد أركون تمثل حالة معرفية وتنويرية وأخلاقية ، وذلك بتأكيده على ضرورة الخروج من دوائر العقائدية المتعلقة على ذاتها والأنطلاق نحو رحابة العلم والبحث الأستمولوجي وتشغيل المنهجيات التفكيكية.
وفي كتابه " من فيصل التفرقة الى فصل المقال.. أين هو الفكر الاسلامي المعاصر " يثير أركون قضية معرفية وهي القطيعة الفكرية التي حدثت في التاريخ الاسلامي .
صفوة القول ، محمد أركون فيلسوف التفكك الاسلامي ،ومدشن النزعة الانسانية في التراث العربي الاسلامي ، ساهم مساهمة عظيمة ورائدة في ضبط اليات التفكير العربي الاسلامي، وتقديم صورة مشرقة ومضيئة للاسلام الحقيقي والعريق، وهو واحد من المفكرين العقلانيين والتنويريين الذين استوعبوا حقائق عصرنا الراهن ، استيعاباً عقلياً نقدياً ومعرفياً، وجعلوا من المناهج التعليمية والتربوية مراكز لتجديد المعارف وجسارة الابداع والابتكار، لا قاعات للمتملقين أو ساحات لوعاظ السلاطين وبلهاء العصر.وبرحيله تنتهي حياة مفكر عميق وأصيل عرف بسيرته العلمية المتنورة، ونادى بضرورة مواجهة تردي الفكر العربي وتنوير العقل العربي ،وغيابه يشكل خسارة جسيمة بكل المقاييس للثقافة العقلانية والنقدية وللفكر الحر المتنور،من الصعوبة تعويضها.