سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي 8
سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي
( الحلقة 8 )
تعرضت لظروف مالية صعبة بعد خروجها من السجن ولكن الله سترها وأكرمها
كانت أسرتها عبارة عن خلطة سياسية مدهشة واعتبرها البعض حكومة ائتلافية
بدر محمد بدر
حكاية الداعية زينب الغزالي مع زوجها رجل الأعمال كانت عجيبة!.. إنها لم تكن زوجته الأولى, ولا حتى الزوجة الثانية, بل كانت الزوجة الثالثة! وعندما أراد أن يتزوجها اشترطت عليه ـ ضمن ما اشترطت ـ ألا يطلق أياً من زوجتيه, وأن يقسم حياته بين الثلاثة بالعدل المستطاع, وألا يفضلها على زوجتيه, حتى إنه بعد أن توفي ظلت ترعى زوجتيه, وتبرهما وتشاركهما الأفراح والأحزان, كما كانت ترعى ابنته الوحيدة الحاجة صفية وتطمئن عليها باستمرار, حتى إنها زوجت ابن الحاجة صفية إلى إحدى حفيدات شقيقتها " حياة ".
و بعد الخروج من السجن وجدت السيدة زينب نفسها في أزمة مالية صعبة, فبعد وفاة زوجها لم يكن لها مصدر للإنفاق على احتياجاتها المعيشية والحياتية, وفي فترة السجن العصيبة لم تجد شقيقتها " حياة " ـ التي كانت تعيش معها بعد وفاة زوجها ـ مفرا من بيع قطع الأثاث المنزلية واحدة بعد الأخرى, وكل ما يمكن بيعه من أصول المنزل وضرورياته, حتى توفر لشقيقتها أعباء الزيارة في السجن من طعام ودواء وغيره, وفي الأسبوع الأخير من وجودها في السجن, كانت قد باعت شقيقتها آخر " سجادة " في البيت.
الأدهى والأغرب من ذلك أن شقيقها الأصغر منها " عبد المنعم ", ـ وكان في ذلك الوقت يساري الفكر, يشفق على الفقراء والمحتاجين, ويعيش حياته دفاعاً عن المهمشين وعلى رأسهم الطبقة العمالية ـ استغل توكيلاً عاماً من أخته " زينب " ليوقع عقودا لبيع قطعة الأرض الزراعية التي تملكتها عن زوجها في منطقة " طامية " بمحافظة الفيوم ( 80 كيلومترا جنوب القاهرة ) من المستأجرين لها بقيمة مالية لا تكاد تذكر, والسداد على أقساط شهرية لا تقدم ولا تؤخر!.
كان الأستاذ " عبد المنعم " يؤمن بالمذهب الماركسي في الاقتصاد الذي يرى بأن الأرض لزارعيها, وأنهم أحق بخيراتها من ملاكها!, فكان أول ما قامت به " زينب " هو إلغاء هذا التوكيل, وبالتالي إلغاء بيع الأرض ورد ما تم تحصيله من أقساط, وظلت هذه القضية معروضة على القضاء قرابة الثلاثين عاماً, حتى استطاعت أن تحصل على حقها في امتلاك هذه الأرض, ولكن بعد أن كانت قد تجاوزت الثمانين من العمر! كما أن ميراثها من زوجها محمد سالم سالم, لم تحصل منه شئ بعد أن استولت الحكومة على معظمها, وإحدى شركاته التي تركتها السلطة تراكمت عليها الديون الحكومية, من ضرائب سنوية وغرامات تأخير وأقساط تأمينات وخلافه, حتى وجد المحامي الخاص بالسيدة زينب الغزالي ـ وكان نقيب المحامين في الفيوم ـ أن المبلغ الذي تطلبه الدولة أكثر بكثير من أصول الشركة, فتنازل لها عن الشركة ومعداتها!
لكن الله سبحانه وتعالى لا ينسى عباده الذين بذلوا وضحوا وصبروا وصابروا, حبا في دينهم ودفاعاً عن عقيدتهم.. كانت الداعية الكبيرة قد اشترت في أوائل الستينيات من القرن الماضي قطعة أرض في مدينة الضباط بالحي الخامس في مصر الجديدة, وبنت فوقها فيللا مكونة من ثلاثة أدوار, عاشت هي في الدور الأرضي الذي تحيط به حديقة خاصة, وقامت بتأجير الدورين: الأول والثاني للسكن.
وبعد خروجها هداها تفكيرها إلى تعلية الفيلا لثلاثة أدوار أخرى, واستشارت بعض المحيطين بها فوافقوها الرأي, وقام أحد رجالات الإخوان الكرام ـ وهو المهندس عبد المنعم خليفة ( رحمه الله ) ـ ببناء الأدوار الثلاثة بنظام التمويل الذاتي, ثم باعت هذه الأدوار الجديدة, ومن فارق الثمن ـ وكان معقولا ـ رتبت أمور حياتها المادية والمعيشية, بعد أن وضعت جزءا من هذه الأموال لدى إحدى الشركات التي يديرها أحد رجالات الإخوان المسلمين لتوظيفها, وعاشت بعد ذلك من هذا العائد حياة مادية هادئة ومستقرة.
كانت أسرة الداعية الكبيرة عبارة عن " خلطة " سياسية وثقافية عجيبة ومدهشة!.. وكان بعض السياسيين يطلقون عليها أسرة " الحكومة الائتلافية "!! لوجود عدة أطياف سياسية بين الأشقاء والشقيقات..
كان الشقيق الأكبر المهندس " سعد الدين " ـ رحمهم الله جميعا ـ بعيدا عن السياسة, وتوفي في أوائل السبعينيات من القرن الماضي, وكان متأثرا ومتألما لاعتقال وسجن كبرى شقيقاته زينب.
وكان الشقيق الثاني السيد " على " وكيلاً لوزارة المالية المصرية, ومديراً سابقاً للتكية المصرية في السعودية, وكانت ميوله السياسية مع " الحزب الوطني " القديم, الذي كان يتزعمه " مصطفى كامل " في أوائل القرن الماضي, وآخر من تولى قيادته هو الأستاذ " فتحي رضوان " المحامي الشهير ـ رحمه الله ـ ثم تفاعل الأستاذ علي بعد ذلك مع حزب الوفد الجديد عند انطلاقته في ثمانينيات القرن العشرين.
وكان الشقيق الثالث لزينب الغزالي هو الشيخ " محمد الحسيني " يجمع بين حبه الكبير للجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة, التي أسسها الشيخ محمود خطاب السبكي في عشرينيات القرن الماضي, ويرأسها حاليا العالم الأزهري الجليل الشيخ محمد المختار المهدي, وبين عشقه لدعوة الإخوان المسلمين, فكان يرتدى " زى " الجمعية الشرعية الذي هو " الجلباب والعمامة والعدبة ", وبين الالتزام بمنهج الإخوان في الدعوة الشاملة, وكان الشيخ محمد قريباً جداً من الإمام الشهيد حسن البنا, حتى إنه أوكل إليه مهمة الإشراف على شئون بيته وأسرته.
وكانت الداعية الكبيرة الحاجة زينب هي الرابعة في ترتيب أبناء أسرة الغزالي الجبيلي ومعروف أنها قيادية في جماعة الإخوان المسلمين, ورئيسة لجمعية " السيدات المسلمات " منذ عام 1937 وحتى قيام مجلس قيادة الثورة بحلها في عام 1964, ولها باع طويل في العمل الإسلامي الدعوي والاجتماعي والجهادي ضد الاستبداد والفساد, ومنهجها معروف في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
أما الشقيق الخامس فهو السيد " محمد نصر الدين " الشهير ب " سيف الدين ", وكان وفدياً متعصباً حتى النخاع, وعند عودة حزب الوفد الجديد للعمل السياسي في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي ( 1983 ), تولى أمانة الشباب في الحزب, وخاض الانتخابات البرلمانية عام 1984ممثلا للحزب عن دائرة الخليفة بالقاهرة, حتى أصبح عضواً بارزاً في مجلس الشعب المصري, وكان شديداً وعنيداً في الدفاع عن الحزب حتى آخر حياته.
والشقيقة السادسة هي السيدة " حكمت " وكانت " ناصرية " الفكر يسارية التوجه, تدافع عن الرئيس جمال عبد الناصر وتؤمن بشعاراته ومبادئه ومنهجه السياسي, وبرغم حزنها على سجن وتعذيب شقيقتها زينب في عهده, إلا أنها كانت مخلصة للفكر ولسياسة عبد الناصر, حتى آخر حياتها, وعندما توفي " القائد " في 28 من سبتمبر عام 1970 أقامت سرادق عزاء في بيتها لاستقبال المكلومين في وفاته !.
والشقيق السابع هو الأستاذ " عبد المنعم " الصحفي والكاتب العمالي في جريدة الأهرام, وقد كان في بداية حياته متصوفاً, يحب الفقراء ويعطف عليهم ويقدم لهم كل ما يمكنه, من ملبس ومأكل ومال ودعم, وعندما لم يجد في " الصوفية " ضالته, انضم إلى أحد التنظيمات الشيوعية, وحمل الفكر الذي تصور أنه يدافع عن الفقراء, خاصة الطبقة العمالية الكادحة, واهتم بالدفاع عن النقابات العمالية والعمل النقابي بشكل عام, وفى منتصف الثمانينيات من القرن الماضي استقر في بيت شقيقته زينب, بعد عودته من العراق الذي كان فيه لاجئا سياسيا بعد رفضه لاتفاقية كامب ديفيد ـ حيث أنه لم يتزوج ولم يكن له بيت مستقل ـ وبمخالطته لشقيقته بدأ الإيمان يستيقظ في قلبه مجدداً, وانتظم في أداء الصلوات الخمس وبقية العبادات وأحسن الله خاتمته, حيث مات في شهر رمضان المبارك, وصلى عليه خلق كثير.
أما الشقيقة الثامنة والأخيرة فهي السيدة " هانم " الشهيرة ب " حياة " وكانت أقرب إلى شقيقتها " زينب ", وعاشت معها بعد وفاة زوجها في الخمسينيات من القرن الماضي, فأحبتها وأكرمتها وخدمتها هي وضيوفها, وكانت " حياة " تشرف على أعمال البيت ومطالبه من ترتيب وتنظيف ومأكل وملبس ورعاية الضيوف وغيره, مما ساعد الداعية الكبيرة على أداء دورها, والتفرغ تماماً للعمل للإسلام والجهاد في سبيله, ورزقها الله بابنة وحيدة هي السيدة " عائشة ", التي رعت خالتها زينب ووالدتها حياة في شيخوختهما.
وكان للأسرة ثلاثة أشقاء من الأب هم: عبد الحكيم وأختان اثنتان, وقبل أن تلقى زينب الغزالي ربها, توفى كل أشقائها وشقيقاتها, وجميعهم كانوا معمرين, فقد توفي بعضهم بعد أن جاوز التسعين من العمر, وعاشت والدتهم قرابة 93 عاماً, وتوفيت في شهر أغسطس عام 1982.
وبرغم هذا التنوع السياسي والاختلاف الفكري والتنافر الثقافي بين الأشقاء والشقيقات, إلا أنني أشهد بأن الاحترام والتقدير البالغين, كانا أساس التعامل بين الجميع, وكانت الداعية المجاهدة تحظى بتقدير كبير واحترام بالغ ومكانة خاصة داخل الأسرة, نظراً لمكانتها المعروفة, ليس في مصر فقط بل وفي العالمين العربي والإسلامي, ولما تحمله كذلك من فكر وتاريخ ونضال يحظى بالاحترام من الجميع.
كانت أسرة الحاجة زينب الغزالي ـ برغم اختلاف الفكر والتيارات السياسية ـ تعيش بأخلاق عالية وتماسك كبير واحترام بالغ, وهذه صورة واقعية أقدمها للذين يتهمون الإسلاميين بالتشدد تجاه الرأي الآخر, عسى أن يدركوا الحقيقة.
ولم تكد الداعية الكبيرة ترتب أوضاع بيتها حتى تعرضت لفتنة صعبة.. في هذه الظروف التي لم تكن قد استقرت بعد, جاءها من يعرض عليها صفقة بمليون جنيه!..