الشاعر محمد عفيفي مطر
شيخ المعتزلة في الثقافية المصرية
محمد فاروق الإمام
[email protected]
رحل عن
هذه الدنيا الشاعر المصري محمد عفيفي مطر يوم
28 حزيران عام
2010م عن 75
عاماً، وهو من مواليد قرية (رملة الأنجب) بمحافظة
المنوفية عام
1935م.
تخرج
في كلية الآداب ـ قسم الفلسفة. وحصل على جائزة الدولة التشجيعية في الشعر عام 1989م
وحصل على التقديرية عام 2006م وصدرت أعماله الكاملة عن دار الشروق عام 2000م.
يعتبر
مطر من أبرز شعراء جيل الستينات في مصر، وقد تنوّعت مجالات عطائه بين المقالات
النقدية وقصص الأطفال وترجمة الشعر، وفاز بجوائز عديدة منها جائزة سلطان العويس في
عام 1999م. ومن دواوين عفيفي مطر 'الجوع والقمر' الذي صدر في دمشق عام 1972م،
'ويتحدث الطمي' الذي صدر في القاهرة عام 1977م، ورباعية 'الفرح'، وصدر في لندن عام
1990م،
واحتفالية 'المومياء المتوحشة'، وصدر في القاهرة عام 1992م.
عفيفي مطر هو أحد كبار «المعتزلة» في الثقافة المصرية، مثله مثل زميله في توقيت
الرحيل المتقارب فاروق عبد القادر. كان على خلاف دائم مع المؤسسة الثقافية الرسمية،
منذ البدايات، وربما قبل أن يظهر في الساحة الثقافية ديوانه الأول «من دفتر الصمت»
عام 1968م. وهو الديوان الذي صدر في دمشق، إذ لم يكن ممكناً له أن ينشر داخل مصر
بسبب خلاف تاريخي مع الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور. وتتابعت دواوينه أيضاً خارج
مصر... ربما أسهم هذا الموقف ونظرة مطر نفسه للشعر، في «عزله» عن الجماهير.
يُعدّ مطر أحد شعراء الجيل الثاني لقصيدة التفعيلة، يجايله أمل دنقل وفاروق شوشة
ومحمد إبراهيم أبو سنة. لكنه حاول ـ حسب تعبير الناقد والشاعر محمد بدوي ـ أن «يصوغ
لنفسه موقفاً مختلفاً عن الشعراء السياسيين ذوي اللهجة الحادة، على الرغم من أن
خطوطهم الفكرية هي واحدة تقوم على تقديس الجماعة وحِكمتها، على أن يكون الأدب
تعبيراً لها». بدوي يرى أن «خطاب أمل دنقل القومي في الشعر يقوم على دقته اللغوية
وسلامة بناء القصيدة. بينما مفهوم العروبة لدى مطر يتبدى في حراسة اللغة، إذ ينبغي
أن تكون اللغة في أقصى درجات توهّجها معتمدة على مجموعة من الأشياء مثل الانحراف في
الاستعارة. كما أن الشاعر يوسّع اللغة، بمعنى أنه يبحث عن العلاقات اللغوية التي
تجعل القصيدة تكاد تكون مستغلقة على القارئ. لذلك، فالشعر لديه هو عمل في اللغة
وتأويل للعالم يعتمد على اللاوعي».
الشعر إذاً، حسب رؤية مطر نفسه، لا ينبغي أن يكون «صدى للسياسي بل فعلاً مباشراً»،
فـ«السياسي لا يمكن أن يفتح آفاقاً للشعري سوى آفاق السجون والمعتقلات». هكذا، يمكن
اعتبار شعرية مطر، بتعبير محمد عبد المطلب، «شعرية التراكم لا القطيعة، كأن قصائده
عمرها ألف عام مع أنّها بنت لحظتها. وهذا البعد الزمني المتوهم جاء لأنّ الإنسانية
كلها حاضرة في هذه الشعرية، حاضرة بعقائدها وأساطيرها وخرافاتها وفلسفاتها وأحلامها
وتاريخها. ولا يمكن في أي حال من الأحوال أن نفصل هذه الشعرية الإنسانية الحضارية
عن ذاتية عفيفي وهمّه الوطني والقومي والإنساني».
لكن
مواقف مطر الحياتية لم تكن غارقة في الغموض الشعري. لم يبتعد قط عن الجماهير، هكذا
أصدر مجلة «سنابل» عام 1969م التي استمرت ثلاث سنوات، في وقت قضت فيه السلطة
الناصرية وبعدها الساداتية على مجلات الثقافة في مصر. كانت المجلة على حد تعبير مطر
في أحد حواراته «صورة عن كرامة المثقفين والمبدعين الهامشيين، وبعيداً عن الانتباه
من الرقابة ويقظة المسؤولين. لقد جعلنا منها موسماً باذخاً من الحوار الحر، ورحابة
التعدد، وصراحة التعبير». لم تنتبه السلطة للمجلة حتى نشر مطر قصيدة أمل دنقل
«الكعكة الحجرية».
لكن
هل عُرِف مطر حقاً؟ الشاعر عبد المنعم رمضان يرى أنّ صاحب «الجوع والقمر» لم يُعرف
حتى الآن، ولم توضع دراسات نقدية تعُرِّف به مثلما حدث مع الآخرين. يوضح رمضان:
«صلاح عبد الصبور وأمل دنقل وعبد المعطي حجازي نجحوا في كتابة قصائد، اخترق بعضها
زمنه إلى الأزمنة التالية، بينما كانت قصائد مطر هائلة في لحظتها، لكنها لم تتحرك
عبر الأزمنة». لكن ثمة اتهامات لعفيفي بالتأثر بأدونيس! يجيب رمضان: «في بداية
حياته، حوصر بهذا الاتهام. لكنّني أظن أنّ أدونيس كانت عيناه إلى أعلى، بينما كانت
عينا عفيفي إلى الأرض». ويضيف رمضان: «من أجل أن ينفي مطر تهمة التأثر بأدونيس،
بالغ في هجومه على «مهيار»، واتهمه بسرقة مصطفى صادق الرافعي. كما سافر إلى اليمن
في عام 1989م ضمن ندوة عن الثورة الفرنسية كان عرّابها حينها أدونيس، وأصرّ على
مهاجمة الاحتفالية رغم أنه لم يبرر سبب سفره ومشاركته». ويختم رمضان مؤكداً أن «مطر
هو شاعر التوقيت الخاطئ. قد تكون قيمته أكبر من قيمته المعلنة، وكل عائد إلى ذلك
التوقيت الخاطئ في كل ما كان يقوم به».
يقول
عنه الشاعر الفلسطيني
المتوكل طه'.
لقد استطاع محمد عفيفي مطر- هذا الشاعر المنسي أو المُغيَّب - أن يقدم صيغة مبدعة
لعلاقة الشاعر المثقف بالسلطة وإفرازاتها وهيمنتها وما تضعه حولها من نخب تتبنى
وتردد أطروحاتها ، خالقة بذلك 'ظلاماً ' كثيفاً يمنع الرؤيا ويقتل الرؤية ويغتال
البصيرة والحياة. إنّ مفردة 'الظلام' التي يستعملها الشاعر محمد عفيفي مطر هي من
أكثر المفردات تكراراً في دواوينه الظلام الذي يعيشه الشاعر ليس فقط، في زنزانته
التي يسميها 'جحيماً' وإنما في لحظته المعيشة وفي تاريخه. إن ما يعانيه ويكابده
الشاعر جعله يرى الأشياء من جديد ويقرأ التاريخ بعيون وروح جديدة ، أو لنقل ،
بنظرية جديدة هي نظرية 'الخوف من الخوف'. وما بين 'الظلام' و'الخوف' يكون الموت،
وفي هذه الكآبة، والقتامة، تلد قصيدة الشاعر محمد عفيفي مطر، قصيدة تضجّ بالألم
والفزع والكوابيس والرؤى المقتولة والأماني المغدورة ووجوه الأحبة الموتى والمدن
التي يسكنها الأشباح كما أنها قصيدة مُركّبة تستند إلى الأسطورة التي يُعيد إنتاجها
بلغة حداثية فلسفية، تؤكد أن صاحبها شاعر رجل يستحق الاحترام.
العزلة أتاحت له أن يعكف على مشروعه الشعري، مطوّراً إياه بدأب شديد. كما طوّرت هذه
العزلة عالمه الشعري بعيداً عن ضغط الجمهور، ليصبح رائداً في تطوير القصيدة عبر
«نزوعها إلى السرد»، أو في بروز جنس أدبي جديد هو قصيدة السيرة عموماً وقصيدة
اليوميات على وجه الخصوص.