في كتَّاب الشيخ علي أبوالعيش مرة أخرى
د. ماجد عرسان الكيلاني
أعد التقرير:
د. ماجد الكيلاني
أسماء الشبول
في الحلقة الأولى تحدثت عن ذكرياتي في عهد الطفولة في كتَّاب الشيخ علي أبو العيش.
وفي هذه الحلقة اقدم مختصرا عن حياة الشيخ علي أبو العيش وإعداده العلمي، والشيوخ الذين درًَّسوه وتأثر بهم، والمناهج التي اعتمدها المعهد الذي درس الشيخ علي فيه.
موجز سيرته الشخصية
ولد الشيخ علي أبو العيش سنة 1912م، وكان ميلاده في قرية عمراوة في شمال الأردن مقابل الهضبة السورية. والواقع أن نشأته في تلك القرية النائية في منطقة لم تكن تتفاعل مع غيرها، ثم وعي أسرته بإرساله للدراسة في مدينة دمشق إنما يجعلنا نستنتج أن الشيخ علي نشأ في أسرة لديها من سعة الأفق ما جعلها تقدر قيمة التعليم في تلك الفترة المظلمة.
وهو الآن يقضي فترة التقاعد في قرية الشجرة - التي تبعد عن قرية عمراوة 20كم-.
وللشيخ علي أسرة تتألف من ثلاثة أبناء وأربع بنات هم: محمد وأحمد وعبد الستار وبدرة وبدرية وفاطمة ورحمة.
تعليمه وثقافته وشيوخه
تلقى الشيخ علي تعليمه في دمشق في مدرسة الشميساتية قرب المسجد الأموي من الجهة الشمالية. وكانت هذه المدرسة في السابق بيتا للخليفة عمر بن عبدالعزيز بن مروان الأموي.
وفي هذه المدرسة تتلمذ الشيخ علي أبو العيش على يدي نخبة من كبار علماء الشام الذين اشتهروا بالعلم والورع والتقوى.
كان شيخه في الحديث الشيخ بدرالدين الحسني الذي كان يحفظ صحيح البخاري عن ظهر قلب.
أما شيخه بالأدب الشيخ علي الذقر تلميذ الشيخ بدر الدين الحسني، وشيخه في اللغة العربية الشيخ عبدالكريم الرفاعي، وشيخه في الفقه الشيخ أحمد البصراوي فقيه على المذهب الشافعي، وشيخه في المنطق والبيان الشيخ عبدالحليم الطباع، وشيخه في التوحيد الشيخ حسن حبنكة وغيرهم ممن اشتهروا في تلك الفترة.
واستمرت مدة دراسة الشيخ علي في الشام 6 سنوات، وكانت دمشق وقتها تعج بالمدارس الإسلامية ومعاهد التراث والثقافة. بل إن البيئة العامة كانت بيئة ثقافية، فكانت الثقافة هي مادة الحديث التي يتحدث بها عامة الشعب.
المناهج الدراسية
كانت المناهج التي درسها الشيخ علي متضمنة الكتب التالية:
1- جوهرة التوحيد
2- ألفية ابن مالك
3- كتب السيرة النبوية والفقه والأدب
وكانت طريقة التدريس حلقات، كل حلقة تشمل 10 – 15 طالبا ، والأستاذ عن طريق كتاب مخصص للمنهاج.
تخرجه وحياته العملية
عاد الشيخ علي إلى الأردن وإلى منطقة الرمثا التي كان ميلاده في أحد قراها – عمراوة - ، وفتح أول كتَّاب في قرية الشجرة سنة 1936م، وكان الكتَّاب المعهد البارز فيها، ولذلك لم يقتصر على استقبال طلاب قرية الشجرة وإنما جاءه طلاب من القرى المجاورة ( الطرة وعمراوة والذنيبة...) .
كان الشيخ علي واسع الأفق، بعيد النظر، لم يقصُر الدراسة على استقبال الذكور وإنما أضاف الإناث، ويذكر الشيخ علي بعضا منهن مثل: بدرة وبدرية – ابنتا الشيخ علي أبو العيش-، وعائشة الظاهر، وتمام أبو فرجة – وهي من أسرة لبنانية كانت تقيم في قرية الشجرة-، وفتحية زوجة أحمد محسن – وهي من مدينة دمشق تزوجت في قرية الشجرة-، وجواهر سليمان رمضان، وبدرية عبدالرحمن الشبول وغيرهن.
ويذكر الشيخ علي أنه كان يستقبل في كل عام عددا يتراوح ما بين 40- 80 طالبا.
البرنامج الدراسي في الكتَّاب
يقول الشيخ علي: كنت أبدأ في تعليم الطالب من الحروف الأبجدية حتى يتمكن من حفظها وكتابتها، وبعد ذلك أنقله إلى دراسة سورة الفاتحة مع كتابتها ونسخها، والهدف من ذلك أن يتقن الطالب فراءتها وكتابتها. ثم ينتقل الطالب إلى الجزء الأخير من القرآن الكريم (جزء عمَّ)، فيبدأ من سورة الناس إلى سورة النبأ، وهكذا حتى يختم كل طالب القرآن، وتقام له حفلة التخرج.
ويتابع الشيخ على قائلا: وكنت أعلم الطلاب العمليات الحسابية الأربع (الجمع والطرح والضرب والقسمة)، والخط حيث كنت أكتب لهم بعض الجمل ليكرروا كتابتها عدة مرات. وكنت أعلمهم القصائد الشعرية، والخطب الهادفة، والحِكم الأصيلة، وشعر الحماسة مثل شعر الإمام الشافعي والمتنبي وزهير بن أبي سلمى.
رسوم الدراسة:
كذلك سألنا الشيخ عن الأجرة التي كان يتقاضاها أو راتبه الشهري، فقال – وهو يبتسم - :
كانت الأجرة كل يوم خميس قرشا أو نصف قرش، وبيضة واحدة. وعندما يختم أحد الطلاب القرآن يقدم أهله هدية للكتَّاب مقداره نصف دينار أو مدّا من القمح في أيام الحصاد.
والطالب الذي يحفظ القرآن كان المعهد (الكتَّاب) يقيم له زفِّه يزفه إلى بيت أهله، ويكرمهم والد الطالب بتناول طعام الغداء أو تقديم الحلوة.
الدور الإجتماعي لشيخ الكتَّاب:
ويضيف الشيخ علي أنه بالإضافة إلى التدريس تم تعينه مأذونا شرعيا في لواء الرمثا، وكانت أجرة العقد دينار ونصف. وبعد ذلك تم تعينه إماما وخطيبا لمسجد قرية الشجرة، وكانت أجرته السنوية ثمانين مُد من القمح. وكان هناك شخص أكبر منه سنا يساعده في خدمة المسجد وإقامة الآذان للصلوات الخمس وهو الحاج محمد عودةالله الشبول الذي تميز بالكرم والتقوى.
ثم انتقل إلى الأوقاف واعظا متجولا في قضاء الرمثا كله، وخلال هذه السنوات كان الشيخ علي منفتحا على جميع التيارات الإسلامية مما جعله واعظا متميزا في المحتوى والأسلوب.
بعد هذه المسيرة الحافلة بالعطاء والخير والتفاني وبالعمل الدؤوب، ما زال الشيخ علي يتمتع بكامل قواه العقلية موفور الصحة بالنسبة لعمره الذي وصل القرن، وما زال مجلسه مجلس علم. بل أن زوّاره لا يجدون عنده إلا العلم والأدب الذي يجد الشيخ علي فيهما متعته في سن شيخوخته الحالية، وما زال طلابه يحبونه ويكرمونه ويكررون زيارته اعترافا بالجميل.
وللشيخ علي ولع بدراسة القرآن الكريم، ومن أقواله:
"من أراد الدنيا فعليه بالقرآن، ومن أراد الآخرة فعليه بالقرآن"
مصير المعهد
ظل الكتَّاب قائما حتى حوالي 1950م أي بمقدار 14 سنة، حتى جاء الإنتداب البريطاني ووضع خطة للقضاء على الكتاتيب والمعاهد الإسلامية وحلَّ محلها التعليم على النمط الغربي، ولم يجد الشيخ علي خلال ذلك إلا إغلاق الكتَّاب والإنتقال إلى الوعظ في وزارة الأوقاف.
وتكمن أهمية هذا البحث بما يلي:
مع أن محاربة القوى الإستعمارية للتعليم الإسلامي وإلغاء مؤسساته تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، ثم امتدت عبر القرن العشرين، إلا أن المؤتمرات والدراسات المتعلقة بالكتاتيب وبقية المؤسسات التعليمية الإسلامية جددت البحث في واقع هذه المؤسسات، وأرسلت الباحثين والمختصين إلى العالم الإسلامي الذين جمعوا المعلومات وحللوها وقدموها إلى صانعي القرار في إسرائيل والولايات المتحدة.
ولعل المقام لا يتسع لسرد محتويات الأبحاث والمناقشات المتعلقة بهذا الأمر، ولذلك نكتفي بتقديم البحث الذي أجراه عام 1980م البروفسور دانيال أ واجير Daniel A. Wagner استاذ الدراسات العليا بكلية التربية في جامعة بنسلفانيا القائمة في مدينة بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد سافر البروفسور واجنر هذا إلى العالم الإسلامي مستعينا ببعض طلبة الدكتوراة الوافدين من العالم الإسلامي وبتمويل من الشركات الكبرى ومؤسسة فورد، وقضى خمسة شهور يتجول في ديار المسلمين كتب بعدها ععدا من البحوث منها:
- تعليم القرآن في العالم الإسلامي المعاصر
( Quranic Education in Today Islamic Word)
ولقد بدأ بحثه بالقول:
" ينهض الشيخ عبدالله Serigne Abdaulaye بعد الفجر، وهو رجل في الخمسينات من عمره، ولكنه مفعم بالحماس والحيوية، ويتقن اللغة السنغالية، بالإضافة إلى اللغة العربية الفصحى. ويعكس مكتبه المليء بالكتب والمخطوطات المبعثرة، والشهادات والصور خبرته الطويلة في تدريس القرآن. وبعد وصوله – دار القرآن- التي يشرف عليها والمعروفة باللغة السنغالية بإسم Jungo يبدأ وصول الأولاد والبنات الذين تتراوح أعمارهم بين السنة الثالثة، وبين سن المراهقة حيث يتخذون مقاعدهم الخاصة بهم في غرفة طويلة مغطاة بسقف من الزنك المتموج وإلى جانبه كل طفل – الذي يطلق عليه اسم طالب – يجد لوحا من الخشب مكتوب عليه حوالي 25-30 سطر من المخطوطات العربية بالحبر الأسود المصنوع من القش المحروق والماء.
وبعد فترة قليلة يبدأ طنين أصوات حوالي (50) طفلا أو أكثر بينما يقرأ كل طفل ما هو مكتوب على اللوح الخشبي وهو يحرك رأسه يلحن مؤثر رتيب. والفرد الغربي من أمثالي ربما رأى في هذا الشكل من قراءة القرآن شكلا من أشكال الترانيم الدينية.
لقد كان الأطفال – في مكتب الشيخ عبدالله – يتعلمون سورا من القرآن – الكتاب المقدس- في العالم الإسلامي كله، وكان الصغار يقلدون الصبيان الكبار في هذه القراءة ويكررون نفس الألفاظ والجمل بألحان مماثلة. مع أنهم لا يفهمون ما يقرأون. أما الصبيان الكبار والمراهقين، الذين يعرفون شيئا من اللغة العربية، فهم يدرسون بشكل فردي أو مجموعات صغيرة، ويركزون على السور الأصعب بينما هم يستثمرون في القراءة والإنشاد بطريقة تشبه طريقة الأطفال الصغار.
أما الشيخ عبدالله فهو يعلم نفرا من هؤلاء الطلاب الكبار ليتدربوا ليكونوا مدرسين في الكتاتيب القرآنية.
ويمضي البروفسور واجنر بعد هذه المقدمة التي تصف طريقة تعليم القرآن الكريم للأطفال المسلمين ويصورها بطريقة الغربي الذي تدهشه هذه التلاوة، ثم يذكر أن رأي أطفال أكثر حماسا لما يقرأونه، وأحسن تعلما، ويتقنون الكتابة. ويضيف أن – دار القرآن هذه – هي نموذج لآلآف المدارس القرآنية المنتشرة في أقطار العالم الإسلامي التي زارها. رغم أن بعض هذه الأقطار تعارض التعليم الإسلامي، ولكن هذه المدارس القرآنية تمارس عملها بغفلة من الحكومات كما هو جار في دار القرآن هذه التي يديرها الشيخ عبدالله في مدينة صغيرة تسمى – ديوربل Dioubel وتقع غرب العاصمة – دكار – على بعد (60) ستين ميلا. ويذكر البروفسور واجنر أن الدولة في السنغال عمدت إلى إقامة مدارس على النمط الغربي، ولكن دور القرآن تقف عائقا أمام نجاح هذه المدارس، وبمثل هذه الدور القرآنية استطاع الإسلام أن يحافظ على وجوده عبر الأجيال في العالم الإسلامي كله في أفريقيا وآسيا.
ويضيف - البروفسور واجنر- أن دور القرآن هذه هي المحاضن الأولى التي نشأ فيها القادة والعلماء والدعاة الذين قادوا الحركات الإسلامية التي قاومت الاستعمار الأوروبي والأمريكي، وأنها تتطور– في الوقت الحاضر- في كل بلد إسلامي ابتداء من أندونيسيا ثم مرورا بالشرق الأوسط العربي حتى مراكش في المغرب الأقصى.
ففي كل هذه الأقطار يشاهد الزائر طلاب يحفظون القرآن. ويقرأونه وهو يهزون رؤوسهم - كما هو الحال في مدرسة الشيخ عبدالله في السنغال – وينشدون بنفس الألحان. ويضيف كذلك أن نذر هذه المدارس القرآنية وخطورتها واضحة جلية في الثورة التي اشتعلت حديثا في إيران والتي تحتل أنباؤها الصفحات الأولى من صحف العالم كله.
ويستمر – البروفسور دانيال واجنر- سرد ما رآه في أقطار أخرى غير السنغال ثم يعلق قائلا:
" لقد كانت أول محطة لهذه الدراسة هي اندونيسيا التي يقطنها (140) مليون مسلم والتي قليلا ما يخطر في بالنا نحن الغربيون انها بلد اسلامي بسبب ما نقرأه عن تاريخها البوذي قبل الاسلام، ولان قبعة سوكارنو (رئيس اندونيسيا في ذلك الوقت) تذكرنا بالقبعات المالوية ولا تذكرنا بالعمائم العربية التي نشرت الاسلام في تلك البلاد .. وبالرغم من التأثيرات الغربية القائمة فان دور القران ملتصقة بالمساجد والنشاط قائم فيها على قدم وساق " .
واخيرا يختم البروفسور واجنر بحثه بالقول :
" من اندونيسيا الى مناخ السنغال الحار ، ومرورا بالشرق الاوسط فإن جميع الاقطار التي مررت بها وجدنا اسلاما عنيدا يعمل ليل نهار لصبغ المنطقة بالصبغة الاسلامية، وتهيئ السكان فيها لمواجهة النفوذ الاوروبي – الاميركي" .