حاكم دولة حلب العام مرعي باشا الملاح
رجالات سورية
حاكم دولة حلب العام
مرعي باشا الملاح
محمد فاروق الإمام
مرعي باشا الملاّح، رجل دولة، وزعيم سياسي سوري مخضرم. كان من خيرة وجهاء حلب بل و"عين أعيانها المحترمين". وقد تلقى العلم عن شيوخ بلده وتخرج في المعهد السلطاني العثماني باسطنبول، وأتقن عدة لغات، ثم انتظم في وظائف الدولة وارتقى في مناصبها الرفيعة في مختلف العهود التي خبرها (العثماني والفيصلي والانتدابي) إلى أن سمي أخيراً (حاكم دولة حلب العام) في الفترة (1924-1926).
وفي جميع المناصب التي أسندت إليه حقق مشروعات عمرانية وإصلاحات إدارية واجتماعية، لا تزال مدينته حلب تذكرها بالخير، وتعرف باسمه.
ومما امتاز به أيضاً حبه للعلم والأدب؛ فساهم في تأسيس الدراسات الإسلامية في حلب بإحيائه المدرسة الخسروية، وجمع مكتبة قيمة أوقفها في حياته على كل من المدرسة الخسروية ودار كتب الأوقاف الإسلامية بحلب، وكان من مؤازري المجمع العلمي العربي بدمشق في طور تأسيسه. وله الفضل في إقامة كل من جمعية العاديات ودار كتب الأوقاف الإسلامية.
كان الملاّح فضلاً عن مكانته البارزة بين أعلام حركة الإصلاح الاجتماعية والوطنية في بلده حجة في القانون. وكان من القلائل من رجالات سورية الذين شاركوا في التجربة البرلمانية الجديدة سواء خلال العهد الدستوري العثماني (1908-1918) أو خلال عهد الاستقلال العربي الأول (1918-1920)؛ فقد انتخبته مدينته حلب نائباً عنها في مجلس المبعوثان المنعقد في اسطنبول في عام 1908، حيث كان مقرراً للدستور العثماني. ثم كان من القيادات السورية التي اطلعت بدور أساسي في بناء دولة الاستقلال الأولى، وذلك من خلال توليه الرئاسة الثانية للمؤتمر السوري العام بدمشق، والذي كان بمثابة أول مجلس نيابي تشريعي عرفته البلاد.
أبصر محمد مرعي بن الحاج صالح آغا المـلاّح النور في مدينة حلب عام 1856، لأب محسن كان من خيرة أعيان حلب وكبار تجارها، وأم كرجية الأصل نشأت في قصر السلطان عبد المجيد الأول.
وتنتمي أسرته إلى عشيرة البوخميس المتفرعة عن عشيرة الدليم، إحدى عشائر العراق المعروفة بكثرتها ومكانتها، من ذرية الصحابي عمرو بن معدي كرب الزبيدي. ولهم شرف نسبة الأسباط إلى عشيرة النعيم، من الرفاعية، من السادة الحسينية. وتمتد فروعهم في كل من حلب ودمشق وطرابلس الشام وحيفا وغزة وعمان وبغداد والقاهرة، وأبناء عمومتهم في حمص آل الملّوحي.
قدم أسلافه الديار الحلبية من العراق في مطالع القرن الثاني عشر الهجري واستوطنوا منطقة الجبول؛ فغدت ملاحة حلب التي بجوارها في حوزتهم. وبلغ من سطوتهم، إزاء ضعف الدولة العثمانية في أواخر عهدها، أن احتكروا تجارة الملح المستخرج منها، وكان مصدر دخل كبير للدولة آنذاك؛ فلقبوا لذلك ببني الملاّح. وفي مسعى من العثمانيين لاسترضائهم فقد أقروهم فيها وولوهم أمانة مملحة الجبول وفق نظام الـ(مالكانة) الذي يقضي بمنحهم التزام ضرائبها مدى الحياة، وهي وظيفة استأثروا بها حتى عهد متأخر من القرن الثاني عشر الهجري مع منحهم لقب الـ (آغا) .
وأما أول من قدم منهم إلى حلب واستوطنها فهو جده الأعلى أبو بكر آغا أمين الجبول معيناً قائداَ للجيش (كتخدا) في عام 1775 فقام بأعبائه مع احتفاظه بأمانة الجبول، ثم أصبح متسلم حلب في عام 1776، فجمع بينها حتى عام 1780.
بدأ المـلاّح دراسته الأولى في الكتاتيب الإسلامية التي كانت شائعة في زمانه حيث أتم تلاوة القرآن الكريم، ثم تلقى العلوم الشرعية واللغوية على اثنين من كبار علماء عصره، وهما: الشيخ أحمد الترمانيني مفتي الشافعية؛ والشيخ محمد علي الكحيل أمين الفتوى الذي كان حجة في فقه الإمام أبي حنيفة. ثم انتقل إلى المدرسة المنصورية، وهي أول مدرسة أميرية (رسمية) أنشأتها الحكومة العثمانية بحلب في عام 1861، حيث أنهى دراسته (الرشدية) التي تقابل اليوم الثانوية في عام 1870.
كان والده صديق محمد كامل باشا القبرصي متصرف مركز حلب آنذاك والذي أصبح صدراً أعظم (رئيس وزراء) فيما بعد. وعندما غادر كامل باشا حلب إلى اسطنبول اصطحبه معه لمتابعة تحصيله العلمي العالي فيها وله من العمر أربعة عشر عاماً وألحقه بمكتب )غلطة سراي) السلطاني العثماني (جامعة غلطة سراي التركية حالياً)، وهو أول معهد علمي عال تم افتتاحه في الدولة العثمانية في عام 1868 لتدريس العلوم العصرية باللغة الفرنسية لأبناء النخبة العثمانية الحاكمة تمهيداً لارتقائهم أرفع المناصب في الدولة وبلوغهم أعلى المراتب فيها، وتابع دروسه فيه مشمولاً برعاية السلطان عبد العزيز الأول وعطفه إلى أن تخرج منه في عام 1876م. وأتقن إلى جانب العربية التركية والفارسية والفرنسية والإيطالية والأرمنية وألم بالإنكليزية.
بدأ محمد مرعي المـلاّح حياته العملية بمزاولة التجارة مع أخوته في محلهم التجاري الكائن في خان الفرايين بحلب، ولكن هذه المرحلة من حياته كانت وجيزة إذ أنه ما لبث أن استجاب لما كان يعتلج في نفسه من نزوع إلى الخوض في غمار السياسة والأخذ بنصيب من مراتب الدولة ووظائفها جنباً إلى جنب مع العمل التجاري والزراعي. وكانت الدولة العثمانية في ذلك الحين ما تزال في بداية حركة التحديث والإصلاح الحكومي المعروفة بـ(التنظيمات)، في إشارة إلى ما احتوت عليه من أنظمة وقوانين وتشريعات تقررت بإرادتين سنيتين صدرت أولاهما في عام 1839 واشتهرت بمنشور (كلخانة) لأنها تليت في القصر المعروف بهذا الاسم، وصدرت ثانيهما في عام 1856 وعرفت بمنشور (التنظيمات الخيرية)، والتي بلغت ذروتها في عهد السلطان عبد الحميد الثاني(1876-1909)؛ فانتظم بتوجيه الصدر الأعظم كامل باشا ورعايته في سلك الإدارة المدنية العثمانية وبلغ أعلى مراتبها.
واستناداً إلى مجموعة الكتب السنوية الرسمية لولاية حلب الصادرة في العهد العثماني (سالنامه ولايت حلب) فقد كان على التتابع في المناصب القضائية والإدارية والتربوية والمالية العالية.
تعاطى إلى جانب العمل الوظيفي التجارة والزراعة على نطاق واسع، وكان عضواً مؤسساً في غرفة زراعة حلب في الثمانينيات من القرن التاسع عشر، ثم عضواً في غرفة التجارة والزراعة والصناعة.
رحل إلى اسطنبول مراراً. كما قصد كلاً من لبنان والعراق ومصر وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا في أعماله التجارية.
كانت له حظوة عند السلطان عبد الحميد الثاني، فأنعم عليه في العام 1905 برتبة "روم ايلي بكلربكي" الرفيعة، ومنحه أعلى الأوسمة. وقد بلغ من ثقة السلطان به أن انتدبه للعديد من المهمات، وأوكل إليه التفتيش في عدد من مفاسد الدولة العثمانية، ومنها تحقيقه في تجاوزات أمير اللواء إبراهيم باشا الملّي القائد الأعلى للكتائب الحميدية.
انتخب نائباً عن ولاية حلب في مجلس المبعوثان العثماني (1908). وكان أحد النواب العرب القلائل الذين حضروا جلسته الأولى المنعقدة في 17 كانون الأول من عام 1908، والتي تم انتخابه فيها عضواً في الهيئة الإدارية للمجلس (إدارة مأموري). وعلى أثر قيام الثورة المضادة بين السابع والثالث عشر من نيسان 1909 والمعروفة في الحوليات العثمانية بـ(حادثة 31 آذار 1909) أو (الحركة الارتجاعية) في إشارة إلى محاولة القائمين عليها إعادة الحكم الفعلي إلى السلطان عبد الحميد، شارك الملاّح في تأسيس "جمعية الاتحاد العثماني"، التي كان هدفها التمسك بالدستور والدفاع عنه. وفي صيف العام 1909 استقال من النيابة لمعارضته تدخل الاتحاديين بشؤون الدولة على نحو مناف للدستور.
كانت الفترة التي مثل فيها مرعي باشا المـلاّح ولاية حلب في مجلس المبعوثان والممتدة بين كانون الأول من عام 1908 وآب من عام 1909 الفترة الذهبية في عمر التجربة الدستورية (الديمقراطية) العثمانية الثانية. ذلك أن المجلس – وكان في حالة انعقاد دائم- قد عمل خلالها جاهداً على سن القوانين والتشريعات التي تمنح الحريات لرعايا الدولة وأخرى لتطهير الإدارة وتحديثها، كما أجرى النواب بعض التعديلات على دستور 1876، يشرف على ذلك الهيئة الإدارية المقررة للتعديلات الدستورية تلك في المجلس والتي كان الملاّح أحد أعضائها، وكان الهدف منها إرساء قواعد حياة برلمانية عصرية، وجعل الدولة العثمانية دولة حديثة، تسير على غرار الممالك الأوروبية الراقية. وقد صادق السلطان محمد الخامس على تلك التعديلات في 28 آب من عام 1909.
ولي إدارة أوقاف ولاية حلب في عام 1909، فبقي فيها مدة سنتين، ثم استقال بعدما سيطر الاتحاديون على نظارة الأوقاف. وفي غضون ذلك عين في العام 1911 عضواً في اللجنة التي عهد إليها بالتحقيق في الحفريات التي أجرتها بعثة أثرية بريطانية تحت قبة الصخرة في الحرم القدسي الشريف وما تردد عن قيامها بسرقة آثار تعود إلى عهد الملك سليمان، وقد أثبتت التحقيقات عدم وقوع السرقة لانتفاء وجود تلك الآثار أصلاً.
انتخب عضواً في المجلس العمومي لولاية حلب (1913-1914)، ثم ترأس إبان الحرب العالمية الأولى فرع جمعية الغوث (المدافعة الملّية) بحلب. وكان رئيساً لمجلس العشرة الذي تولى الحكم في حلب (والٍ بالوكالة) قبيل جلاء (الترك) الاتحاديين عن البلاد.
وفي العهد الفيصلي (1918-1920) عين المـلاّح رئيساً للحكومة المؤقتة التي تشكلت في حلب على أثر دخول الجيش العربي، ثم عضواً في مجلس الشورى، فمتصرفاً لدير الزور (1918-1919). وقد حرر تلك المدينة من حكم الاتحاديين، وألحقها بالحكومة العربية بدمشق، ونظم الإدارة فيها. ولما دخل الإنكليز رفض تسليمهم إدارة المنطقة وإنزال العلم العربي. ولّما تشبث بموقفه، حصل الإنكليز على وثيقة رسمية من الحاكم العسكري العربي بحلب تؤكد إقرار الحكومة العربية بخضوعها للحكم البريطاني. فما كان منه إلا أن استقال من منصبه احتجاجاً.
وفي شباط من العام 1919 اعتقلته السلطات البريطانية في مقدمة من اعتقلتهم من زعماء حلب بتهمة التحريض على (فتنة الأرمن) التي دبرتها أجهزة الاستخبارات الأجنبية، وذلك بهدف إظهار أن السوريين غير قادرين على حكم أنفسهم، ولتوجيه ضربة إلى الزعامات المحلية المعارضة لأية سيطرة أجنبية. لكنهم لم يستطيعوا أن يثبتوا ضلوعهم فيها، فبرئت ساحتهم. وهاجت حلب تطالب بالإفراج عنهم؛ فلم تطمئن النفوس وتهدأ الخواطر حتى أطلق سراحهم بعد نحو شهر بمسعى من الأمير فيصل الذي كان ما يزال يرأس الوفد العربي إلى مؤتمر الصلح في باريس.
انتخب رئيساً ثانياً للمؤتمر السوري العام بدمشق (1919-1920). وقد اشترك في صياغة قرار الاستقلال، ومبايعة فيصل الأول ملكاً، ووضع أول دستور للبلاد.
في عهد الانتداب الفرنسي أسند إليه منصب مدير الداخلية العام (وزير) في دولة حلب في العام1920، لكنه ما لبث أن استقال في العام التالي بدافع من اعتزازه بنفسه.
أخيراً، شغل منصب حاكم دولة حلب العام سنة 1924. وقد حاول الفرنسيون استمالته إلى جانبهم، لكنه لم ينفعهم إذ فرض عليهم أن يلتزموا في تعاملهم مع البلاد بقوانين الانتداب التي وضعتها عصبة الأمم، لا أن يتصرفوا تصرف القوة المحتلة. وكان له موقف حازم في رفضه تنفيذ قرار المفوض السامي الجنرال فيغان لعام 1924م بمصادرة خان قورت بك، وهو من أوقاف المدرسة الخسروية بحلب، وتحويله إلى ملكية خاصة لمخالفته الأحكام الشرعية.
وفي مطلع العام 1926 استقال الملاّح من حاكمية دولة حلب احتجاجاً على سقوط ثمانية قتلى وعدد من الجرحى بنيران قوات الانتداب في مظاهرات شعبية كان السبب المباشر لها مقاطعة الانتخابات التي دعا إليها المفوض السامي دي جوفنيل، والمطالبة بإطلاق سراح الزعماء الوطنيين الداعين للمقاطعة ومن بينهم نجله عبد القادر ناصح بك الملاح؛ فاعتزل العمل السياسي وانصرف للاهتمام بالأعمال الزراعية، حتى وافاه الأجل المحتوم بحلب في 22 تشرين الثاني عام 1930.
في جميع المناصب التي أسندت إليه حقق الملاّح مشروعات عمرانية وإصلاحات إدارية واجتماعية، لا تزال مدينة حلب تذكرها بالخير، وفي ما يلي عرض لها.
إنشاء برج الساعة في ساحة باب الفرج إحياء لذكرى مرور خمسة وعشرين عاماً على جلوس السلطان عبد الحميد الثاني فوق عرشه. ولقد روعي في تصميم هذا البرج الأسلوب الحديث في البناء، والزخارف التقليدية، وتعلوه لوحة تحتوي على كتابات تخلد هذه المناسبة وتتضمن تاريخ إقامته في عام (1899-1900). ومما هو جدير بالذكر أن بلدية كل من بيروت وطرابلس الشام ويافا حذت حذو بلدية حلب في تشييد أبراج مماثلة للساعة المذكورة، وقد صممت جميعاً على نفس الشكل الذي صمم به برج الساعة في حلب.
ومنها وضع أول مخطط طبوغرافي دقيق لمدينة حلب قام بإنجازه المهندس الفرنسي شارل شارتيه رئيس مهندسي ولاية حلب. كما أنجز المهندس ذاته مخططاً تنظيمياً لتوسيع المدينة نحو الغرب والشمال الغربي حتى متنزه السبيل الذي كان قائماً في ذلك الحين، إضافة إلى تخطيطه كلاً من حي السليمية (المعروفة بالجميلية) والحميدية والإسماعيلية وبستان كل آب ويلفظ للتخفيف (بستان كليب)، وقيامه بتحديد الاستقامات للشوارع الرئيسة كشارع الخندق وامتداده، وشارع باب الفرج فباب جنين فالكلاسة، وتخطيطه ساحة باب الفرج بوضعها الحالي. ولقد أعطى هذا التخطيط الجديد للمدينة خارج السور طابعاً حديثاً.
ومنها تشييد جسر الناعورة، وشق الجادة الكبرى الممتدة من مزار السهروردي في ساحة باب الفرج إلى محطة الشام في محلة (الجميلية) مروراً بجسر الناعورة الآنف الذكر. وهكذا لم يعد نهر قويق يشكل الحد الغربي للمدينة التي بقيت محصورة وراء الضفة الغربية له آلاف السنين، وذلك عندما كان رئيساً لبلدية حلب في عهد الوالي الإصلاحي محمد رائف باشا.
ومنها أيضاً التوسع في إنشاء المدارس الرسمية والأهلية في أنحاء الولاية كافة، حيث بلغ عدد مدارس البنين التي تم إنشاؤها في مدينة حلب وحدها بين عامي (1904-1907) إحدى عشرة مدرسة من أصل أربع وثلاثين مدرسة هو مجموع ما تم إنشاؤه من مدارس بحلب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين بين عامي (1868- 1907)، وبالتالي تضاعف عدد الطلبة الذين كانوا يلتحقون بها، كما ازداد عدد مدارس الإناث في عام 1907، فبلغ عددها ثلاثاً وعشرين مدرسة، وارتفع عدد طالباتها فبلغ في العام نفسه سبعمائة طالبة، حينما كان عضواً في مجلس المعارف في الفترة (1904-1907).
ومنها ترميم جامع الصروي في محلة البياضة أثناء إشغاله منصب مدير أوقاف ولاية حلب بين عامي (1909-1911).
ومن المشاريع العمرانية الكبرى والإصلاحات الإدارية المنفذة في عهده، وذلك إبان توليه حاكمية دولة حلب بين عامي (1924-1926) نذكر: تشييد مستوصف في محلة جب القبة لمعاينة الفقراء مجاناً على قطعة أرض يملكها وقد تبرع بها لإقامة هذا المشروع الإنساني فسمي باسمه (مستوصف مرعي باشا) ويشغله حالياً (مركز مكافحة السل والطبابة الشرعية)؛ وتنظيم مقبرة العبارة وتحويلها إلى حديقة عامة عرفت باسمه أيضاً، وقد عدها مؤرخ حلب الشيخ كامل الغزي في كتابه "نهر الذهب في تاريخ حلب" واحدة من أعظم حدائق سورية في حينه، ومن ثم تبدلت تسميتها وأضحت مقهى ومتنزهاً عرف باسم (المنشية) فمقصفاً ومتنزهاً تابعاً لاتحاد العمال قبل أن تزال مؤخراً لتتحول إلى مرآب طابقي ضخم ومكاتب للاستثمار.
ومنها أيضاً إحداث الدائرة البيطرية، ووضع أول قانون للتجميل العمراني وفق أسس تنظيمية حديثة، وبدء التنوير المنزلي، والشروع بتمديد خطوط الترامواي، وترميم الجامع الأموي الكبير والقلعة وغيرهما من الأوابد التاريخية، وشق طريق حلب ـ أنطاكية وحلب ـ اللاذقية وحلب ـ دمشق، وفتح عدة شوارع رئيسة، وإحداث منطقة السريان ليقيم فيها مهاجرو أورفة، وتشييد مبنى المجلس التمثيلي (المتحف القديم) في باب الفرج، وقيادة الدرك والاقتصاد (قيادة موقع حلب) في الكتّاب، وكلية حلب الأمريكية (معهد حلب العلمي)، والكلية العلمانية (اللاييك)، وتجديد جسر الناعورة وتعريضه، وتنظيم ساحة برية المسلخ وتحويلها إلى حديقة عامة كانت الأوسع بحلب في ذلك الحين وبني بجوارها مدرسة ابتدائية.
كذلك تم بناء المدارس والمستوصفات ودور الحكومة والجسور في الكثير من المدن والأقضية والنواحي، وتحضير العشائر، وتشجيع زراعة القطن، وجر المياه إلى إدلب. كما نفذ مشاريع كثيرة أخرى يطول حصرها.
مما امتاز به مرعي باشا الملاّح حبه للعلم والأدب وانصرافه إلى إحياء علوم الدين والإحسان إلى رجاله وإحياء معاهده؛ فولي النظارة على أوقاف "جامع بانقوسا"، وعمل على إحياء أوقاف محمد خاص بك الذي ينُسب إليه بناء ذلك الجامع، والتي بقيت مهملة زمناً طويلاً كما أوقف الملاّح بعض أراضيه الخاصة للإنفاق على شؤون الجامع المذكور وإقامة الشعائر والدروس الدينية فيه.
وكان له إلى ذلك شغف كبير باقتناء الكتب؛ فجمع في خزانة كتبه عدداً ضخماً من نوادر المخطوطات ونفائس المطبوعات العربية والتركية والفارسية والأوروبية التي حملها من البلدان التي زارها. وقد أورد العلامة الشيخ محمد راغب الطباخ في كتابه "أعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء" أسماء طائفة من آثار العلماء الحلبيين ومخطوطات الشيوخ الأوائل بخطوط مؤلفيها في ميادين الأدب والتاريخ والفقه واللغة والتراجم التي احتوت عليها خزانته.
كان الملاّح من الرعيل الأول الذي اضطلع بدور أساسي في النهضة العلمية التي شهدتها البلاد في العصر الحديث؛ فكان له في هذا المجال مآثر تذكر وتشكر ومنها إسهامه مع علامة الشهباء في عصره الشيخ محمد الزرقا في تأسيس الدراسات الإسلامية في حلب بإحياء المدرسة الخسروية.
واتخذت فيها خزانة كتب كبيرة كانت نواتها الخزانة المحفوظة في الجامع الأموي، وما تبرع به محبو العلم من كتب نفيسة كان الملاّح في طليعتهم حيث أهداها في حينه مئة وعشرين مخطوطاً نفيساً، فغدت في مقدمة المكتبات العامة بحلب وذلك في عام 1922، وقد أشاد بصنيعه هذا كل من الغزي في "نهر الذهب" والطباخ في "أعلام النبلاء" والدكتور محمد أسعد طلس في بحثه القيم "المخطوطات وخزائنها في حلب".
وقد شهدت حلب إبان سنوات حكمه (1924 ـ 1926) نشاطاً علمياً وثقافياً كبيراً تجلى بتأسيس كل من دار الكتب الوطنية، وهي المكتبة ذاتها التي تطورت بعد ذلك وظلت تنمو على مر الأيام حتى غدت المكتبة الوطنية الفخمة الشهيرة، وافتتاح فرع للمجمع العلمي العربي الذي يتخذ دمشق مقراً له.
كان الملاّح متفتح الذهن مستقبلي الرؤيا وعرف بأن حلب تنام على تاريخ عظيم وفي رحمها حضارات لأمم وشعوب تعطي للشهباء قيمة ومكانة مرموقة في تاريخ البشرية والحضارة فقرر إنشاء جمعية للحفاظ على آثارها فكانت "جمعية العاديات" ومهمتها حماية تراث حلب وكان اسمها الذي انطلقت به "جمعية أصدقاء قلعة حلب". وقد اختار لرئاستها مؤرخ حلب الغزي؛ فكانت "العاديات" أول جمعية أهلية تعنى بالآثار على مساحة الوطن العربي وهي من مفاخر الشهباء حالياً إذ امتدت فروعها لكل محافظات الوطن للحفاظ على تراثه وآثاره .
ومن حلب إلى درة الفرات دير الزور التابعة لدولة حلب آنذاك فأنشأ أول مدرسة تجهيزية للطلاب وما زالت لليوم تحمل اسم ثانوية الفرات.
بعد استقالته من حاكمية دولة حلب قرر الملاّح الابتعاد نهائياً عن معترك الحياة السياسية مؤثراً الانقطاع إلى خدمة أمته وبلده في المجالات الثقافية والاجتماعية، وفي هذا الصدد فإنه بعدما أسهم في إحياء المدرسة الخسروية وقد سبقت الإشارة إليها ارتأى وسواه من أهل الحل والعقد في المدينة إقامة دار كتب تضم المخطوطات والمطبوعات المبثوثة في المعاهد الإسلامية عرفت بـ"دار كتب الأوقاف الإسلامية" وذلك في عام 1926، ولقد أوقف عليها خزانة كتبه الخاصة التي كانت أشهر مكتبة خاصة في حلب لتكون تحت تصرف أهل الفضل والباحثين، وقد نوه به البحاثة التركي البروفيسور فؤاد سزكين في موسوعته "تاريخ التراث العربي: مجموعات المخطوطات العربية في العالم" وتعد المخطوطات التي أوقفها من أهم المجموعات التي تحتوي عليها دار المكتبات الوقفية الإسلامية في حلب، والتي تم نقلها إلى مكتبة الأسد الوطنية بدمشق مؤخراً، وهكذا حرم أهالي حلب من الاطلاع عليها بشكل مباشر.
لم يقتصر نشاط مرعي باشا الملاّح الثقافي ودعمه للمعاهد والمؤسسات العلمية على حلب وحدها بل وتعداها إلى دمشق أيضاً حيث كان من أبرز مؤازري المجمع العلمي العربي في طور تأسيسه، ومما أهداه إلى "دار الكتب الوطنية الظاهرية" التابعة للمجمع نسخة مخطوطة نادرة من " كتاب الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجني عن أبي العلاء المعري" لابن النديم، ومما هو جدير بالذكر أن هذه النسخة التي أهداها الملاّح إلى المجمع كانت قد استعارتها لجنة إحياء آثار أبي العلاء في مصر ونشرتها ضمن كتاب "تعريف القدماء بأبي العلاء" باعتناء عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين وذلك في عام 1944، وإشادة بفضله وتقديراً لدعمه هذه المؤسسة العلمية فقد تم إدراج اسمه في "جريدة المتبرعين والمحسنين للمجمع العلمي" التي كانت تتصدر أعداد مجلة المجمع في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي.
عرف الملاّح في جميع المناصب التي تولاها بالأمانة والنزاهة والجرأة والاستقامة. وكان كثير السعي بالخير لمن يقصده. كما ساهم في الجمعيات والهيئات الاجتماعية والأدبية والإنسانية. وقد أثنى عليه الغزي في "النهر" ووصفه بأنه "أحد وجهاء حلب وعين أعيانها المحترمين". وامتدحه الشعراء في قصائد منها ما قاله الأديب الحلبي الشيخ إبراهيم الكيالي مؤرخاً نيله الرتبة الأولى (1898):
بلغت ذرى العليا مرعي بالجد *** وأحرزت غايات المراتب بالجد
ومذ لاح في مرقاتك السعد أرّخوا *** برتبتك الأولى ازدهى مطلع الجد
ومن ذلك أيضاً ما قاله بشير بن فتح الله الكاتب والصحافي المصري صاحب جريدة العروة الوثقى القاهرية من قصيدة طويلة يهنئه فيها برتبة روم ايلي بكلربكي:
فضله قد ذاع ما بين الملا *** عم أهل البدو عم الحضرا
فهو للمعروف أعلى مرتجى *** وهو بين الناس يرجى للقرى
يوهب الأموال لا يرجو ثنا *** في سبيل الله يعطي الفقرا
وبه الآداب عزت وازدهت *** وبه غرس المعالي أزهرا
وقد بلغ من صيته عند أهالي حلب أن محلة خان السبيل عرفت، ومازالت تعرف حتى الآن، بـ (حارة الباشا) نسبة إليه، وهي مقامه. وقد ثبتت هذه التسمية رسمياً فيما بعد، حين أطلقت البلدية على أحد شوارع تلك المحلة اسمه الصريح (شارع مرعي باشا الملاّح). ويشغل قصره بمحلة السليمية (الجميلية) ثانوية معاوية للإناث.