أحمد لطفي السيد
أستاذ الجيل وأبو الليبرالية المصرية
أحمد لطفي السيد |
حسين علي محمد حسنين كاتب وباحث/ عضو إتحاد كتاب مصر |
قبل نهاية القرن التاسع عشر كان يتنازع مصر تياران فكريان أحدهما يرى ضرورة ارتباط مصر بدولة الخلافة العثمانية، وقد عمل هذا التيار على ربط مصير مصر بالدولة العثمانية، وكان يرى ضرورة التمسك بهذا الرباط حتى لو كان واهنا، ومن دعاة هذا التيار مصطفى كامل، وعبد العزيز جاويش وعلي يوسف والشاعر أحمد شوقي. أما التيار الآخر فكان ينادي بفكّ ارتباط مصر بدولة الخلافة العثمانية، وتعميق الشعور الوطني والإعتزاز بالجنسية المصرية وبأن مصر أولا ، وضرورة الإلتفات إلى قضايا البلاد الداخلية دون الإنشغال بهموم الآخرين، والدعوة إلى مبدأ "مصر للمصريين"، وكان أحمد لطفي السيد ومن ورائه حزب الأمة أبزر الدعاة إلى هذا الاتجاه.
ولد أحمد لطفي السيد في4 من ذي القعدة 1288ه الموافق 15 من يناير 1872م فى قرية "برقين " إحدى قرى السنبلاوين التابعة لمحافظة الدقهلية بمصر، ونشأ في أسرة على جانب من الثراء؛ فأبوه "السيد باشا أبو علي" كان عمدة للقرية ومن أعيانها ، وكان ذلك فى عهد الخديوى إسماعيل . ويُعد أحمد لطفى السيد واحداً من أفصح المتحدثين وانبغ المفكرين الذين وجدوا في النصف الأول من القرن العشرين، ساهم في تقديم نموذجاً من الصحافة الحديثة في مصر ولعب دوراً سياسياً فعالاً في أحرج فترات التاريخ الحديث لمصر. ولمزيد من التفاصيل:
تعلم الفتى أحمد بكُتاب القرية مبادئ القراءة والكتابة، ولما أتم حفظ القرآن قرر والده أن يرسله للدراسة بالأزهر لكن صديقه إبراهيم باشا أدهم أشار عليه أن يرسل الفتى إلى مدرسة المنصورة الإبتدائية الحكومية وكانت المدرسة الوحيدة فى الدقهلية كلها فى ذلك الوقت. والتحق الفتى بمدرسة المنصورة الابتدائية عام 1882م بالقسم الداخلى ، وكانت روح الجندية هى السائدة على نظام المدارس الحكومية فى ذلك الحين ، فكان التلاميذ يخرجون كل يوم جمعة فى شكل طوابير ويطوفون شوارع المدينة بزيهم الجميل ثم يعودون إلى عنابرهم. وكانت عيشة المدرسة خشنة فى كل شىء ، فكان الجبن والحلاوة وجبة الأفطار والعدس والفول هو وجبة الغذاء والعشاء مع اللحم والفاكهة. وبعد ثلاث سنوات من الدراسة انتقل إلى القاهرة، والتحق بالمدرسة الخديوية الثانوية فى عام 1885 ، وفى الخديوية إلتقى بصديقه الحميم عبد العزيز فهمى . كانت مدرسة الخديوية فى سراى مصطفى باشا بدرب الجماميز بالقاهرة ، وكان فى نفس السراى مدرسة الترجمة والمهندسخانة ووزارة المعارف. وكان طلبة المهندسخانة يختلفون عن طلبة الترجمة والخديوية بزيهم العسكرى الكامل ويحملون إلى جانبهم سيوفا ومن ثم كانوا يشيعون الرهبة فى الآخرين. وظل لطفى السيد بالخديوية حتى أتم دراسته الثانوية فى عام سنة 1889م، وفى هذا الصدد يقول أحمد لطفى السيد: كنت فى التعليم الثانوى متوسطا ، فلم أكن من المتقدمين ولا من المتأخرين ، على أنى كنت متفوقا فى العلوم العربية والرياضيات حتى لفت ذلك صابر باشا صبرى ، وأحمد كمال بك فى اللجنة الشفوية لإمتحان البكالوريا، فنصحانى أن أدخل المهندسخانة . لكن بعد حصوله على البكالوريا التحق بمدرسة الحقوق، وكانت وقتذاك تجمع بين دراسة الحقوق والآداب ، وفى هذا الخصوص يقول لطفى السيد: كان الطلبة يدرسون بجانب العلوم القانونية علوما أدبية كآداب اللغة العربية وقواعد النحو والصرف والبيان والمعانى والبديع والعروض والقوافى وتفسير القرآن الكريم وآداب البحث والمناظرة والمنطق ، وكانت مدة الدراسة بها خمس سنوات ، وكان وكيلها عمر لطفى بك ويدرس فى نفس الوقت قانون العقوبات، ومن أساتذتها الشيخ حسونة النواوى الذى تولى بعد ذلك مشيخة الأزهر ، وحفنى ناصف بك وسلطان بك محمد ، بالإضافة إلى الشيخ محمد عبده والسيخ حسن الطويل. وفى عام 1894 تخرج لطفى السيد من كلية الحقوق . وفى عام 1897 حصل على درجة الدكتوراه.
علاقته بالشيخ محمد عبده: تعرف أحمد لطفى السيد أثناء دراسته بمدرسة الحقوق على الشيخ محمد عبده ، وهنا يقول لطفى السيد: فى لجنة إمتحان العلوم العربية بالسنة الثالثة عام 1893 طلب منا أن نكتب فى موضوع"حق الحكومة فى معاقبة الجانى" ، فتناولت الموضوع من جميع نواحيه ، فكتبت المذاهب الأربعة التى أنشأها علماء الجنايات فى شروحهم على قانون العقوبات، ثم نفضت كل مذهب منها ، وخلصت فى النهاية إلى أن الحكومة ليس لها حق معاقبة الجانى، لأن كل حكومة نشأت بالقوة ، والقوة لا تعطى الحق وإنما الذى يعطيه هو العقد فقط، وليس هناك أى عقد بين أية حكومة وبين أمتها. لكن زميلى فى الدراسة محمود عبد الغفار قال لى أن ما كتبته خطأ. ويضيف لطفى السيد فى مذكراته: لكن حينما دخلت الإمتحان الشفهى وجلست أمام اللجنة قال لى الشيخ محمد عبده: إنى أهنئك بما كتبت وقد أعطيناك أعلى درجة ، لا على ثورتك على الحكومات ، ولكن على الإنشاء. وكانت تلك العبارة هى بداية صداقة جديدة بين أحمد لطفى السيد والسيخ محمد عبده، وعلى أثر ذلك بدأ لطفى السيد فى إنشاء مجلة التشريع بالإشتراك مع إسماعيل صدقى باشا وإسماعيل الحكيم بك وعبد الهادى الجندى بك وعبد الخالق ثروت باشا ومحمود عبد الغفار.
تأثره بجمال الدين الأفغانى: فى نهاية القرن التاسع عشر كان جمال الدين الأفغانى ذائع الصيت فى الشرق الإسلامى كمصلح دينى وفيلسوف جليل وسياسى كبير. كان أبيض اللون، ربعى القوام وممتلىء البنية ، أسود العينين ومسترسل الشعر ، جذاب المنظر ، يلبس عمامة وجبة وسراويل على زى علماء الأستانة ، وكان طيب الحديث ، لطيف المعشر، حلو الفكاهة. وقد نزل مصر فى عام 1871 وأقام بها حتى أواخر عام 1879 ، وعلى يديه نبغت طائفة من العلماء وكبار الكتاب فى مصر ، ثم رحل إلى الهند وإيران والعراق وأوربا، وفى آواخر حياته أقام فى تركيا بالأستانة حيث نزل ضيفا على السلطان عبد الحميد فى منزل يدعى " المسافر خانة " وقد قوبل من العلماء ورجال السياسة الأتراك بالحفاوة والإكرام وكان يخرج كل عصر يوم للرياضة والنزهة فى أطراف المدينة على عربة سلطانية خاصة. ولما سافر أحمد لطفى السيد إلى إستانبول بتركيا فى العطلة الصيفية عام 1893 وكان معه زميله إسماعيل صدقى (الذى أصبح فيما بعد رئيسا للحكومة) وكان ذلك خلال دراسته بمدرسة الحقوق ، وإلتقى بالمصريين بأحد مقاهى الاستانة وكان فيهم سعد زغلول (كان وقتئذ قاضيا بالإستئناف) والشيخ على يوسف وحفنى بك ناصف ، وقد وجدهم جميعا يتأهبون لزيارة جمال الدين الأفغانى فصحبهم إلى منزله . وهناك طلب أحمد لطفى السيد أن يتتلمذ على يده ، فوافق الأفغانى. وهنا يقول لطفى السيد: لقد أخذ الأفغانى على عهدا بأن ألازمه طول إقامتى بالأستانة، وقد فعلت.. وأهم ما أظن أنى إنتفعت به من السيد جمال الدين فى تلك المدة أنه وسع فى نفسى آفاق التفكير، وكان ميالا للسياسة يتحدث عنها كثيرا وكأنه يريد أن يقيم فى الشرق دولة تضارع إنجلترا فى الغرب . وكان شديد النقمة على الإنجليز لسياستهم فى البلاد الإسلامية وما فعلوه معه فى الهند حتى أخرجوه منها ، وما فعلوه معه أيضا فى مصر حتى خرج منها فى عهد الخديوى توفيق بعد أن تمتع فى عهد الخديوى إسماعيل بكرم الضيافة المصرية. وكان يقدر تلميذه الشيخ محمد عبده كل التقدير والإحترام .. وكان يعيب على المصريين تخاذلهم وتفرقهم ونزاعهم وسط ما يلم بهم من حوادث جسام ، وكا يردد قوله الشهير" إتفق المصريون على ألا يتفقوا " .
وفيما يتعلق بالعمل: فيذكر أنه بعد حصوله على ليسانس الحقوق عام 1894م عمل بالنيابة فى صيف نفس العام بعد تخرجه بمرتب خمسة جنيهات فى الشهر، وعمل بالقاهرة أولا ثم الأسكندرية، وإنتدب بعد ذلك معاونا للنيابة فى بنى سويف ، وفى عام 1896 عين وكيلا للنيابة بمرتب عشرة جنيهات . وفى عام 1897 سافر إلى سويسرا فى مهمة رسمية بتوكيل من الخديوى عباس حلمى الثانى ومكث فى جنيف نحو عام ، ولما عاد إلى مصر ذهب إلى الفيوم للعمل مدة عام ثم إنتقل إلى ميت غمر بعد أن ترقى وكيلا للنيابة فى عام 1900 . ثم إنتقل ثانية إلى الفيوم ، وبعدها إلى المنيا وتدرج في مناصب القضاء حتى عُين نائبًا للأحكام بالفيوم سنة 1904م . وفى عام 1905 إستقال أحمد لطفى السيد من عمله لخلاف فى الرأى القانونى بينه وبين النائب العمومى الإنجليزى كوربت بك، ويذكر أنها لم تكن الإستقالة الأولى من النيابة، وفى هذا الصدد يقول لطفى السيد: كان جو العمل فى النيابة خانقا ، إذ كنا مكلفين بألا نتصرف فى الجنايات الكبرى إلا بعد أخذ رأى النائب العمومى وكان ذلك يسبب لنا الضيق الشديد، لذلك قررت أن أترك العمل لأعيش فى قريتى، لكن صديقى عبد العزيز فهمى وكان قد إستقال من الأوقاف قد إشتغل بالمحاماة وألح على فى العمل معه ووافقت ولكن لفترة بسيطة ثم إعتزلت المحاماة للعمل بالسياسية والتحرير فى صحيفة الجريدة .
إعادة تأسيس الحزب الوطنى:
فى عام 1896 إلتقى أحمد لطفى السيد مع صديقه القديم عبد العزيز فهمي وهو أحد أصدقائه القدامى بمدرسة الثانوية الخديوية بالقاهرة ، وكان يعمل وقتئذ وكيلا للنيابة أيضا فى مدينة بنى سويف، وبحث الرجلان تأسيس جمعية سرية عرفت بإسم " تحرير مصر" ؛ إنضم إليها كل من عبد العزيز فهمى، وأحمد طلعت باشا ، وحامد رضوان، ومحمد بدر الدين ، والدكتور عبد الحليم حلمى، وكذلك على بهجت بك ، ومحمد عبد اللطيف الذى كان يعمل صيدليا بطنطا. بعد تأسيس الجمعية السرية بعدة أسابيع إلتقى مصطفى كامل (وكان زميلا لأحمد لطفي بمدرسة الحقوق) بأحمد لطفى السيد وإخبره أن الخديوى عباس حلمى الثانى يعلم بجمعيتكم السرية ، وأن الخديوى لا يمانع فى إنضمامكم إلى الحزب الوطنى، ثم رتب مصطفى كامل بعقد لقاء بين أحمد لطفى السيد والخديوى حضره لطفى السيد فى السراي وكان معهما مصطفى كامل. وحول ذلك اللقاء يقول لطفى السيد: طلب منى سموه أن أسافر إلى سويسرا لكى أكتسب الجنسية السويسرية ، ثم أعود إلى مصر لأنشىء جريدة تقاوم الإحتلال البريطانى ، والسبب فى إختيار سويسرا دون غيرها أن التجنس بجنسيتها قريب المنال لا يكلف الراغب فيه إلا الإقامة سنة واحدة بها. وبعد لقائه بالخديوى ذهب لطفى السيد ومعه مضطفى كامل إلى منزل محمد فريد الذى كان به عددا من الشخصيات الوطنية وإتفق الجميع على تشكيل مجلس الحزب الوطنى برئاسة الخديوى وأعضائه من مصطفى كامل، ومحمد فريد ، وسعيد الشيمى ياور الخديوى ، ومحمد عثمان"والد أمين عثمان باشا" ، ولبيب محرم"شقيق عثمان محرم باشا" ، وأحمد لطفى السيد. وفى هذا الخصوص يقول لطفى السيد: كان إسم الخديوى الحركى فى الحزب هو "الشيخ" ، وإسم مصطفى كامل"أبو الفدا"، أما أنا فكان إسمى الحركى"أبو مسلم" .
وفي جنيف التحق أحمد لطفي السيد بجامعتها، وعكف على دراسة الآداب والفلسفة خلال عام 1897 ، ويذكر أنه خلال صيف ذلك العام قام كل من الشيخ محمد عبده وسعد باشا زغلول وقاسم أمين بزيارة لطفى السيد فى جنيف وكان الهدف من الزيارة الآتى: بحث تطورات الحركة الصهيونية فى مصر التى بدأت فى منتصف عام 1897 ومعرفة دور جوزيف ماركو باروخ الذى حضر إلى مصر بدعم ومساندة المعتمد البريطانى فى مصر وتسهيل مساعيه فى تأسيس أول جمعية صهيونية من اليهود الأشكناز الذين قدموا إلى مصر من بعض البلدان الأوربية بدعم من فرنسا وبريطانيا ، ويذكر أنه أطلق على هذه الجمعية إسم" باركوخيا الصهيونية". وعلى الرغم من تباحثهم حول الأوضاع فى مصر إلا أن أحمد لطفى السيد لم يخبرهم بأسباب وجوده الحقيقية بسويسرا، وكان قاسم أمين مشغولا فى ذلك الوقت بتأليف كتابه الشهير "تحرير المرأة" وقرأ عليهم بعض فصوله، وبعد عدة أيام سافر سعد زغلول وقاسم أمين وبقى الشيخ محمد عبده مع أحمد لطفى السيد ليدرس معه الآداب والفلسفة فى سويسرا. وبعد عام عاد أحمد لطفي السيد إلى القاهرة دون أن ينجح في الحصول على الجنسية، لرفض الباب العالي العثماني تجنسه بها، وفي الوقت نفسه قدم لطفى السيد تقريرًا إلى الخديوي عباس حلمى الثانى جاء فيه: "إن مصر لا يمكن أن تستقل إلا بجهود أبنائها ، وأن المصلحة الوطنية تقتضى أن يرأس الخديوى حركة شاملة للتعليم العام، وذلك بعد أن أكد لى المسيو نافل " الأثرى المعروف الذى كان مشهورا بعلاقاته برجال السياسة فى سويسرا وخارجها" ان أوربا لن تساعد مصر على حساب بريطانيا ، وأنه يجب على المصريين أن يحرروا مصر بأنفسهم .
وعاد أحمد لطفي السيد إلى وظيفته في النيابة، وظل بها حتى ترك العمل بالقضاء عام 1905م، واشتغل بالمحاماة، لكنه ضاق بها؛ فتركها إلى العمل بالصحافة والسياسة.
إتفاق عام 1904 بين إنجلترا وفرنسا ضد مصر، وزيارة تيودور هرتزل للقاهرة فى نفس العام:
فى أبريل عام 1904 تبدد أمل المصريون فى فرنسا التى كانوا يعقدون أمالهم عليها فى مساندتهم على زوال الإحتلال البريطانى ، وذلك عندما علم المصريون أن فرنسا عقدت إتفاقا وديا مع بريطانيا فى أبريل 1904 تعترف فرنسا بالإحتلال البريطانى لمصر مقابل السماح لفرنسا بالسيطرة على مراكش وسائر مناطق المغرب العربى. ويذكر أن فرنسا كانت تخشى التدخل البريطانى والأسباني فى مناطق المغرب العربى. وقد دفع إتفاق أبريل 1904 النخب المصرية إلى إعادة النظر فى العلاقات المصرية الفرنسية . وفى هذا الصدد دعا أحمد لطفى السيد إلى إجتماع عاجل للنخب السياسية المصرية فى فندق الكونتننتال بالعتبة الخضراء بوسط القاهرة حضره لفيف من الوطنيين على رأسهم محمد محمود باشا ، وعمر سلطان، وأحمد حجازى ، ومحمود عبد الغفار وآخرين، وطالبوا جميعا بمقاومة الإحتلال البريطانى دون الإعتماد على دول خارجية، وأن تكون المقاومة مصرية خالصة. كما بحث هؤلاء الأسباب الخفية وراء زيارة تيودور هرتزل للقاهرة بدعوة من المعتمد البريطانى اللورد كرومر فى نفس العام(1904) ، وقد تطرقت مناقشة الوطنيين المصريين إلى نشاط جمعية "باركوخيا" فى دعوتها للحركة الصهيونية وتأسيس فروع لها بكل من مدن الإسكندرية وبورسعيد وطنطا والمنصورة.
إنشاء صحيفة "الجريدة:
بعد إنعقاد مؤتمر الكونتننتال للنخب المصرية المقاومة للإحتلال، إلتقى أحمد لطفى السيد مع صديقه محمد محمود باشا الذى كان يعمل سكرتيرا لمستشار وزير الداخلية ، ودار حديث الرجلان حول مسألة الحدود المصرية وتحديدا قضية " العقبة " . يذكر أنه فى ذلك الوقت تفاقمت مشكلة العقبة بين مصر من جهة وتركيا من جهة أخرى، وكان الأتراك يدعون أن العقبة ملكا لهم ، بينما مصر وبريطانيا تؤكدان أنها ملكا لمصر فقط . لكن المثير هنا أن الصحافة المصرية كانت تنصر الأتراك وتدعى أنها ملكا لتركيا وذلك نكاية فى الإنجليز .(وهو نفس ما حدث مع مسألة " فاشودة وهى جزيرة مصرية تقع بالقرب من اليونان " وكانت مصر تطالب بعودة السيادة المصرية عليها، لكن فرنسا التى كانت تحتل الجزيرة رفضت ذلك بشدة ، فى الوقت نفسه كانت بريطانيا تطالب بعودة فاشودة لمصر، بينما الصحف المصرية كانت تقف بجانب فرنسا نكاية فى بريطانيا).
وإتفق الرجلان احمد لطفى السيد ومحمد محمود باشا على ضرورة تصعيد قضية الحدود على المستوى الوطنى والدولى . وتبين لهما أن ذلك التصعيد الوطنى لن يتم إلا من خلال وسائل الإعلام ، وتوصل الرجلان إلى ضرورة إنشاء جريدة مصرية حرة تنطق بلسان مصر وحدها دون أن يكون لها ميل خاص إلى تركيا أو إلى إحدى السلطتين الشرعية والتنفيذية فى البلاد ، وإتفق الرجلان أن تكون الجريدة ملكا لشركة من الأعيان أصحاب المصالح الحقيقية (يذكر فى هذه الفترة أن اللورد كرومر وغيره من الإنجليز أشاعو فى مصر أن الأعيان وأصحاب المصالح من المصريين راضون عن الإحتلال البريطانى لمصر وأن المعارضين للإحتلال هم من الشباب والأفندية والباشاوات الأتراك والشباب المصرى من العاطلين الذين لا عمل لهم ، وقد وجدت هذه الإشاعة قبولا كبيرا) . وفى شهر سبتمبر عام 1906 عقد محمود باشا سليمان إجتماعا فى منزله حضره أحمد لطفى السيد وعدد من الأعيان وتم تأسيس شركة مساهمة لإنشاء صحيفة "الجريدة" ، وإنتخب لطفى السيد مديرا لها ورئيسا لتحريرها لمدة عشر سنوات ، وكان رئيس الشركة محمود باشا سليمان ، ووكيلها حسن باشا عبد الرازق الكبير. لكن الصحف المصرية خاصة التى لها علاقة بالخديوى هاجمت الشركة والمساهمين فيها وقالت أنهم على صلة بالإنجليز . وفى هذا الصدد يقول أحمد لطفى السيد: فى الحقيقة أنه كان بين شركائنا فى الجريدة بإستثناء الأعيان عدد من كبار الموظفين المصريين فى الحكومة ومن هؤلاء أحمد فتحى زغلول باشا رئيس محكمة مصر، وأحمد عفيفى باشا المستشار بالإستئناف ، وعبد الخالق ثروت باشا عضو لجنة المراقبة والذى كان له تأثير كبير فى وزارة العدل. وقد بقيت هذه التهمة عالقة بالجريدة حتى ظهر العدد الأول لها فى 9 مارس عام 1907، وقد إفتتحها أحمد لطفى السيد بمقال تضمن نفى تلك التهمة جاء فيه: ما الجريدة إلا صحيفة مصرية، شعارها الإعتدال الصريح ، والحض على الأخذ بها، وإخلاص النصح للحكومة والأمة بتبيين ما هو خير وأولى، فهى تنقد أعمال الأفراد وأعمال الحكومة بحرية تامة من غير تعرض للموظفين والأفراد فى أشخاصهم وأعمالهم التى لا مساس لها بجسم الكل الذى لا ينقسم وهو الأمة. ويذكر أنه بالإضافة إلى ما كانت تقوم به الجريدة من أعمال صحفية ، كانت تقوم بعقد ندوات ثقافية وتعليمية وعلمية ، بالإضافة إلى عقد محاضرات قانونية وسياسية حول كافة الأحداث التى تمر بها مصر أو حولها . كل ذاك أدى إلى خلق مجموعة مناوئة للنشاط الكبير والنجاح الساحق لصحيفة الجريدة ، وظلت تلك المجموعة تسعى جاهدة لإجهاض الجريدة لكنها لم تفلح. لكن تلك المجموعة المناوئة لصحيفة الجريدة قد نجحت فى أقناع الخديوى عباس حلمى الثانى بضرورة حل صحيفة الجريدة، وفى عام 1910 نجحت تلك المجموعة المناوئة فى إقناع بعض المساهمين بالجريدة بالخروج من الشركة المساهمة حيث تم رفع دعوى قضائية أمام المحكمة المختلطة لحل شركة الجزيدة وتبين أن مصاريف الدعوى دفعت من الخاصة الخديوية . لكن رئيس الوزراء بطرس باشا غالى تدخل وطلب بتأجيل الدعوى إلى أجل غير مسمى ، وكان ذلك قبل حادث إغتيال بطرس باشا غالى بوقت قليل.
حزب الأمة :
بعد أن ترك أحمد لطفي السيد العمل الحكومي اشترك مع جماعة من أعيان مصر في تأسيس حزب الأمة فى 21 ديسمبر عام 1907م، وتضمن الحزب عدة مبادىء جاء على رأسها المطالبة بالإستقلال التام والمطالبة بالدستور أو على الأقل توسيع إختصاص مجلس شورى القوانين ومجالس المديريات تدرجا فى الوصول إلى مجلس نيابى تتمثل فيه سلطات الشعب . وقد أختير محمود سليمان باشا رئيسا للحزب ، وحسن عبد الرازق باشا الكبير ، وعلى شعراوى باشا وكيلين للحزب، أما أحمد لطفى السيد فقد أختير سكرتيرا عاما للحزب. ويذكر فى هذا الخصوص أنه لما أعلن الحزب عن تبنيه لمبدأ الإستقلال التام خرج الشيخ على يوسف صاحب جريدة المؤيد وإعترض على ذلك المبدأ وعلل ذلك بإتهامه لحزب الأمة بأنه يسعى للخروج على الدولة العثمانية صاحبة السيادة الرسمية على مصر فى ذلك الوقت ، لكن رد عليه أحمد لطفى السيد بأن الحزب قال الإستقلال التام وليس الإستقلال الكامل محاولا تفادى الدخول فى صدام مع الشيخ على يوسف . فى الوقت نفسه أخذت بعض الصحف تهاجم حزب الأمة نظرا لتبنيه مبدأ الإستقلال التام وإتهمت الحزب بأنه يسعى إلى الإنفصال عن الباب العالى أى تركيا . ومع ذلك لم يأبه الحزب لذلك الهجوم ، ونظرا لحصوله على كثرة عددية فى مجلس شورى القوانين ، فقد أخذ الحزب يهاجم الحكومة الإستبدادية ويطالبها بتأسيس الدستور ، وبالفعل تقدم محمود باشا سليمان وحسن عبد الرازق باشا إلى الحكومة بمشروع توسيع إختصاص مجالس المديريات ، وبالفعل وافقت الحكومة ولكن بعدد محدود. كان الحزب ينادى أيضا بتوسيع إختصاص الهيئات النيابية رغبة فى الحصول على الدستور الذى تتقرر به سلطة الحكومة الشخصية. أما النقد الذى وجه إلى حزب الأمة فقد كان البعض يرى أن أعضاء الحزب عبارة عن جماعة من أبناء البيوتات الكبيرة وكبار الملاك والإقطاعيين أى أنه حزب رأسمالى يعبر عن مصالح الأقلية الغنية ، وأنه عزز من أواصر تحالفه مع السراى والخديوى على وجه الخصوص وله علاقات مع الإنجليز لحماية مصالح أعضائه، وأن الخديوى عباس حلمى الثانى لم يكن راضيا على تلك العلاقة المزودجة للحزب سواء بالإنجليز أو الجاليات الأوربية ذات النفوذ الواسع فى مصر، خاصة وأن بعض أعضاء الحزب طالبوا بتملك الجاليات الأجنبية للأراضى المصرية والبنوك والتجارة وغيرها ، لكن لطفى السيد نفى ذلك تماما .
وفى أبريل 1907 إعتزل اللورد كرومر منصبه وعين بدلا منه سير الدون جورست معتمدا بريطانيا فى مصر وقد عرفت سياسته بالوفاق ، لكن فى نفس الوقت أعطى جورست تسهيلات واسعة لأنشطة الحركة الصهيونية فى مصر والتى كانت تطالب بإنشاء دولة إسرائيل ، وقد سمح بتأسيس جمعية "بن صهيون " والتى بدأت نشاطها على نطاق واسع فى الأسكندرية فى عام 1908 ، وإعتبرت من أخطر الجمعيات الصهيونية فى منطقة الشرق الأوسط خاصة بعد تبينيها لبرنامج المؤتمر الصهيونى الذى عقد فى بازل بسويسرا عام 1897 والذى تقرر فيه تأسيس دولة إسرائيل .
وفى عام 1908 رشح أحمد لطفى السيد نفسه لمجلس مديرية الدقهلية ليكون عضوا فى مجلس شورى القوانين (لأن عضو مجلس شورى القوانين كان ينتخبه أعضاء مجلس المديرية من بينهم )، لكن لطفى السيد لم ينجح فى هذه الإنتخابات، نظرا لمعارضته الشديدة للسير الدون جورست . ثم حاول مرة ثانية فى عام 1911 ونجح هذه المرة ، ولكن طعن فى نجاحه لأنه غير مقيم فى قرية برقين ، ويالفعل ألغت محكمة الزقازيق الإنتخاب ، ثم أعيد الإنتخاب مرة ثانية ونجح بأعلى الأصوات بعد أن تنازل الطاعن عن طعنه.
خلافه مع بطرس غالى باشا حول مد إمتياز قناة السويس:
فى عام 1909 أرادت شركة قناة السويس أن تمد إمتيازها لأربعين عاما جديدة مقابل أربعة ملايين جنيها إسترلينى تدفعها إلى الحكومة المصرية . لكن حزب الأمة بقيادة أحمد لطفى السيد رفض ذلك وبحث الأمر مع حسين رشدي وسعد زغلول باشا ، فأحاله الرجلان إلى رئيس الوزراء بطرس باشا غالى والمستشار المالى الإنجليزى . لكن لطفى السيد ذهب أولا إلى المستشار المالى الإنجليزى الذى إعترض بشدة على طلب لطفى السيد ، فقرر الأخير الذهاب إلى رئيس الوزراء بطرس باشا غالى فى منزله بالفجالة بوسط القاهرة فإستقبله رئيس الوزراء بلطف وأدب ، وعرض عليه ما حدث مع المستشار المالى الإنجليزى، وقال له نحن فى حزب الأمة نسعى إلى عرض الأمر على الجمعية العمومية ، فأجابه رئيس الوزراء: يا لطفى إنزل شوية من السحاب وخليك معانا على الأرض.. الإنجليز مش ها يتنازلوا أبدا. ومع ذلك إستمر لطفى السيد فى حملته ضد مد الإمتياز ، ومع إستمرار الضغط الشعبي وافق رئيس الوزراء على عقد الجمعية العمومية. لكن الجمعية العمومية فى النهاية وافقت على مد الإمتياز. وفى عام 1910 قتل رئيس الوزراء بطرس باشا غالى وكان لهذا الحادث رنة أسف شديد خاصة على صعيد الطبقة المثقفة.
مصر للمصريين وليست مشاعا للجميع:
كان أحمد لطفى السيد يشدد على أن مصر للمصريين ، وكان يرفض رفضا باتا الجنسية المزدوجة ، وقال فى هذا الخصوص: إن المصرى هو الذى لا يعرف له وطنا آخر غير مصر ، أما الذى له وطنان حيث يقيم فى مصر ويتخذ له وطنا آخر على سبيل الإحتياط فهو ليس مصريا بمعنى الكلمة. وقد دعا أحمد لطفى السيد فى بدايات القرن العشرين كل السوريين واللبنانيين والعرب المقيمين فى مصر إلى أن يسجلوا أسمائهم فى المحافظات المصرية التى يقيمون بها إقامة دائمة ليحصلوا على الجنسية المصرية . وقد بعث إلى شكور باشا مدير بلدية الإسكندرية وعبد الله صفير باشا مدير المطبوعات بوزارة الداخلية فى ذلك الوقت إلى تعزيز مطلبه بتجنيس العرب المقيمين فى مصر. وكان هدفه من ذلك هو أن يتحمل كل قاطن فى مصر من الواجبات ما يتحمله المصريون لتحقيق القومية المصرية.
رفضه للفكر السلفى وال بان أرابيزم:
وعندما ظهرت فى عام 1911 فكرة الجامعة العربية أو ال" بان أرابيزم " وجاء إلى مصر رجلان من أعيان الشام هما شكري العسلى من دمشق والسيد ثابت من بيروت وطلبا من السياسيين المصريين العمل على ضم سوريا إلى مصر كان رأى احمد لطفى السيد أنه لابد من الحصول على الإستقلال أولا قبل الدخول فى إتحاد عربى ، ومن ثم كان مترددا فى فكرة قبول ضم سوريا إلى مصر.
كما رفض أحمد لطفى السيد الفكرة السلفية التى نادت بأن أرض الإسلام هى أرض كل المسلمين وذاك حينما حضر من الجزيرة العربية وفد من جماعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر التى بدأت تكوينها فى الدولة السعودية الحديثة عام 1902 وكان معهم مناصريهم من الأزهر وطالبوا أحمد لطفى السيد بتبنى مشروع أرض الإسلام هى أرض كل المسلمين . كان لطفى السيد يرى أن ذلك الفكر الحجازى هو فكر مبنى على قاعدة إستعمارية تنتفع بها كل أمة مستعمرة تطمع فى توسيع أملاكها ونشر نفوذها كل يوم فيما حواليها من البلاد ، وهى قاعدة تتمشى مع العنصر الذى يعتمد على العنف الذى يفتح البلاد بإسم الدين ، ومن ثم تستطيع القضاء على الحركات الوطنية التى تسعى إلى إستقلال بلدها والحفاظ على سيادتها على أراضيها . لذلك أكد أحمد لطفى السيد على الآتى: إن مصريتنا تقضى علينا أن يكون وطننا هو قبلتنا ، وأن نكرم أنفسنا ونكرم وطننا ، فلا ننتسب إلى وطن غيره، وأن نخص وطننا بخيرنا ، وأن نشدد على أن الإنتساب إلى مصر هو شرف عظيم ، فمصر تاريخيا وستظل بلد التمدن ولها من الثروة الطبيعية والتاريخية ما يكفل لها الرقى متى كرم أهلوها، وعزت نفوسهم وكبرت أطماعهم فاستردوا شرفها وسموا بها إلى مجد آبائهم الأولين.
الحياد الإيجابى:
كان أحمد لطفى السيد يدعو حياد مصر الإيجابى فى القضايا الدولية، فقد طالب بحياد مصر من هجوم إيطاليا على ليبيا، وذلك عندما رأى تعاطف المصريين مع الدولة العثمانية، وقيامهم بجمع التبرعات، وحشد المؤن والأسلحة لإرسالها إلى الجيش العثماني في طرابلس بليبيا، وقال فى هذا الشأن: " وقد أخذت أنبه على استحياء إلى واجب مصر من هذه الحرب، وهي أن تكون على الحياد، وأن سيادة تركيا لا تجلب لمصر منفعة ولا تدفع عنها ضرًا " . لكن دعوته لم تلقَ استجابة، وضاعت وسط عواطف المصريين، وتعلق قلوبهم بدولة الخلافة العثمانية.
إنشاء نظام الجمعية التشريعية بدلا من مجلس شورى القوانين:
فى عام 1913 أعلنت البلاد عن إلغاء مجلس شورى القوانين ليحل محله نظام الجمعية التشريعية، وعندما قرر أحمد لطفى السيد وسعد زغلول دخول الإنتخابات للإشتراك فى عضويتها وقف المعتمد البريطانى فى مصر السير الدون جورست ضدهم وحاول العمل على إسقاطهم ، وبالفعل سقط أحمد لطفى السيد فى الدائرة التى ترشح لها بمركز السنبلاوين، لكن سعد زغلول نجح فى دائرتين له بالقاهرة . ويبدو ان سبب إخفاق لطفى السيد فى الإنتخابات ما أشيع ضده بأنه ليبرالى يدعو للديمقراطية التى تعد خروجا عن الدين الإسلامى ، وأن الديمقراطية محدثة وأن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار. فى تلك الفترة نشطت التيارات السلفية المصرية التى كانت على إتصال بتيارات سلفية حديثة العهد ظهرت مؤخرا فى الأراضى الحجازية مع بدايات الدولة السعودية فى 1902 ميلادية الموافقة 1319 هجرية أطلقت على نفسها جماعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وكانت تستمد أفكارها السلفية المتشددة من رجل الدين الحنبلى محمد بن عبد الوهاب(1206 هجرية الموافق 1792 ميلادية) وكذلك الفكر الأرطاوي المتشدد فى شبه الجزيرة العربية.
قسوة قانون المطبوعات والعمل على إنشاء أول نقابة للصحفيين فى مصر:
فى عام 1909 قامت الحكومة المصرية فى خطوة لتكميم الحريات ببعث قانون المطبوعات الذى صدر إبان الثورة العرابية والذى أطلق عليه قانون تكميم الأفواه وإغتيال حرية الرأى، وقد أيد المعتمد البريطانى القانون ووافق عليه مجلس الشورى بالأغلبية . فى المقابل تحرك أحمد لطفى السيد ومعه نفر كبير من الصحفيين فى محاولة لإجراء بعض التعديلات على القانون. وفى صيف عام 1909 سافر لطفى السيد إلى بريطانيا لمقابلة وزير الخارجية سير إدوارد جراى ليشكو له تصرف الإنجليز فى حرية الصحافة لكن وزير الخارجية إعتذر عن المقابلة بسبب مناورة بحرية وأحاله إلى وكيل وزارة الخارجية مستر ماليت فقدم له مذكرة يشير فيها إلى تدخل الإنجليز فى العمل الصحفى وهو ما يتعارض قانون مع حرية الصحافة، ووعده ماليت خيرا. لكن هذا الخير لم يأت!!!
فى عام 1912 دعا أحمد لطفى السيد إلى تأليف أول نقابة للصحافة المصرية ، وقد إستجاب الصحفيون على إختلاف ألوانهم إلى هذه الدعوة. وإجتمعت الجمعية العمومية وإنتخب مسيو كانيفيه الذى كان مالكا لجريدة"ريفورم" بالإسكندرية نقيبا للصحفيين المصريين، وإنتخب كل من فارس نمر وأحمد لطفى السيد وكيلين للنقابة، وإنتخب كل من جبرائيل تقلا مالك جريدة الأهرام والأستاذ فيزييه مالك جريدة لوكير سكرتيرا للنقابة . وفى حفل الإفتتاح للنقابة الذى أقيم ب معصرة كوم أمبو قام كل من أحمد لطفى السيد والأستاذ فيزييه بتمثيل النقابة ، وقد خطب فى تلك الحفلة كل من يوسف قطاوى باشا وأحمد شفيق باشا . ولكن هذه النقابة توقفت عن نشاطها عندما قامت الحرب العالمية الأولى فى عام 1914 ، إلا أنها تظل طبقا للتاريخ أول نقابة للصحفيين المصريين فى مصر.
المطالبة بالإستقلال:
مع بدايات عام 1918 بدأت مطالب أحمد لطفى السيد وأصدقائه الأربعة(سعد زغلول، عبد العزيز فهمى، على شعراوى، محمد محمود) بالإستقلال التام لمصر ، وقد إرتكزت مطالبهم على ما أعلنه الرئيس الأمريكى ويلسون فى حق تقرير مصير الشعوب . وفى نوفمبر عام 1918 تم تشكيل الوفد المصرى من أولئك الخمسة وعدد آخر ممن آمنوا بضرورة الإستقلال والذين أخذوا على عاتقهم تحرير مصر وفرض سيادتها على جميع أراضيها . لكن بعد نفى كل من سعد زغلول ومحمد محمود وإسماعيل صدقى وحمد الباسل إلى مالطة إجتاحت البلاد ثورة عنيفة فى كل أرجائها وذلك فى أوائل عام 1919. ويذكر أنه أثناء ثورة 1919 قامت مديرية المنيا بإعلانها جمهورية مستقلة برئاسة الدكتور محمود عبد الرازق بك الطبيب، وقد قام رجال المنيا بقطع مواصلات السكك الحديدية مع القاهرة ، كما أقيمت جمهوريات أخرى فى بعض مديريات الوجه البحرى. وخلال أحداث الثورة إستدعت سلطات الإحتلال بقية أعضاء الوفد وكان على رأسهم أحمد لطفى السيد ، وبالفعل مثل لطفى السيد ورفاقه أمام القائد العام لسلطة الإحتلال وتم الإستدعاء فى فندق سافوى ، ووجهة إليهم تهم إشعال الثورة وطالبهم القائد العام الإنجليزى بوقفها فورا . لكن أحمد لطفى السيد أكد لهم أنها لن تهدأ إلا إذا تم إستدعاء حسين رشدى باشا أو عدلى يكن باشا ، أو ثروت باشا ليقوم بتشكيل وزارة تعمل على ترضية المصريين كافة، وأن ذلك هو السبيل الوحيد لوقف العنف. وفى هذا الصدد يقول لطفى السيد: بعد أيام قلائل من إعلان مطالبنا لقائد سلطات الإحتلال ، كنت مع صدقى عبد العزيز فهمى فى منزل على شعراوى ، فوفد إلينا صديقنا الدكتور يوسف نحاس وقال لنا أن السلطات العسكرية ستقوم بتفتيش منازل أعضاء الوفد الباقيين.. وعلى الفور ذهب عبد العزيز باشا إلى منزله بمصر الجديدة وذهبت أنا إلى منزلى بحى المطرية بالقاهرة وقمنا بحرق جميع الأوراق السياسية التى كانت تضم أسماء رشدى باشا وعدلى باشا وثروت باشا حتى لا يتم نفيهم إلى خارج البلاد.
فى الوقت نفسه أعلنت بريطانيا عن تعيين المارشال اللنبى معتمدا بريطانيا فى مصر من أجل وقف ثورة 1919 وعودة السكينة والسلام إلى البلاد . وفور تعيين اللنبى قام لطفى السيد ورفاقه بإرسال تقرير من بقية أعضاء الوفد يشرح فيه أسباب الثورة والعنف الذى قامت به سلطات الإحتلال، ونصح بأنه لعودة الإستقرار لابد من تنصيب إما حسين رشدى باشا أو عدلى باشا يكن أو ثروت باشا رئيسا للحكومة الجديدة ، وضرورة الإفراج عن المنفيين الأربعة (سعد زغلول ومحمد محمود وإسماعيل صدقى وحمد الباسل) وعودتهم من مالطة إلى القاهرة . ووافق اللنبى على مقترحات الوفد ، وسمح لأحمد لطفى السيد ورفاقه بالسفر إلى أنجلترا على باخرة عسكرية إنجليزية لبحث قضية الإستقلال . وفى طريق الباخرة إلى لندن ذهبت إلى مالطة فاصطحبت كل من سعد زغلول ومحمد محمود وإسماعيل صدقى وحمد الباسل. لكن الرحلة لم تنجح لأن الرئيس الأمريكى ويلسون أعلن موافقته على الحماية الإنجليزية على مصر وهو ما أصاب الوفد المصرى بصدمة شديدة.
ولما وقع الخلاف بين سعد باشا زغلول وعدلى باشا يكن حول رئاسة مفاوضات إستقلال مصر قرر لطفى السيد إعتزال السياسة ، والعودة إلى العمل فى دار الكتب المصرية.
عمل مديرًا لدار الكتب:
بعد توقف الحرب وإغلاق الجريدة عُين أحمد لطفي السيد مديرًا لدار الكتب خلفًا للدكتور " شاده" المدير الألماني، وفي دار الكتب وجد متسعا من الوقت لمزاولة أعماله الأدبية ، فترجم بعض أعمال أرسطو، ودعا إلى ترجمة الكتب الأدبية الأخرى، وندب من وثق بهم للاضطلاع بنقل الثقافة الغربية إلى العربية، موقنًا أن النهضات في بواكيرها تقوم على الترجمة التي هي بمثابة التمهيد بالاحتذاء ثم الخلق والأصالة. وظل أحمد لطفي مديرًا لدار الكتب حتى (شعبان 1343ه الموافق مارس 1925م) قبل أن يعين مديرًا للجامعة المصرية بعد أن أصبحت حكومية فى عام 1928.
ويُذكر له أنه في أثناء عمله بدار الكتب أنشأ مجمعًا لغويًا عرف باسم "مجمع دار الكتب"، تولى رئاسته الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي، واشترك في عضويته حفني ناصف وعاطف بركات وغيرهما، غير أن هذا المجمع الوليد لم تطل به الحياة، فانطوت صفحته بعد عام من إنشائه.
علاقته بثورة 1919:
فى عام 1917 شهدت مصر تحركات واسعة النطاق من قبل الجمعيات الصهيونية التى توالى إنشائها بدعم وحماية المعتمد البريطانى فى مصر حتى بلغ عددها فى أوائل عام 1917 نحو 14 جمعية أغلب أعضائها من اليهود الإشكناز القادمين من أوربا تحت حماية بريطانيا وفرنسا . وفى نفس العام أيضا (1917) خرجت أول مسيرة يهودية فى مصر تحت حماية قوات الإحتلال البريطانى وبمساندة المعتمد البريطانى ، وقد بلغ تعدادها نحو ثلاثة آلاف يهودى مقيمين فى مصر تحية لوعد بلفور . وفى عام 1918 قام حاييم وايزمان بزيارة القاهرة على رأس بعثة صهيونية كانت مسافرة إلى فلسطين بدعوة من المعتمد البريطانى ، وقد كان من نتائج تلك الزيارة أن قام شخص يدعى ليون كاسترو وهو يهودى مصرى بتأسيس فرع للمنظمة الصهيونية العالمية فى مصر ودعا نشاط جمعيته إلى تسهيل عمليات الهجرة اليهودية إلى فلسطين . كل ذلك دفع الحركات الوطنية إلى سرعة إتخاذ خطوات متسارعة للإستقلال عن بريطانيا والتخلص من الإحتلال. ومع إنتهاء الحرب العالمية الأولى سنة (1337ه= 1918م) استقال أحمد لطفي السيد من دار الكتب، واشترك مع سعد باشا زغلول ورفيقاه عبد العزيز فهمي وعلى شعراوي وغيرهم في تأليف وفد للمطالبة بالاستقلال، وكان من شأن المطالبة أن نُفي سعد زغلول ورفيقاه إلى خارج البلاد، فاشتعلت البلاد بثورة 1919م العارمة التي أضجت مضاجع الاحتلال، وظل أحمد لطفي السيد في القاهرة يحرر بيانات الوفد ومذكراته، وتطور الأمر إلى رضوخ بريطانيا للتفاوض، وتشكلت وزارة حسين باشا التى أفرجت عن الزعماء المنفيين، وسافر لطفي السيد مع الوفد المصري إلى باريس، لعرض مطالب مصر على مؤتمر السلام المنعقد في فرساي.
ولما اشتعل الخلاف بين عدلي يكن رئيس الوزراء وسعد زغلول زعيم ثورة 1919 على رياسة المفاوضات مع بريطانيا ، اعتزل أحمد لطفي السيد العمل السياسي، وعاد مرة أخرى إلى العمل بدار الكتب مديرًا لها، كما اشتغل بالجامعة المصرية الأهلية وكيلا لها.
رفض فكرة الجامعة الإسلامية وتبنى إنشاء الجامعة المصرية :
هاجم أحمد لطفى السيد فكرة الجامعة الإسلامية التي كان يدعو إليها السلطان عبد الحميد الثاني، وقال فى هذا الخصوص : " نريد الوطن المصري والاحتفاظ به، والغيرة عليه كغيرة التركي على وطنه، والإنجليزي على قوميته، لا أن نجعل أنفسنا وبلادنا على المشاع، وسط ما يسمى بالجامعة الإسلامية".
وحول إنشاء جامعة مصرية، فقد نشرت جريدة الوطن (لصاحبها ميخائيل عبد السيد) فى 30 أغسطس 1893 تحت عنوان إنشاء مدرسة جامعة على إسلوب البلاد الأوربية والأمريكية تدرس أحدث ما وصلت إليه علوم الإدارة والسياسة والهندسة والحربية والطب ، وكل ما يتعلق بمستقبل وجود المصريين ، وقد طالبت الجريدة من أغنياء مصر وأعيانها تمويل ذلك المشروع ليكون بمثابة جامعة أهلية غير حكومية مثلما حدث فى جامعة كولومبيا وهارفرد وستانفورد وكاليفورنيا. وفى 14 أكتوبر من نفس العام (1893) نشرت جريدة الوطن مقالا طالبت فيه بضرورة الإسراع فى إنشاء مدرسة جامعية مصرية تضم المدرسة الطبية ومدرسة الحقوق ومدرسة الزراعة والمهندسخانة والصنائع وغيرها من المدارس العالية وذلك على غرار اليابان التى أنشأت مدرسة جامعة.
وفى 2 أبريل عام 1897 نشرت جريدة الوطن مقالا تحت عنوان(مدرسة عالية) جاء فيه أن الإنجليز عازمون على إنشاء مدرسة عالية فى مصر وتحديدا فى مدينة الإسكندرية ، لكن الإنجليز لم يذكروا ما إذا كانت تلك المدرسة العالية مثل التى توجد بلادهم (يونيفرستى) تضم الطب والهندسة والحقوق والآداب والزراعة وغيرها، أم إذا كانت فى علم واحد فقط . ويبدو أن المقترح الإنجليزى دفع الكثير من المثقفين إلى ضرورة الإسراع بتأسيس الجامعة الأهلية المصرية.
وفى يوم 12 أكتوبر عام 1906 إجتمع نخبة من أهل الخير فى دار سعد زغلول باشا وتعاقدوا على الدعوة لإنشاء الجامعة، وقرروا فيم قرروا أن تكون الجامعة بمعزل عن السياسة . وقد أقبل الناس على الإكتتاب فيها والتبرع لها.
وفى 20 مايو عام 1908 إجتمعت جمعية المكتتبين فى ديوان الأوقاف تحت رئاسة الأمير أحمد فؤاد(الملك فؤاد الأول فيما بعد) وأطلقوا عليها إسم الجامعة المصرية ، ونفحتها الحكومة إعانة سنوية ، كما نفحتها الأوقاف خمسمائة جنيه إعانة سنوية أيضا ، وتم إفتتاحها فى 21 ديسمبر عام 1908 . وكانت تهتم بمحاضرات الثقافة العامة التى كان يشرف عليها يوميا رئيس الجامعة الذى قام بإرسال بعثات علمية للخارج ، وقد بلغ عددهم أربعة وعشرين متخرجا فى العلوم ليصبحوا بعد ذلك معلمين فى الجامعة.
ويذكر أنه فى عام 1922 وضع أحمد لطفى السيد منهاجا للجامعة بإعتبارها كلية للآداب وذهب إلى مقابلة الملك فؤاد وعرض عليه هذا المنهج وطلب منه أن تجعل الحكومة شهادتها كشهادات المدارس العليا لكن الملك فؤاد قال له: إن الحكومة عازمة على إنشاء جامعة ، ويمكن إعتبار الجامعة القديمة كلية آداب ضمن هيكل الجامعة الجديدة ، وشكر لطفى السيد جلالته على ذلك. وفى 12 ديسمبر عام 1923 عقد مجلس إدارة الجامعة لتسليم الجامعة المصرية إلى وزارة المعارف العمومية ، وقد حرر عقدا بذلك وقع عليه أحمد زكى أبو السعود باشا وزير المعارف فى ذلك الوقت ووقع حسين رشدى باشا رئيس الجامعة . ويذكر أن أحمد لطفى السيد هو الذى قام بوضع شروط العقد ، وقد تم الإتفاق على أربعة مواد هى: المادة الأولى : وتتضمن الآتى: قد تنازل بإسم الجامعة حضرة صاحب الدولة حسين رشدى باشا رئيسها عن هذه الجامعة من كل ما تمتلكه من منقول وعقار إلى وزارة المعارف العمومية على الشروط التالية (1) أن تكون الجامعة المصرية معهدا عاما محتفظة بشخصيتها المعنوية وتدير شئونها بنفسها بكيفية مستقلة تحت إشراف وزارة المعارف العمومية كما هى الحال فى جامعات أوربا. (2) أن تقوم الحكومة بإتمام النظام الحالى الذى لا يشمل سوى كلية فى الآداب بأن تدمج فى الجامعة مدرستى الحقوق والطب بعد تحويلهما إلى كليتين ، وأن تضم إليها كلية للعلوم ، ويجوز أن تضم إليها كليات أخرى فيما بعد. (3)أن تستعمل نقود الجامعة البالغ قدرها نحو ستة وأربعين ألف جنيه فى البناء إحتراما لشروط بعض الواقفين. (4) أن تحترم تعهدات الجامعة نحو أساتذتها وموظفيها الحاليين، أما فيما يتعلق بالدكتور طه حسين فقد رؤى نظرا لحالته الشخصية أن يبقى أستاذا بكلية الآداب. (5) أن يكون من مجلس إدارة الجامعة المصرية الحالى عضوا أو أكثر فى مجلس إدارة قسم الآداب وفى مجلس إدارة الجامعة وذلك فى الدور الأول من التشكيل إستيفاء لآثار النهضة القومية التى أوجدت الجامعة المصرية.
المادة الثانية: قبل حضرة صاحب المعالى أحمد زكى أبو السعود باشا وزير المعارف العمومية بإسم هذه الوزارة هذا التنازل وإستلام الجامعة المصرية وما تملك من منقول وعقار لإدماجها فى الجامعة الجديدة بالشروط الخمسة المبينة بالمادة الأولى. المادة الثالثة: ينفذ هذا الإتفاق بعد اللتصديق عليه من مجلس إدارة الجامعة المصرية الحالى . المادة الرابعة: كتب من هذا الإتفاق نسختان ، تحفظ إحداهما فى وزارة المعارف العمومية وتحفظ الثانية فى محفوظات كلية الآداب التابعة للجامعة. وكتب فى آخر الإتفاق الآتى: تحريرا بوزارة المعارف العمومية فى 12 ديسمبر 1923 ...رئيس الجامعة المصرية(حسين رشدى) ، ووزير المعارف العمومية(أحمد زكى أبو السعود).
وفى 7 فبراير عام 1928 إحتفلت الجامعة بوضع الحجر الأساسى لمبانيها الحالية بالجيزة بحضور جلالة الملك فؤاد. ويذكر أنه فى منتصف الساعة الثانية عشرة أقيم إحتفال كبير فى المكان الجديد بالجيزة ودعى إليه علية القوم من الأمراء ورجال الدين والوزراء والآداب. وبعد أن وصل الملك فؤاد ، وقف وزير المعارف على الشمسى باشا فألقى خطبة بين يديه ، ودعا الملك لوضع الحجر الأساسى بيده، وألقى أحمد لطفى السيد خطبته كمدير للجامعة وسجل فيها الأدوار التى مر بها التعليم فى مصر وهى ثلاثة أدوار(الدعاية والبدء فى التنفيذ ودور التمام).
وفي عهد أحمد لطفى السيد اتسعت الجامعة؛ فضمت إليها كلية الهندسة والحقوق والتجارة والزراعة، والطب البيطري وغيرها. ويذكر أنه فى الفترة التى عين فيها لطفى السيد وزيرا للمعارف (يونيو 1928) إلتحقت بعض الفتيات بالجامعة دون ضجة أو دعاية وبتسهيلات منه ، ولم تعرف الصحف شيئا عن ذلك ، وسارت الأوضاع في هدوء حتى تخرجت أول دفعة من الطالبات سنة (1352ه= 1933م) وكانت ثلاث طالبات في كلية الآداب وواحدة في كلية الحقوق، وكان ذلك مأثرة له في سبيل النهوض بالمرأة، والمحافظة على حقها في التعليم.
ولما ترك وزارة المعارف فى أكتوبر 1929 ، تم إستدعائه بعد شهرين أى فى أول يناير 1930 للعودة مديرا للجامعة . وقد حرس على أن تكون الجامعة بعيدا عن التأثيرات السياسية، وأن يكون إستقلالها محل الإحترام والقداسة . لكن فى مارس 1932 إعتدت وزارة المعارف على إستقلال الجامعة عندما نقلت الدكتور طه حسين من عمادته بكلية الآداب إلى إحدى الوظائف بديوان الوزارة دون أن تأخذ رأى الجامعة ، وعليه غضب أحمد لطفى السيد لذلك الإعتداء وإتجه فورا إلى رئيس الوزراء فى ذلك الحين إسماعيل صدقى باشا ، وإقترح عليه تلافيا للضرر وإحتراما لرأى وزير المعارف فى ذلك الوقت حلمى عيسى باشا أن يرجع الدكتور طه حسين بك أستاذا بكلية الآداب وليس عميدا . وقد وافق رئيس الوزراء على إقتراح احمد لطفى السيد ، لكن فى اليوم التالى رفض الإقتراح ونفذ رأى الوزير، وعليه لم يذهب لطفى السيد إلى الوزارة وقد إستقالته إلى وزير المعارف العمومية حلمى عيسى باشا مؤرخة فى 9 مارس عام 1932.
وفى أبريل عام 1935 جاءت حكومة محمد نسيم باشا الذى إختار نجيب الهلالى باشا وزيرا للمعارف. وطلب الأخير من لطفى السيد العودة إلى الجامعة لكن لطفى إشترط أن يعدل قانون الجامعة بحيث ينص صراحة على أنه لا ينقل أستاذ منها إلا بعد موافقة مجلس الجامعة ، وقد وافق نجيب باشا وعدل قانون الجامعة . وفى نفس العام قام لطفى السيد بضم كلية الهندسة وكلية التجارة وكلية الزراعة وكلية الطب البيطرى إلى الجامعة.
وفى أوائل أكتوبر سنة 1937 إشتد الخصام بين طلبة الجامعة على المسائل الحزبية لأن الأحزاب كانت لها كوادرها من طلبة الجامعة مما أضر بالإخاء الجامعى ، وهنا طلب لطفى السيد من وزارة الداخلية تعيين كونستبلات لحفظ النظام لأنه لم يسمح للبوليس بدخول الجامعة ، لكن وزارة الداخلية لم تجب لطلب لطفى السيد ، فقدم إستقالته للمرة الثانية. ثم إختاره محمد محمود باشا فى حكومته وزيرا للدولة لكنه لم يمكث بها كثيرا . وفى منتصف عام 1938 زاره الدكتور محمد حسين هيكل الذى كان وزيرا للمعارف وطلب من لطفى السيد العودة للجامعة فوافق لطفى السيد بشرط أن يبتعد رجال الحكومة عن الإتصال بالطلبة . ووافق الدكتور هيكل ، وإستمر لطفى السيد حتى عام 1941 عندما عرض رئيس الحكومة حسين سرى باشا أن يعين عضوا فى مجلس الشيوخ ، فوافق لطفى السيد بعد أن اطمأن إلى أوضاع الجامعة ورسوخ أقدامها.
ما بعد الجامعة:
فى سنة (1365ه الموافق 1944م) دعا أحمد باشا ماهر صديقه أحمد لطفى السيد ليكون عضوا في الهيئة التي كونها لدراسة مقترحات الحلفاء لإنشاء منظمة دولية جديدة تحل محل عصبة الأمم. وفى عام 1946 اشترك في وزارة إسماعيل صدقي ليكون وزيرًا للخارجية وعضوًا في هيئة المفاوضات بين مصر وبريطانيا التي عُرفت بمفاوضات " صدقي-بيفن"، غير أنها فشلت، وخرج لطفي السيد من الوزارة التي كانت قد شكلت برئاسة صدقي لمواجهة المد الشعبي المطالب بالتحرر والاستقلال، ولم يشترك بعد ذلك في أعمال سياسية أخرى.
نشاطه الفكري:
على الرغم من تقدمه في السن؛ فقد ظل أحمد لطفى مؤثرًا في الحياة الفكرية، ومن أهم القضايا التى تحسب له الآتى: تبنى المفهوم الليبرالي للحرية الذى كان سائدا في أوروبا خلال القرن التاسع عشر فنادي بتمتع الفرد بقدر كبير من الحرية وبغياب رقابة الدولة على المجتمع ، وشدد على ضرورة أن يكون الحكم قائما على أساس التعاقد الحر بين الناس والحكام. وهو صاحب القولة الشهيرة " الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية "، وهو يعتبر رائد الليبرالية المصرية. كما دعى إلى استعمال اللغة العامية المصرية بدلا من العربية الفصحى. وفى هذا الصدد طالب بإلغاء تشكيل الحروف واستبدال ذلك التشكيل بالحروف اللينة. ومثال ذلك: أن تكتب عبارة " اسالامو عاليكوم " بدلاً من " السلام عليكم " ، أى تسكين أواخر الكلمات ، ومن ثم المطالبة بإعتماد الكلمات العامية المتداولة كتابة ونطقاً . وكان هدفه من ذلك هو القضاء على ازداوجية اللهجة عند المصريين. ودعا إلى دراسة الفلسفات اليونانية، والاقتباس منها، وكان يشجع تلاميذه على ذلك ، وقام بترجمة بعض كتب أرسطو إلى العربية. وقد وصفه الأديب عباس العقاد "بأنه بحق أفلاطون الأدب العربي" . كما أطلق عليه لقب أستاذ الجيل وأبو الليبرالية المصرية.
كرمته الحكومة المصرية فى عهد الرئيس عبد الناصر ، فنال جائزتها التقديرية في العلوم الاجتماعية سنة (1378ه الموافق 1958م). ونذكر هنا أنه خلال عمله رئيسا لمجمع اللغة العربية عرض عليه ضباط حركة 23 يوليو 1952 أن يصبح رئيسا لمصر ، لكن لطفى السيد رفض ذلك العرض .
ولأحمد لطفي السيد العديد المؤلفات الفكرية وكان أسلوبه يتميز بالدقة والسلاسة والوضوح دون التواء في المعني أو ملابسة في الفكرة، أو تداخل في التعبير، ومن مؤلفاته.
· "صفحات مطوية من تاريخ الحركة الاستقلالية".
· "تأملات"،.
· "المنتخبات" ، فى جزأين.
· "تأملات في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع" .
· مذكراته بعنوان " قصة حياتى.
· كما ترجم عن الفرنسية عدة مؤلفات لأرسطو منها: أ- الأخلاق" . ب- الطبيعة السياسية. ج- الكون والفساد.
وفاته:
وقد طالت الحياة بأحمد لطفي السيد حتى تجاوز التسعين، وظل موفور النشاط متوقد الذهن حتى لقي ربه في 5 مارس سنة 1383ه الموافق 1963م بالقاهرة بعد أن وقف نفسه على الإصلاح والتجديد ستين عامًا أو يزيد، وهي مدة لم تتوفر لمصلحين كثيرين، ودخل التاريخ من باب التأثير على مسيرة أجيال زاملته بأفكاره الإصلاحية . ولديه ابنة واحدة هي عفاف لطفي السيد وهي أستاذة العلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا، بيركلي بالولايات المتحدة الأمريكية.