الأديب و الروائي العالمي "نجيب محفوظ"
فارس الرواية العربية
نجيب محفوظ
منى كوسا
-1-
الأديب و الروائي العالمي " نجيب محفوظ " يبقى خالداً في
الذاكرة متغلغلاً في الوجدان , من أمثاله يرحلون فقط بالجسد و يكتب لهم الزمن
بالخلود , فهو هرماً أسطوريا عبر التاريخ .
_ من " قوت القلوب إلى نوبل "
أول جائزة أدبية حصل عليها " محفوظ " هي جائزة " قوت القلوب "
الدمرداشية عام 1940
و كانت لجنة التحكيم مشكلة من طه حسين و أحمد أمين و محمد فريد أبو حديد و فاز
محفوظ بالمركز الأول مناصفة مع علي أحمد باكثير على روايته " سلامة " بينما فازت "
رادوبيس " محفوظ بنصف الجائزة و قيمتها
20
جنيها وكان في ذلك الوقت يفشل في نشر رواياته في الصحف ما رفع روحه المعنوية .
وبروايته " كفاح طيبة " تقدم لمسابقة مجمع اللغة العربية و كان
من بين الخمسة الفائزين بها و منهم عادل كامل و باكثير و يوسف جوهر وكانت قيمة
الجائزة مائة جنيه ما شجعه على التقدم للمسابقة ذاتها في العام التالي بروايته "
السراب " فصدر قرار بحجب الجائزة و كان رأي منصور باشا فهمي أن الرواية بها جنوح
جنسي .
ثم تقدم إلى جائزة وزارة المعارف بروايته " زقاق المدق "
فقوبلت بالرفض فقدم " القاهرة الجديدة " فلم تقبل أيضاَ ثم وافقوا على اشتراكه
برواية " خان الخليلي " و كان أعضاء لجنة التحكيم منحازين لسعيد العريان باستثناء
المازني الذي اقترح أن تمنح الجائزة مناصفة فحكموا العقاد في المسألة فطلب أن تفوز
بالجائزة الأولى و انتهت الأزمة بتقسيم الجائزة بين محفوظ والعريان .
وفي يوم الخميس
13
أكتوبر
1988ذهب " محفوظ " إلى عمله في جريدة " الأهرام " و تحدث مع
أصدقائه عن جائزة نوبل و قال لهم سوف نقرأ في الصفحة الأولى من الأهرام غداً خبراً
صغيراً كالمعتاد و نعرف من فاز بها و عاد إلى بيته و تناول الغذاء و دخل غرفة نومه
و لم تمض دقائق حتى وجد زوجته توقظه قائلة : لقد أخذت جائزة نوبل .
استيقظ غاضباً واعتبر كلام زوجته هلوسة و رغم اتصال الأهرام لم
يصدق إلا عندما دق بابه سفير السويد في القاهرة و هنأه بالجائزة و قدم له هدية
رمزية و بمجرد انصراف السفير تحولت شقة محفوظ إلى ما يشبه السوق .
_ طقوس الكتابة
كان محفوظ يفرغ من عمله في الثانية ظهراً ويعود إلى بيته
لتناول الغذاء ثم يستريح لبعض الوقت و يجلس إلى مكتبه عندما تدق الساعة الرابعة و
يبدأ بالكتابة لمدة ثلاث ساعات أخرى للقراءات المتنوعة , الاستعداد للكتابة يأتيه
بمجرد الجلوس إلى مكتبه , و في تلك المرحلة كان يمنح نفسه إجازة من الأدب يومي
الخميس و الجمعة إلى جانب الإجازة الإجبارية طوال أشهر الصيف بسبب الحساسية التي
تصيب عينيه و ترتبط الكتابة عند محفوظ بعادتين هما التدخين الذي مارسه منذ كان
طالباً في المرحلة الثانوية و بجانب ذلك يجب أن تكون هناك خلفية موسيقية يجعلها في
هامش الشعور و لا يلتفت إليها و عندما خرج إلى المعاش لم يختلف نظام الكتابة كثيراً
, لكنه قبل حصوله على جائزة نوبل للآداب أصيب بضمور في شبكية العين مما سبب له
إزعاجاً شديداً و هدم النظام الذي سار عليه طيلة حياته .
الوظيفة والعمل :
عمل أديبنا الكبير في وزارة الأوقاف و مجلس النواب و إدارة
الجامعة ففي الأوقاف كان يلتقي بالمستحقين في الوقف للعائلات القديمة و في مجلس
النواب كان يتابع الصراعات الحزبية أما في إدارة الجامعة فقد اصطدم بنماذج بشرية
أخرى فبطل " القاهرة الجديدة " عرفه محفوظ و هو طالب و تتبعه إلى أن حصل على وظيفة
لكن سقوطه بدأ وهو طالب , و بطل " خان الخليلي " كان زميلاً لمحفوظ في إدارة
الجامعة و اسمه أحمد عاكف و قد شكره بعد قراءته للرواية رغم أنه وصفه بالغرور
الكاذب .
و يذكر محفوظ أن أحمد عاكف تم تكليفه بتأسيس إدارة جامعة
الإسكندرية عند إنشائها و كان أول مدير لها هو د . طه حسين و قد كتب عاكف إحدى
الرسائل فأدخل عليها العميد بعض التعديل , فثأر عاكف و دخل عليه كالمجنون مستنكراً
أي تعديل على ما يكتبه فتم نقله فوراً و هكذا حرمه غروره الكاذب من وظيفة السكرتير
لإدارة جامعة الإسكندرية .
تخرج محفوظ في عام
1934
من كلية الآداب قسم الفلسفة و هذا ساعده في الحصول على الوظيفة بوساطة من سكرتير
عام الجامعة المصرية الذي تسبب في فصل د. طه حسين من الجامعة و يعترف محفوظ بأن
الوظيفة أعطته مادة إنسانية عظيمة و أمدته بنماذج بشرية لها أكثر من أثر في كتاباته
لكن الوظيفة نفسها كنظام حياة و طريقة لكسب الرزق كان لها أثر ضار فقد أخذت نصف
يومه لمدة 37
سنة .
_ حياته الوظيفية الواقعية
أعطت الوظيفة نجيب محفوظ فكرة جيدة عن النظام و البيروقراطية و
عرفته بنماذج بشرية فكانت مصادره الإبداعية الوظيفية و كذلك المقهى والحارة , و هو
يعتني في رواياته بالجزء المادي و يعطيه حقه الواقعي و ربما بسبب هذا حدثت مشكلة
رواية " أولاد حارتنا " و لو كان معنياً بالرمز وحده لكان غير من رسم شخصياتها إلى
شخصيات نظيفة في المظهر بدلاً من هؤلاء الصعاليك و الفتوات .
و أمده عمله في السينما بنماذج من ممثلين وممثلات و مخرجين
ومنتجين اختلط بهم , ووجد أن الأخلاق العامة واحدة و متقاربة لكن اختلاف المهنة
يعطي هذه النماذج ألواناً مختلفة و عندما أصبح ثروة عكاشة وزيراً للثقافة جعل من
محفوظ رئيساً لمؤسسة دعم السينما لحوالي ثلاث سنوات و حين تولى د . عبد القادر حاتم
حقيبة الثقافة خلفا لعكاشة , استبعد محفوظ من غير عمل أو سلطة إلى أن عاد عكاشة
للوزارة مرة ثانية عام 1966
فعمل معه رئيساً لمؤسسة السينما لمدة عامين , لم يكتب خلالهما كلمة وعاش حالة
اكتئاب و يعتبرها أسوء فترة في حياته الوظيفية .
خروجه إلى المعاش
و بعد عدة أزمات أصبح محفوظ مستشاراً لوزير الثقافة حتى خرج
إلى المعاش سنة 1971
مختتماً حياته الوظيفية و كانت أعلى درجة وظيفية حصل عليها هي
رئيس مؤسسة و تساوي درجة نائب وزير و كان أعلى راتب حصل عليه في الوظيفة هو
100
جنيه شهرياً . جوائز حصل عليها
جائزة قوت القلوب
1943
جائزة وزارة المعارف 1944
جائزة مجمع اللغة العربية
1946
جائزة الدولة التشجيعية
1957
وسام الاستحقاق
1968
وسام الجمهورية
1969
جائزة نوبل
1988
جائزة مبارك
الأديب و الروائي العالمي ( نجيب محفوظ ) مصادره الإبداعية :
المقهى و الحارة و الوظيفة
-2-
حياة مديدة عاشها محفوظ تغيرت الدنيا من حوله لكنه ظل محافظاً على إيقاع عام لم يغيره إلا في سنواته الأخيرة عقب محاولة الاغتيال الفاشلة و في كل الأحوال كانت الكتابة خبزاً رئيسياً في هذه المسيرة الحافلة بالإنجازات فكانت أحلام فترة النقاهة هي فعل الكتابة الذي لا ينقطع , قبلها كان قد أنجز عمله غير المسبوق " أصداء السيرة الذاتية " .
يتمتع محفوظ بذاكرة فولاذية فهو لا ينسى أن ميلاده جاء يوم الاثنين 11 ديسمبر 1911 و أنه ولد في " بيت القاضي " بالجمالية و تحديداً في حي الحسين الذي ظل يسكن وجدانه و يشعر بالحنين إليه لدرجة الألم و لم يهدأ هذا الألم إلا بالكتابة عنه عندما اضطرته الظروف لتركه و الانتقال إلى العباسية.
_ من الجمالية للعباسية
محفوظ يتذكر ميلاده في البيت رقم 8 في ميدان القاضي الذي كان يواجه قسم الجمالية و كانت أبواب البيت مفتوحة على الميدان لكنه بعد ثورة 1919 ينتقل إلى حي العباسية ليسكن في البيت رقم 9 شارع رضوان شكري بعد أن انتقلت العائلات الكبيرة إلى هذا الحي و مع ذلك ظل مسكوناً بحي الحسين يتردد عليه من وقت لأخر بصحبة أمه في أغلب الأحيان تلك السيدة الأمية التي كان يعتبرها مخزناً للثقافة الشعبية .
أما الوالد فهو عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا و كان موظفاً حكومياً يمضي وقته بين الصلاة وقراءة القرآن و الجلوس في صمت و كان لديه قدرة كبيرة كما يقول محفوظ في الكتاب الذي أعده رجاء النقاش عن حياته على الجلوس في حالة صمت تام لساعات طويلة و لم يكن من هواة القراءة فالكتاب الوحيد الذي قرأه بعد " القرآن الكريم " هو "حديث عيسى بن هشام "
لأن مؤلفه محمد المويلحي كان صديقا ًله و يسكن في نفس المنطقة .
يقول محفوظ" كانت شخصية والدي تتحلى بقدر كبير من التسامح و المرونة و الديمقراطية و ليس فيه استبداد أو عنف و لا علاقة له بشخصية " السيد أحمد عبد الجواد " " بطل ثلاثية "بل كانت شخصية سي السيد تنطبق أكثر على جار لنا شامي الأصل اسمه عم بشير استقر هو وزوجته في مصر و كان بيته مواجها لبيتنا في " بيت القاضي " . هذا الرجل رغم طيبته كان جباراً و كان يعامل زوجته بقسوة لدرجة أنها كانت تأتي إلى والدتي باستمرار تبثها الشكوى من سوء معاملة الزوج و في ليالي القمر كانت تجلس مع أمي فوق السطح و تطلب مني الغناء فألاحظ الدموع على خديها " .
_ صراع نفسي
في سنوات دراسته الابتدائية قرأ محفوظ لكبار الأدباء في ذلك الوقت و حاول تقليد أسلوب المنفلوطي كما حاول كتابة قصة حياته على غرار " الأيام " لطه حسين و أسماها " الأعوام " و كان عام 1936حاسماً في حياته حيث قرر احتراف كتابة القصة بعد أن مر بصراع نفسي رهيب في المفاضلة بين الفلسفة و الأدب و كانت الرواية هي الفن الذي وجد نفسه فيه و بتأثير قراءاته في التاريخ الفرعوني . أراد أن يكتب تاريخ مصر كاملاً من خلال الأعمال الروائية و هو المشروع الذي توقف بعد ثلاث روايات رادوبيس . كفاح طيبة عبث الأقدار .
و عندما بدأت قراءته تتسع في الأدب الحديث قلت حماسته للكتابة التاريخية بعد أن أدرك أن الرواية يمكن أن يكون لها دور مؤثر في معالجة قضايا المجتمع و التعبير عن هموم الناس و مشاكلهم و من هنا اتجه إلى الرواية الواقعية و استغرقته الواقعية فترة طويلة حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952 عندئذ فوجئ بواقع جديد و قضايا جديدة و نوع من التفكير طرأ على المجتمع يختلف عما كان سائداً من قبل هذه التغيرات أدخلت عليه حالة من التأمل و التفكير استمرت خمس سنوات لم يكتب خلالها أي عمل أدبي و كان العمل الأول الذي كتبه بعد انقطاع هو " أولاد حارتنا "
الشعر و الصوفية
يرى محفوظ أن الشعر هو روح الأدب و قد ضمّن عدداً كبيراً من رواياته لغة شعرية كانت تصل في بعض الأحيان إلى لغة صوفية كما في رواية " اللص و الكلاب " بل أن هناك رواية أدخل فيها الشعر بشكل مباشر و هي " الحرافيش " حيث استعان بنصوص كاملة من ديوان حافظ الشيرازي ز وقد و ضعها بنصها الفارسي و هو يعتبر نفسه أحد محيي الشعر و متذوقيه و كان له تجربة في كتابته و كما يقول " لو كان عندي ملكة الحفظ لاستمرت التجربة لأن الشاعر لابد أن يتمتع بهذه الصفة التي لا غنى عنها ".
و هناك تجربة مهمة في حياة نجيب محفوظ لا بد من التعرض لها و خاصة بعلاقته بالسينما ففي العام 1947 طلب المخرج صلاح أبو سيف أن يلتقي به و كان بعد لفيلم " عنتر و عبلة " . و عمله كيفية كتابة السيناريو و استطاع محفوظ إنجاز ما طلبه أبو سيف .
و مابين عام 1952 و 1957 سجل محفوظ اسمه في نقابة المهن التمثيلية كسينايست محترف و توالت أعماله السينمائية " ريا و سكينة " , " الوحش " . و " احنا التلامذة " و لم يلتفت أحد إلى رواياته إلا عندما قام أحمد عباس صالح بتحويل رواية " بداية و نهاية " إلى مسلسل إذاعي في " صوت العرب " و تصادف أن تابع المسلسل المنتج و المصور عبد الحليم , فريد فاشترى الرواية لاستغلالها سينمائياً و عندما اختاره الدكتور ثروت عكاشة مديراً عاماً للرقابة على المصنفات , اعتزل كتابة السيناريو و انقطعت صلته بالمنتجين و لم يعد يبيع لهم أي قصص إغلاقاً لباب المجاملات لكن قبوله لمنصب مدير عام الرقابة رسم على وجه الكثيرين من أصدقائه و قرائه علامات استفهام كبيرة فكيف يكون داعياً للحرية و ينادي بها و يتخذ من الديمقراطية شعاراً ثابتاً له ثم يرضى أن يكون رقيباً على الفن و يحد من حرية الفنانين .
_ محفوظ بكل اللغات
عام 1978 بدأت الجامعة الأمريكية في ترجمة أعمال محفوظ و أصبحت و كيلاً لنشر أعماله المترجمة عام 1985 و نشرت أكثر من 400 طبعة من أعماله المترجمة و التي بلغت 23 عملاً .
بيع من أعماله المترجمة و فق مسئولي النشر في الجامعة أكثر من مليون نسخة في أنحاء العالم .
ترجمت أعماله إلى 17 لغة و " اللص و الكلاب " إلى لغة و " ميرامارا " إلى 10 لغات غير الإنجليزية .
الأديب والروائي العالمي ( نجيب محفوظ ) و مفهومه (للرقابة والسياسة),
علاقته بالتيارات الدينية و جريمة الاعتداء عليه
-3-
رحل الأديب و الروائي العالمي " نجيب محفوظ " مدثراً بعلم مصر و حب الملايين له و ظل خالداً عبر التاريخ في الذاكرة و الوجدان .
قصته مع " سلامة موسى "
عرف محفوظ سلامة موسى عن طريق متابعته لمجلته " المجلة الجديدة " عندما كان تلميذا في المرحلة الثانوية , وكان يرسل إليه مقالات عن طريق البريد فينشرها له و وكانت عبارة عن مقالات فلسفية و ملخصات لأعمال إبداعية لكبار الأدباء الغربيين بالإضافة إلى أولى كتاباته في القصة القصيرة .
وذات مرة ذهب إلى مقر المجلة ليسلم أعماله مباشرة إلى سلامة موسى الذي اندهش لأنه كان يظن أن محفوظ أكبر من مجرد تلميذ في المرحلة الثانوية و قد أصدر أول طبعة من روايته " عبث الأقدار " عن دار المجلة الجديدة التي يمتلكها سلامة موسى و كان أجره 500 نسخة بعدها طبع له سلامة موسى كتابه النادر " مصر القديمة " ثم " زقاق المدق " و معها بدأ اسم محفوظ في الانتشار و استمرت علاقته بسلامة موسى الذي لم يكتب عنه سوى مقال واحد عن رواية " بين القصرين " عام 1957 في جريدة " الأخبار ". و لم يحضر ندوة محفوظ في كازينو الأوبرا إلا مرة واحدة .
_ هيكل و بهاء الدين رفضا نشر " المرايا " و " الحب تحت المطر "
تتوالى المشكلات فقد رفض هيكل نشر رواية " المرايا " كما رفض أحمد بهاء الدين عندما كان رئيساً لتحرير الأهرام
نشر " الحب تحت المطر " . و عندما تحولت " ميرامار" إلى فيلم اعترض عدد من أعضاء الاتحاد الاشتراكي على الفيلم و قالوا أنه يتضمن هجوماً على النظام رغم أن الرواية نشرت كاملة دون حذف إلى أن كلف عبد الناصر السادات بمشاهدة الفيلم فوافق على عرضه و كانت أصعب مواجهات محفوظ مع السلطة هو ما حدث في بدايات عصر السادات حين صدر البيان الشهير الذي كتبه توفيق الحكيم ووقع عليه عدد كبير من الأدباء و كان يرفض حالة اللاسلم و اللاحرب فأصدر السادات قرار اً بعزل الموقعين على البيان و منعهم من الكتابة فتوقف الأهرام عن نشر أعماله و منع من الحديث في الإذاعة و التلفزيون كما منع عرض أفلامه .
_ مفهوم الرقابة
هنا ينبغي أن نقف على وجهة نظر محفوظ في هذا الإطار , فالرقابة كما يفهمها لا تتعرض للفن أو قيمته و وظيفتها هي أن تحمي سياسة الدولة و تمنع دخول في مشاكل دينية قد تؤدي إلى الفتنة الطائفية ثم المحافظة على الآداب العامة و قيم المجتمع وتقاليده في حدود المعقول و فيما عدا ذلك يحق للفنان أن يقول ما يشاء و يعبر عن نفسه بالأسلوب الذي يراه مناسباً . وطبقاً لهذه الأفكار حاول محفوظ أن يقاوم سعي البعض لأن تمتد الرقابة إلى الفن و تتدخل في مضمونه و طوال الفترة التي أمضاها في الرقابة كان منحازاً للفن رغم أن الأجواء داخل الرقابة كانت تحمل روح العداء للفن و كانت طبقة الرقابة لدى البعض سبيلاً للرشوة و الفساد . وخلال عمله بالرقابة رفض قراراً بمنع أغنية " مصطفى يا مصطفى أنا بحبك يا مصطفى . سبع سنين في العطارين " و كانت أسباب الرفض لدى مراقب الأغنية أن المؤلف يقصد " مصطفى النحاس " و أن " سبع سنين " الواردة في الأغنية تشير إلى مرور سبع سنوات على قيام ثورة يوليو2 195.
لكن محفوظ رأى حذف بعض الأغاني التي كانت تؤديها الفنانة صباح في أحد الأفلام لأنها تبعاً لوجهة نظرة كانت تؤديها بطريقة مثيرة و في كل الأحوال ظل محفوظ في موقعه إلى أن خرج من الرقابة نتيجة أزمة رواية " أولاد حارتنا " التي كانت تنشر مسلسلة في ذلك الوقت حيث أن وزير الاقتصاد آنذاك حسن عباس زكي هاجم ثروت عكاشة لأنه أسند مهمة الرقابة لرجل " متهم في عقيدته الدينية " .
السياسة و الزواج
تظل علاقة نجيب محفوظ بالسلطة ملتبسة على الدوام فمن أجل الأدب ابتعد عن العمل السياسي فلم ينضم إلى أي حزب أو تنظيم سياسي لا قبل الثورة أو بعدها , رغم أنه كان من أنصار حزب الوفد و في كل انتخابات كان يدلي بصوته لصالح الوفد و لم تكن وفديته تابعة من تأثره بأسرته بل كان مصدرها الشارع فقد تفتحت مداركه على مظاهرات ثورة 1919 و رأى الشباب يسقطون برصاص الإنجليز و يهتفون لسعد زغلول .
و عندما تزوج في العام 1954 توقع العديدون أن تتراجع جرأته في تناول قضايا المجتمع لكن توقعاتهم خابت فازدادت كتاباته عنفا و جرأة و كان قد أعلن تأييده وقتها لكثير من قرارات ثورة يوليو و كانت انتقاداته لها من باب الديمقراطية و مع ذلك كان يتعرض لبعض المشاكل فقد نشر محفوظ قصة قصيرة في الأهرام بعنوان " سائق القطار" و تدور حول سائق قطار يفقد صوابه و يتسبب في حادث تصادم مروع و كان تفسير البعض أنه يقصد عبد الناصر , ولم ينقده إلا مقال لمحمد فريد أبو حديد يفسر الصراع في القصة بأنه بين الشرق والغرب .
و كانت الأزمة الثانية عندما أصدر " ثرثرة فوق النيل " فبعد نشرها ثار المشير عبد الحكيم عامر و هدد و توعد بإنزال العقاب بمحفوظ و استدعى عبد الناصر ثروت عكاشة و سأله عن الرواية فقال له أنه من الضروري أن يتوافر للأدب قدر من الحرية لينقل صورة واقعية حقيقية عن المجتمع و إذا لم يجد الأدب هذا القدر من الحرية مات واضمحل تأثيره .
_ خلاف مع" سيد قطب"
بعيداً عن أزمة رواية " أولاد حارتنا " التي جعلت محفوظ منهما في عقيدته عند العض فإن أول من التفت إلى أعماله و كتب عنها هو سيد قطب و كان ذلك في الأربعينات و تعرف عليه حيث كان يذهب بانتظام إلى كازينو " أوبرا " و كانت العلاقة بينهما أدبية لا إنسانية .
و كان محفوظ يعتبر " قطب " من رواد الاستنارة و الفكر الجريء المتحرر لكن آخر لقاء بينهما عندما ذهب محفوظ لزيارته في بيته في حلوان عقب خروجه من السجن بعفو صحي لمس مدى التغيير الكبير الذي طرأ على شخصيته و أفكاره , كان أمام إنسان آخر " حاد الفكر متطرف الرأي , يرى أن المجتمع عاد إلى الجاهلية الأولى , و أنه مجتمع كافر لابد من تقويمه بتطبيق شرع الله انطلاقاً من فكرة الحاكمية " .
و رغم الخلاف الفكري بينهما إلا أن محفوظ أصابته الصدمة عندما نفذ حكم الإعدام في سيد قطب و لتأثره بشخصيته كتب عنه مع إجراء بعض التعديلات البسيطة في روايته " المرايا " .
_ تهمة الارتداد
ظلت باستمرار علاقة محفوظ بالتيارات الدينية متوترة فعندما أصدر سلمان رشدي روايته " آيات شيطانية " كانت فتوى الإمام الخميني بإهدار دمه , فاتصل الإعلاميون بمحفوظ لمعرفة رأيه في القضية و لم يكن قرأ الرواية لكنه أجاب الإعلاميين بأن سؤالكم لا يكون ما رأيك في آيات شيطانية ؟
و لكن ما رأيك في رئيس دولة يهدر دم كاتب في دولة أخرى لأنه أبدى رأياً مخالفاً في عقيدة مشتركة و قرأ محفوظ رأي أحمد بهاء الدين في الرواية و عرف أن بها تجديفاً و شطحات فكان رأيه الجديد أن " ما كتبه رشدي يدخل تحت بند السب و القذف و عليه أن يتوب " و استغل بعض الكتاب ومنهم فهمي هويدي رأي محفوظ الأول الذي قاله في القضية و هاجموه و لم يشفع له رأيه الأخير في الرواية , بل أن بعض الصحف المتطرفة ربط بين رشدي و محفوظ و حمل بعضها تهديداً صريحاً و وصلت الكارثة إلى نهايتها حين أفتى عمر عبد الرحمن في إحدى خطب الجمعة بارتداد محفوظ كما أدلى بحوارات صحافية في هذا الاتجاه .
لم يكن هذا كله سوى مقدمات لجريمة الاعتداء الآثمة التي وقعت يوم الجمعة 14 أكتوبر 1994 . حين باغته أحد المتطرفين و هو يستعد لركوب السيارة متجهاً إلى ندوته الأسبوعية و طعنه في رقبته محدثاً جرحاً غائرا ًو لاذ بالفرار إلى أن تم القبض عليه و على المجموعة المشاركة في الجريمة .