الشيخ بدر الدين الحسني

عبد الله الطنطاوي

محدّث الديار الشامية

عبد الله الطنطاوي

[email protected]

تمهيد:

ثمة رجال يموت ذكرهم، وتندثر أسماؤهم وتُمحى، بمجرد موتهم، فكأنهم كانوا عابري سبيل في هذه الحياة، لم يتركوا وراءهم أثراً يدلّ على عبورهم هذه الدنيا، مهما طالت أعمارهم.

وهناك رجال يكونون ملء سمع الدهر، لا يمرّ يوم من أيامهم، من دون أن يخلّف أثراً حميداً ينضاف إلى آثار حميدة أخرى، تخلّد ذكر صاحبها في هذه الحياة.

ومن هذا النمط الرائع من الرجال، علاّمة الشام، ومحدّثها الأكبر، الشيخ بدر الدين الحسني الذي نقدم جوانب من حياته الحافلة بالعلم والصلاح والسلوك الإسلامي المثالي الذي بلغ به منزلة لم ينلها أحد في عصره، فكان أكبر حاكم في البلاد منذ أيام الأتراك حتى يوم وفاته، وأشدّهم جبروتاً وطغياناً يأتي إليه، ويجثو أمامه على ركبتيه، في غرفته المتواضعة في دار الحديث بدمشق، في هيبة دونها أيّ هيبة.

وقد اشتهر في بلاد الشام كلها وهو ما يزال فتى صغيراً، فتحدث الناس عن عالم مغربي شاب، لا نظير له في الورع، وفي تبحره في علم الحديث.

ولهذه الشهرة ظن بعض الناس أنه بلغ المئة من السنين، بينما هو لم يتجاوز السابعة والثمانين، فطال عمره بأيام الصبا، حتى طبّق الخافقين ذكره وشهرته، ولمع اسمه في بداية القرن الرابع عشر الهجري لمعاناً طغى على كل شهرة، فقصده كبار العلماء في عصره ومصره وغير مصره، من أرض الكنانة، ومن البلاد الشامية، والتركية، والعربية، والأجنبية من مسلمين وغير مسلمين، وسارت بعلمه، وفضله، وشهرته، وجميل أخلاقه وأفعاله الركبان.

الميلاد والنشأة:

ولد الشيخ بدر الدين محمد بن الشيخ يوسف المغربي المراكشي في دمشق عام 1267 هـ-1851م وهو من أصل مغربي، من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وكان أحد أجداده قد انتقل إلى مصر، وفي قرية بيبان من محافظة البحيرة بمصر، ولد أبوه الشيخ يوسف، ثم رحل إلى تونس، وتعلم في جامع الزيتونة، ثم عاد إلى الشرق، وأقام في دمشق، واشتهر بالمغربي، وكان الشيخ يوسف من كبار علماء دمشق، وقد نشأ الفتى بدر الدين في أحضان ذلك العالم العامل العابد، على العلم والتقى والصلاح والسلوك المستقيم، حتى كان لنا منه ذلك العالم الرباني، خاتمة المحققين، وأعظم المحدّثين في عصره وإلى يوم الناس هذا.

عاش ثمانين عاماً للعلم وبالعلم، وللناس، والأمة، حتى صار المرجع في كل فن، وفي كل أمر خاص أو عام، فقد كان عجيباً في علمه، وإحاطته، واستقامة ذاكرته التي لم تؤثر فيها الأيام، وصار فهرساً حيّاً لكل مخطوط ومطبوع من الكتب، لا يشغله شيء عن القراءة، إلا أن يكون نائماً، أو في صلاة، أو درس، ما فارق الكتب، وما أحبّ من دنياه سواها.

صفته:

" كان ربعة، نحيلاً، أشقر الشعر، أصلع الجبهة، قليل شعر الوجه، خفيف العارضين، مستدير الوجه، في جبهته ارتفاع من أثر السجود، أزرق العينين، فيهما حدّة، وفي وجهه نور، وعليه سيماء المهابة والنجابة، أبيض البشرة، لينّها، حتى قيل في يديه: إنهما كالحرير ليناً، والفضة بياضاً.

وكان قوي البنية، لم يشكُ مرضاً سوى مرة واحدة في شبابه، أصابه فيها اليرقان، ومرة أخرى قبيل وفاته، ولم يستعمل نظارة، وبقي جهوري الصوت، خفيف المشية، لم يستعمل في مشيه عصا، إذا التفت التفت جميعاً.

يلبس من الثياب الجّيد النظيف، ولا يلبس الذي يميّزه عن غيره. يلبس ثوباً قطنياً أبيض مشقوق الوسط، معلَّماً بخطوط زرق من النوع الذي يسميه الدمشقيون (الصايا) أو (الديما) يتركه مفتوحاً ولا يزرّه عند الرقبة، ليضع فيه منديلاً، ويشّد عليه في وسطه نطاقاً عريضاً من الشال الخفيف العادي، وعلى الثوب جبّة من الجوخ الأسود الجيّد، وكلاهما لا يتجاوز نصف ساقه، اتباعاً للسنّة الشريفة، ويتعمّم بعمامة كبيرة صفراء مطرّزة تُعرف في الشام بـ(الأغباني) يكوّرها فوق طربوش بدون تكلف.

ويلبس جوربين سميكين أبيضين، وبابوجاً أصفر، تزينه نظافة واضحة.

طبائعه وأخلاقه:

كان للشيخ في سائر أحواله طبائع وأوضاع خاصة لا يتخلّى عنها؛ فهو منظم؛ ينظّم عمله، ويرتب أوقاته، فلا يغيّر منها شيئاً، ولا يقدّم ولا يؤخّر، فكان من الممكن معرفة الوقت الذي يمّر به من الطريق الفلاني، والوقت الذي ينزل فيه من غرفته في أثناء النهار. وهكذا سائر أوقاته.

كان يؤثر الصمت، فإذا تكلم أوجز، فهو لا يحبّ كثرة الكلام، ولا الثرثرة، ولا التشدّق، لأن في ذلك إضاعة للوقت في غير فائدة، وهو حريص جداً على الوقت الذي هو الحياة.

وما كان الشيخ يحب التكلف والتصنع في أي أمر من الأمور، ولا قصّ القصص الفارغة، وسرد الأخبار التافهة، والحوادث اليومية التي تجري مع سائر الناس.

 وكان يحبّ من الناس الذكي السريع الفهم، ويضيق بالغبي والبليد، ولا يتحملهما؛ يحرص على تقديم ما يفيد الناس، واستغلال ساعات العمر ولحظات الحياة، وتقسيم الأوقات، وتخصيص كل قسم لعمل مفيد، وكان يراقب نفسه، ويحاسبها على خواطرها وهواجسها، وملاحظة كل خطوة تخطوها، وكل كلمة تفوه بها، وكل سطر تخطّه.

كان حادّ الذكاء، متوقد الذهن، قويّ الذاكرة، يتذكر بسهولة جميع ما مرّ به من حوادث، وبقي هكذا إلى أن لقي ربّه راضياً مرضياً إن شاء الله.

وكان صادقاً، صريحاً، جريئاً في الحق، لا يعرف المداهنة والملق والغيبة والنميمة والكذب وسواها من الأمراض التي تخدش الدين والمروءة، دائم الصمت والتفكير، ولا يسمح في مجلسه بغيبة أو نميمة، وإذا غضب قال في ألم: "لا حول ولا قوة إلا بالله يابا" و(يابا) هي الكلمة التي تدور على لسانه في الرضا والغضب.

وكان تقياً، شديد الورع، لا يفتي أحداً بحكم فقهي في المعاملات الخاصة إلا في حالات خاصة، ويحيل سائليه إلى أحد تلاميذه.

وكان متواضعاً، لا يرى لنفسه فضلاً على أحد في علم أو خلق، وكان يقول: "التواضع أن ترى نفسك دون كل جليس" ومن شدّة تواضعه، أنه كان لا يصلي إماماً بأحد، ويأتمّ بتلاميذه، ولا يتصدر في المجالس، بل كان يجلس حيث ينتهي به المجلس، وكثيراً ما كان يجلس قرب باب الغرفة. وكان يقول: "أقرب أبواب الوصول إلى الله: التواضع"و "من رأى نفسه خيراً من أحد، فليس بمتخّلص من الكِبْر" ولهذا لم يكن يمكّن أحداً من تقبيل يده، رغم حرص تلاميذه على تقبيلها.

وكان يمنع الناس من القيام له، ولا هو يقوم لأحد إلا نادراً، كأن يكون القادم عليه من آل البيت، أو من ذوي الفضل في الدين.

ولا يمكّن أحداً من خدمته، ولم يستعن طوال حياته بأحد، ولا بعصا.

يأخذ نفسه بالعزائم، فلم يمسح على الخفين قط، وكان يكسر الجليد الذي يغطّي بركة داره، ويتوضأ من مائه، ويبالغ في وضوئه.

وكان زاهداً في هذه الدنيا التي أقبلت عليه فعافها وانصرف عنها إلى ما يصلح به آخرته، فقد ترك له أبـوه ثروة تمكنّه من حياة الرفـاه، فزهد بها، كما زهد بالجاه والمنصب والوظيفة الرفيعة.

وكان يتحرج من قبول الهدية، وكان يكافئ عليها بما هو أكبر منها.

وكان كريماً جداً، يكرم ضيوفه ويبالغ في إكرامهم، ولا يسأله أحد شيئاً إلا أعطاه، وإذا أحسّ بأحد حاجة ولم يذكرها، انفرد به وأعطاه، وكانت له صدقات مستورة لا يعلمها إلا بعض تلاميذه الذين يستخدمهم في إيصالها إلى مستحقيها.

وكان مع أهله كما قال الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله) يرشدهم برفق ولين، ويأكل مما يشتهون، ويوسّع عليهم، ويلبّي رغباتهم، وإذا غضب لشيء قطّب جبينه، وبيّن رأي الشرع في ذلك الأمر، دون ضرب أو شتم، أو صياح، يصل الأرحام، والأصدقاء والمعارف، وربمّا زار غير المسلمين، ويتودّد للناس، ويهتم بأمورهم، ويحاول إدخال السرور إلى قلوبهم، والتخفيف من أعباء الحياة عن كواهلهم، بالكلمة الطيبة، والنصح والإرشاد.

وكان يتودّد إلى الشباب خاصة.

وكان طيّب السريرة، حسن الظنّ بالناس، ويلتمس لهم الأعذار، ويبش لهم، ويرحّب بهم، ويبدؤهم بالسلام، وابتسامته الودود لا تفارق محيّاه المشرق بالأنس.

كان يصوم الدهر ولا يفطر إلا في الأيام التي يحرم صيامها.

وكان يكثر من الصلاة، ومن الذكر، ومن الصلاة عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان يجمع بين العلم والذكر، يتقرب بهما إلى الله تعالى.

وكان يلازم صلاة الضحى، فما تركها في سفر أو حضر، ولا في يوم وفاته، فقد توفي بعد أدائها بنحو ساعة.

وبكلمة: كان عالماً عاملاً ربانياً، ومن سادة العلماء العبّاد على الزمان.

من أبرز صفاته: اهتمامه بالفقراء والمحتاجين، والعمل لرفع الظلم عنهم، وإنصافهم.. هو يقّدم لهم، ولا يأخذ منهم، وشتان بين من يثري على حسابهم، ومن يعطيهم عطاء من لا يخشى الفقر.

وهكذا ينبغي أن يكون الدعاة، إذا أرادوا أن يكونوا ذوي أثر في حياة الجماهير..

كان يضع أكياس السكر والرز بجانب الباب، ليأخذ المحتاج منها ما يشاء..

كان يزور الفقراء والمساكين والمساجين، يباسطهم، ويأنس بلقائهم، ويطلب منهم الدعاء، وينصحهم، ويزور دور الأيتام، ويمسح رؤوسهم، ويطلب منهم أن يدعوا له، ويقدّم لهم الهدايا في الأعياد.

علمه:

إذا عرفنا دار الحديث الأشرفية بدمشق التي تخرّج فيها كبار العلماء. كابن الصلاح، وأبي شامة، والنووي، والحافظ المزي، والسبكي، وابن حجر، هؤلاء العلماء الذين عمروها بالعبادة والذكر والعلم، ثم عرفنا أن الشيخ بدر الدين تخرج في هذا الصرح العلمي المؤثل، يزول العجب مما وصل إليه علم هذا العالم الرباني الذي كان خير خلف لهم، فقد حفظ القرآن الكريم وهو في السابعة. وطائفة كبيرة من المتون في شتى العلوم الشرعية والعربية بلغت عشرين ألف بيت، ثم درس تلك العلوم دراسة تحقيق وتدقيق على والده العلامة الشيخ يوسف، وعلى علماء دمشق، وخاصة العلامة الشيخ أبا الخير الخطيب.

وبعد أن نال حظاً وافراً من تلك العلوم الإسلامية، انجذب بنور قذفه الله في قلبه إلى علم الحديث، فتبحّر فيه، حتى غدا منقطع النظير في حفظ الكثير الكثير منه، بسنده ومتنه، وفي تعدد طرقه ورواياته، وقد حبّب هذا العزلة إلى نفسه، ليخلو إلى الحبيب: علم الحديث، يقضي الليالي معه في غرفته بدار الحديث، التي ما كان يغادرها إلا للنوم، وكان نومه قليلاً.. كان يقرأ، فإذا غلبه النعاس اتكأ برأسه على وسائد، فأغفى ساعتين أو ثلاثاً من الليل، ثم يهبّ إلى وضوئه، ليتهجّد ما شاء الله له أن يتهجد، ثم يجلس إلى كتب الحديث، حتى حفظ الصحيحين بأسانيدهما، وطائفة كبيرة من كتب الأسانيد والسنن.

كان الشيخ مولعاً بالمطالعة منذ كان فتى، وشدّة حبّه للمطالعة جعلته يعتزل الناس، ويؤثر الكتاب على الاختلاط بهم، ينكبّ عليه، ويلتهم ما فيه من ثمرات العقول، يجالسه ويناجيه ويضمّه إلى صدره، فإذا اضطر إلى زيارة ما، اختصرها في بضع دقائق، وربما قضى الزيارة دون أن يجلس، وإذا تكلم أوجز، وربما تكلم بنصف كلمة، وأكملها بإشارة، لأنه يؤثر الصمت على الكلام إلا مضطراً.

وكان معلّم نفسه وأستاذها، يخلو إليها وإلى الكتب الكبيرة، يطالعها، ويفكر فيما يقرأ، ويتأمل، ويحفظ، وقد أوتي ذاكرة عجيبة ساعدته في حفظ الكثير من كتب الحديث والمتون وسواها مما تقع عليه عيناه، وتطوله يده.

وكان غرامة باقتناء الكتب المطبوعة والمخطوطة لا يضاهيه إلا غرامه بالصيني.

وكان يشتري الكتب النادرة بأثمان باهظة، حتى بلغ به الأمر أن يشتري كتاباً بخمس مئة دينار ذهبي. كان الكتاب جليسه، وأنيسه، وحبيبه، وصاحبه الأثير، وصديقه الصدوق.

وكانت مطالعاته موزعة بين العلوم الشرعية، والعلوم العربية، والرياضيات، والكيمياء وسواها من العلوم العصرية التي جعلت مكتبة في صدره ورأسه، كما تحتوي الأقراص المضغوطة الآن آلاف الكتب والمجلدات الضخمة، أو كما وصفه العلامة محمد رشيد رضا بأنه دائرة معارف.

مكتبة منقطعة النظير، بما تحويه من علوم ومعارف قلما تجتمع لرجلٍ.

وكان لديه كتب نفسية، مخطوطة ومطبوعة، في الحساب، والهندسة، والجبر، وكتبٌ مترجمة، مما يندر وجودها لدى غيره من العلماء، وفي المكتبات.

تآليفه:

في هذه الخلوة مع نفسه، والتي امتدت سبع سنين، بين الثالثة عشرة والعشرين من عمره المديد المبارك، ألّف كتبه ورسائله، وكتب حواشيه، وقد زادت على أربعين.

من فتاواه:

سئل الشيخ عن الدعوة إلى الإسلام في البلاد الأوربية، فأجاب مستغرباً هذا السؤال، وكأنه لا يحتاج إلى جواب، لوضوحه وبديهته. قال:

- هذا فرض على المسلمين. وإنما شُرع الجهاد لهذا الغرض.

وسئل عن حكم تعلم اللغات الأجنبية، فأجاب:

- تعلُّم اللغات الأجنبية يكون فرضاً، لأجل الترجمة، ونصيحة العباد، بتعليمهم ما ينفعهم.

ثم أيّد فتواه من الحديث النبوي، مما يحفظه من صحيح البخاري وغيره، وأكّد لزوم الترجمان في القضاء، إذا لم يعرف الحاكم لغة أحد الخصمين، وذكر حكم الأئمة الأربعة في الاكتفاء بترجمان واحد لأجل الترجمة، أو لزوم ترجمانين اثنين لذلك، باعتباره شاهداً.

وكان يرى ضرورة السفر إلى أوربا لتحصيل العلم النافع الذي يحتاج إليه المسلمون، ويشجّع على السفر.

كما كان يرى وجوب الاطلاع على العلوم الحديثة التي يستفيد منها المسلمون، فقد سبقنا الأوربيون وتفّوقوا علينا فيها، ووجب علينا تحصيلها.

تدريسه:

كان يدرّس في دار الحديث، العلوم الرياضية على اختلاف فروعها، مثل عمليات الحساب، ونظريات الهندسة المسطحة والمجسّمة (الفراغيّة) ومعادلات الجبر، كما كان يدرّس الحديث، والتفسير وغيرهما من العلوم الشرعية والعربية، وكان يضع إلى جانب المجلدات الضخمة، عدداً من الأشكال الهندسية، كالكرة, والأسطوانة، والمخروط، والموشور، وسواها من الأدوات.

كما كان يدرّس الكيمياء، ويعدّ فيها بعض المباحث، وفي تجارب الطبيعة، وكان يتمتع بمرونة علمية غريبة في هذا الموضوع.

أما طرائقه في التعليم، فكانت على ثلاثة أشكال، ولكل شكل مكانه:

الأول: يبدأ من بعد طلوع الشمس إلى ما بعد صلاة العصر. كان فيها يقرأ الطالب في الكتاب الذي يدّرسه، وقد يقرأ الشيخ نفسه، وكلما انتهى من قراءة مسألة، عاد إليها الشيخ شارحاً، وموضّحاً، ومقرراً، وحالاً لمشكلاتها، ويناقش الطلاب فيها، حتى إذا انتهى الوقت، أشار الشيخ إليهم لينصرفوا.

ومكان هذا الدرس، غرفته في دار الحديث، وكان الطلاب يؤمونها، فكان يجتمع في الدرس الطالب والطالبان والعشرة، ولا تخرج مجموعة إلا وتدخل مجموعة أخرى.

الشكل الثاني: هو درسه في المسجد الأموي تحت قبة النسر كل يوم جمعة، من بعد صلاة الجمعة إلى العصر. وهذا الدرس آية الآيات، وأعجوبة الأعاجيب في تنوع موضوعاته، وتشعّب أغراضه، وتسلسل أحاديثه، وغزارة مادته، وجليل فوائده، على حدّ وصف الأستاذ محمد المبارك الذي كان يحضره، كان الشيخ يستفتحه بحديث يسرده بسنده ومتنه، ثم يشرحه، ويبين مرماه وهدفه وما يستنبط منه من الأحكام، وما يتصل به من شتَّى الموضوعات، مستنداً في كل ما يورده من المعاني والأفكار والأحكام، إلى الأحاديث التي يعزوها إلى مراجعها، مع ذكر سندها، ورواتها، وهو في كل ذلك، لا يعتمد على ورقة أو كتاب، مع فصاحة وبلاغة وحسن بيان، فقد كان جهوري الصوت، يملأ صوته فضاء الأموي، وتتردد أصداؤه في جنباته، فيسمعه ويعيه سائر مستمعيه.

ودرسُه هذا، مع تشعّب موضوعاته، وكثرة استطراداته، مرتبط الأجزاء، متسلسل الأفكار، تربطه وحدة في الموضوع، بحيث لو جُمع لخرجت منه عدّة أبحاث طلية متسلسلة.

وأعجب ما يتجلى في هذا الدرس، الذاكرة العجيبة التي حباها الله إياه.

وكان الشيخ يختار موضوعات هذا الدرس الأعجوبة، مما له علاقة بأحوال الناس، ومما يشغل بالهم، وتهمّهم معرفته، أو أنه كان يرى وجوب تنبيههم إليه.

وكان الشيخ، في هذا الدرس، يرتفع عن مستوى العوام، ولكنهم كانوا يفهمونه ويستوعبونه، كما يستفيد منه المثقفون والخواص.

الشكل الثالث: يكون في داره الواسعة التي تُفتح لقاصدي درسه من بعد صلاة المغرب، فيدخلها من شاء، ليجلس أنّى شاء، ثم يأتي الشيخ ويجلس إلى جانب الباب، ولا يسمح بقيام أحد لمجيئه، ثم يأمر المعيد بالقراءة، فيقرأ إلى أن يشير إليه الشيخ بالتوقّف، أو تشكل على أحد مشكلة، فيقف ليسمعوا جميعاً حلّ الإشكال، بإيجاز أو إسهاب، وربما أفاض الشيخ في الكلام، وقد تُوجَّه إليه أسئلة كثيرة، فيجيب عليها، وربما أعرض عن بعضها، وخاصة إذا كان خارج الموضوع الذي هو فيه، وربما أجاب بقوله: لا أعلم، وهذا الجواب من أعظم ميزاتـه، ودليل على تواضعه وصراحته.

غرفته:

كانت الغرفة التي يجلس فيها الشيخ، ويستقبل فيها طلابه وبسطاء الناس، وكبار زواره من الولاة والقادة الأتراك المرعبين، كناظم باشا، وجمال باشا (السفاح) ومن الأمراء والملوك، كالملك فيصل الأول، ملك سورية، ومن الحكام والجنرالات الفرنسيين المحتلين، من أمثال غورو، وويفان وساراي، وجونفيل، ومن أمثال مندوب البابا في الفاتيكان، وسواهم من كبار الكتّاب، والصحفيين، والشعراء، والعلماء، وطلبة العلم، والوجهاء..

كانت تلك الغرفة صغيرة، ذات رفوف خشبية تكدّست فوقها الكتب العربية والإسلامية..

غرفة صغيرة، ضئيلة النور، مفروشة بالبسط والحصر، وجلود الغنم، وكلها من صنع أبناء دمشق، وسقفها الواطي وقد اصطفت فوقه أعمدة الحور من أشجار غوطة دمشق، وجدرانها بيضاء مصقولة بالجصّ..

رحلاته:

كان الشيخ يؤثر البقاء في دمشق، ولا يغادرها إلا مضطراً.

رحل مرّة إلى مدينة (حمص) سنة 1290هـ بعد خروجه من خلوته فأقبل عليه أهلها إقبالاً شديداً، وقرأ بعضهم عليه.

ورحل إلى مصر، وهو في الخامسة والعشرين والتقى بعض علمائها، كالشيخ الأشموني، رفيق أبيه في طلب العلم، والشيخ إبراهيم السّقا، علامة مصر وشيخ الأزهر، ولعله أخذ علم الحديث عنه واستجازه.

ورحل إلى الحجاز حاجاً ومعتمراً، والتقى بعض علمائه.

مكانته:

احتلّ الشيخ قلوب تلاميذه ومريديه وعارفي علمه وفضله، وعلت مكانته لدى العامة والخاصة من المشايخ والعلماء والوجهاء والحكام في بلاد الشام، حتى إن بعض العامة من أهل دمشق، حين اشتدّ بغي الحكام الأتراك من (الاتحاديين) الظالمين المنحرفين، عرضوا على الشيخ البيعة بالخلافة، والثورة معه على أولئك الظلمة، ولكنّ الشيخ أبى ذلك، وزجرهم.

أمّا عند الحكام، فقد تبوّأ مكاناً عليّاً، وكانت له هيبته في نفوسهم جميعاً.. كانوا يقبلون عليه، وكان زاهداً بهم، لا يسعى إليهم، ولا يرغب في زيارتهم إياه، وإذا دعوه ليكرموه اعتذر وأبى، وكان يكاتب الملوك والأمراء والحكام في سائر الأقطار العربية والإسلامية، يحثّهم على العدل، وإحقاق الحق، ويبين لهم سوء العاقبة بترك الشريعة، واتبّاع الأهواء، والظلم.

دعاه السلطان عبد الحميد لحضور حفلة كبرى تقام في عاصمة الخلافة، وأرسل إليه الصدر الأعظم نائباً عنه ليدعوه، وركب الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) بارجة حربية وجاء إلى بيروت، ومنها إلى دمشق، وذهب بصحبة الوالي إلى غرفة الشيخ ليدعوه، وتلطّف الوالي بالشيخ لقبول الدعوة، ولكنّ الشيخ اعتذر قائلاً للصدر الأعظم والوالي: "يابا ما في إذن" وعاد نائب السلطان خائباً.

وبعد خروج الصدر الأعظم والوالي بساعة، جاء وفد من أهل قرية (الهامة) أرسله رجل صالح يقال له: الشيخ أحمد السوسي، وهو رجل فقير يؤمّ أهل الهامة، ودعا الشيخ إلى الهامة، فلبّى الدعوة فوراً، وخرج مع الوفد.

وتكرر الاعتذار مع السلطان رشاد حين دعاه إلى العاصمة، كما تكرر مع إمبراطور روسيا: القيصر نيقولا.

وكان جمال باشا (السفاح) يهابه، ويحاول استرضاءه، وكان الشيخ يحذره من الظلم ومن التمادي فيه، وعندما أعدم جمال السفاح شهداء أيار، حزن الشيخ حزناً شديداً عليهم، وعافت نفسه الطعام أياماً، وأصيب بحمّى لازمته حوالي أربعين يوماً، وكان إذا صحا سأل من حوله: شنقهم جمال؟ أعدموهم؟ واشتدت عليه الحمَّى حتى خيف على صحته وحياته.

كان يهتم بالمسلمين حيثما كانوا، ويحزن على ما يصيبهم.

وما كان يزور الحكام، وإذا احتاج إليهم في شأن عام، أرسل إليهم رسولاً من تلاميذه، يستقبله الحاكم بالتجلة والاحترام، وينفّذ ما أمر أو أوصى الشيخ بتنفيذه.

" وممّا يروي عامة الناس في مدينة حلب، من عجيب تأثير الشيخ بدر الدين الحسني رحمه الله تعالى، أنه عندما زار مدينة حلب، ألقى في النساء درساً خاصاً في المسجد الأموي، حضرته ألوف من النساء، فدعاهنّ بقوة إلى نوع من الحجاب، ويبدو أنه ربط بين الحجاب الشرعي، وبين نية المستعمر إخراج المرأة المسلمة عن دينها وحيائها وسترها، فخرج النساء في مدينة حلب في اليوم التالي، يلبس الملاءات البيضاء السابغة، وكان حجابهم باللون الأسود."

المحرك الأول للثورة:

عاصر الشيخ أواخر العهد العثماني، وشهد الانحرافات والمظالم على أيدي الاتحاديين المشبوهين، وشهد ظروف الحرب العالمية الأولى، وكانت قاسية مريرة، فيها ظلمٌ، وقتلٌ، وفقرٌ، وجوعٌ، فكان يأسى لحالهم، ويسأل عن أسعار أقواتهم، وهمومهم، ويتصل بالحكام ليدفع عنهم ألوان الظلم والقهر.

وعندما قرر الفرنسيون احتلال سورية، أرسل ولده الشيخ تاج الدين، وتلميذه المفتي الشيخ عطا الكسم لقتال الغزاة الفرنسيين في (ميسلون).

ولما وصل الجنرال الفرنسي الغاشم (غورو) إلى دمشق، وأراد مقابلة الشيخ، رفض الشيخ مقابلته، وحضّ الناس على عدم دفع الضرائب للفرنسيين، وعدم التعامل معهم، وكان يعلن في دروسه العامة، أن الجهاد صار فرض عين على كل من يستطيع حمل السلاح واستعماله.

ثم قام بجولته المشهورة على المحافظات السورية، بصحبة تلميذه الواعظ النجيب الشيخ علي الدقر، وكان الشيخ يطوف المدن السورية، متنقلاً من بلدة إلى أخرى، حاثاً على الجهاد، وحاضّاً عليه، وكان يقابل المجاهدين، ويغذّيهم بآرائه، وينصح لهم بالخطط الحكيمة، فكان أباً روحياً للثورة والثائرين المجاهدين.

وكان من تلاميذه المجاهدين الأبطال، الشيخ محمد الأشمر وحسن الخراط اللذان يأتمران بأوامره، وينفذان تعاليمه، ويعملان بنصائحه في المعارك الهائلة التي خاضها المجاهدون في الغوطة ودمشق. وكان خادم الشيخ عبد الله الأفغاني، يشترك بالحملات، ثم يرجع إلى (دار الحديث) من أجل خدمة البدر.

" إن البطولة الحقة، والجهاد الحق، إنما كان من الإسلام، وبالإسلام، وبطريق الإسلام الذي كان متمثلاً في قائد الثورة الشيخ بدر الدين الحسني وتلامذته الأتقياء الأصفياء المجاهدين" . كما قال الأستاذ شوقي أبو خليل.

وقدّر الرائد إحسان هندي في كتابه (كفاح الشعب العربي السوري 1908-1948 دراسة عسكرية تاريخية) الدور الكبير الذي نهض به الشيخ بدر الدين، في الثورة السورية عامة، وفي ثورة المجاهدين في دمشق وفي الغوطتين خاصة، وهو لا يقل أهمية ووطنية عن أدوار الذين حملوا السلاح، فقد كان الشيخ المحرك الأول للثورة في أوساط تلاميذه ومريديه، حتى بلغ الأمر بالشيخ علي الدقر أن ينهي إحدى خطبه في جامع السنانية بدمشق بقوله:

" يا إخواننا. اللص دخل الدار، وهو يطلب منكم ثلاثة أشياء: دينكم، ومالكم, وعرضكم.

ولمّا سأله أحد المصلين: ومن هو هذا اللص يا شيخي؟ أجاب الشيخ: فرنسا."

في أيامه الأخيرة:

كان الشيخ حتى آخر نفس من أنفاسه الطاهرة، محتفظاً بكامل عقله ووعيه وجميع حواسه، فكان يتحدّث إلى عائديه وطلابه بطلاقة.

وفاته:

توفي الشيخ صباح يوم الجمعة، الثامن والعشرين من شهر حزيران 1935م ونعاه المؤذنون من فوق سائر المآذن الكثيرة في دمشق، كما طار نعيه إلى سائر أنحاء العالم الإسلامي، فبكته دمشق.. رجالها ونساؤها وأطفالها، وتجمعت دمشق أمام بيته، وفي الحارات والطرق والشوارع المحيطة به.

وفي الساعة الثانية بعد ظهر ذلك اليوم الحزين، بدأت الجنازة المهيبة، وتقدَّم النعش عدد كبير من رجال الشرطة والدرك بالسلاح الكامل المنكس، والعلماء، والمشايخ، وسار خلفه نائب رئيس الجمهورية السورية، والوزراء، وكبار رجال الحكومة، ورؤساء الطوائف المسيحية، وصلَّى الناس على الجثمان الطاهر في المسجد الأموي الكبير الذي ضاق وصحنه الواسع، والشوارع المؤدية إليه بالمصلين والمشيعين.

وبعد الصلاة على جثمان الشيخ، تابع الموكب سيره إلى مقبرة (باب الصغير) حيث ووري الثرى في مثواه الأخير في هذه الدنيا الفانية.

وقد أبّنه في المقبرة الأديب الكبير الشيخ علي الطنطاوي ورثاه بقصيدة، وقال في كلمته:

"إن الشام قد فقدت محدّث الدنيا وعّلامة العصر الذي حفظ علوم الإسلام وفلسفته حقّ حفظها، فكان لها، خلال تسعين عاماً، الحافظ الأمين. مات الرجل العظيم الخالد على الدهر.. مات التقيّ النقيّ الناصع الذي لم ينله شيء من أوزار الدنيا، لأنه كان كالسحاب، ولا ينال السحاب عثير التراب."

ثم تحدّث عدد من العلماء.

وحمل الناس أكثر من مئتي إكليل من الزهر إلى القصر الجمهوري، من جهات شتّى، ولم تُحمل مع الموكب، تنفيذاً لوصية الشيخ الراحل بأن يكون تكفينه وتشييعه بصورة شرعية بعيدة عن أيّ مخالفة شرعية.

ونكّست الأعلام على جميع الدوائر الرسمية.

حفلات التأبين:

أقيمت للشيخ حفلة تأبين كبرى على مدرج جامعة دمشق، بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته، وشُكّلت لجنة كان من أعضائها كبار علماء دمشق، كالشيخ بهجت البيطار، والشيخ المجاهد محمد الأشمر، والشيخ علي الطنطاوي، والشيخ الدكتور معروف الدواليبي، والأديب نوري الحكيم.

وخطب في الحفلة الشيخ عبد القادر المغربي، رئيس المجمع العلمي العربي، والشيخ بهجت البيطار، والأستاذ عز الدين التنوخي، والشاعر خليل مردم بك، وسواهم، وتليت كلمات لكبار رجالات العالم الإسلامي.

وقد سجّلت الصحافة وقائع تلك الحفلة الكبرى على صفحاتها الأولى. وقد وصفته -بحق- الجمعية السورية العربية " بإمام الأتقياء والمجتهدين، وعمدة الفصحاء والمحدّثين، شيخنا الإمام الأعظم" كما أقيمت له حفلة تأبين أخرى في حلب.

وفي باريس أقيمت للشيخ حفلة تأبين كبرى. أقامتها الجاليتان: العربية والإسلامية في فرنسا، للتعبير عن عواطفها تجاه (عالم الإسلام الأوحد) وألقيت فيها كلمات وقصائد، استمع إليها الجمهور الحزين في قاعة المحاضرات في المعهد الإسلامي في باريس، وحضرها سفراء الدول العربية والإسلامية، ومندوبون عن الدول الأوربية، وغطّتها الصحافة العربية والتي كان مندوبوها هناك، وكذلك الصحافة الفرنسية خاصة، والأوربية عامة.

              

المراجع:

1- تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري /الجزء الأول. محمد مطيع الحافظ، ونزار أباظة.

2- رجال من التاريخ: علي الطنطاوي.

3- ذكريات: علي الطنطاوي.

4- الإسلام وحركات التحرر العربية: شوقي أبو خليل.

5- كفاح الشعب العربي السوري1908-1948: إحسان هندي.

6- عالم الأمة وزاهد العصر. محمد رياض المالح.

7- العارف بالله الشيخ بدر الدين الحسني: محمد عبد الرحيم.

8- الأعلام: خير الدين الزركلي.

9- الدعاة والدعوة الإسلامية المعاصرة. د. محمد حسن الحمصي.

10- رسالة المسجد في سورية. د. عبد المجيد البيانوني.

11- مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق –المجلد 13- الأعداد: 5و6و7و8 لعام 1354هـ.

12- مجلة حضارة الإسلام –السنة 4- العدد: 6