مجرم الحرب المارشال الإيطالي رودولفو غراتسياني

محمد فاروق الإمام

رودولفو غراتسياني

محمد فاروق الإمام

[email protected]

رودولفو غرتزيانى، مارشيسي دي نيغيلي نائب الملك الايطالي في أثيوبيا ومارشال إيطالي عام شخصية سياسية إيطالية, كان المسؤول العسكري الإيطالي الذي قاد القوات الإيطالية في أفريقيا قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية وأحد مجرمي الحرب المسؤولين عن مصرع آلاف من الأثيوبيين والليبيين المدنيين.

من مواليد فيليتينو إقليم لاتزيو (قرب إتنا) بوسط إيطاليا 70كم شرق روما في 11 آب عام 1882م، لعائلة إيطالية ليس لها أي تقاليد حربية (كان والده موظف طبي) وجه من قبل والده لدراسة العلوم الدينية في معهد ديني بمدينة سوبياكو بإقليم لاتزيو, لكنه لم يستمر مفضلاً الانخراط في الخدمة العسكرية بالكتيبة 94 مشاة بروما, في 1 أيار عام 1904م تمت ترقيته إلى رتبة ملازم أول وأرسل مع الكتيبة 92 مشاة إلى مدينة فيتربو, في عام 1906م أصبح آمر فوج الرماة الأول. في عام 1908م أرسل إلى أرتريا, حيث تعلم اللغتين التغرينية والعربية, الأمر الذي أفاده فيما بعد, لدغته أفعى سامة في عام 1911م , حيث قضى ما يزيد عن العام في وضع صحي سيء ,شارك في الحرب الإيطالية التركية, رقي لرتبة رائد وشارك في الحرب العالمية الأولى, جرح عدة مرات, حصل على وسام البسالة العسكرية, في عام 1918م وبعمر 36 عاماً رقي لرتبة عقيد, ليكون حينها أصغر عقيد في الجيش الايطالي, في العشرينات، تولى جرتزيانى قيادة القوات الإيطالية في ليبيا وعهدت إليه محاولة إخضاع المجاهدين الليبيين. خلال ما سميت "بالتهدئة" تم إنشاء العديد من معسكرات العمل والمعتقلات الجماعية التي مات فيها عشرات الآلاف من السجناء الليبيين من الجوع أو المرض، إذا لم يقتلوا شنقاً أو إعداماً بالرصاص. في أثناء الحرب الايطالية- الاثيوبية الثانية (1935-1936م) تولى جرتزيانى قيادة الجيوش الإيطالية التي اجتاحت إثيوبيا. نجا من محاولة اغتيال في 19شباط عام 1937م ليصبح معروفا باسم "جزار إثيوبيا" عقب موجة القمع الدموي التي تلت ذلك.

بدأ حياته ضابطاً صغيراً، واختير ليكون أحد الضباط المحاربين في ليبيا وكان برتبة عقيد، واستطاع هذا الدموي الرهيب أن يبني شهرته على أجساد وجماجم الليبيين، وكان إثر كل مجزرة ينفذها برجال ونساء ليبيا، تزداد شهرته بين أبناء شعبه وتترقى رتبه العسكرية، فغدا نجماً ساطعاً في سماء إيطاليا، والبطل الذي لا يعرف الهزيمة، وكان غراتسياني يفتخر ويتباهى بأعماله الوحشية، مؤكداً بأن "أستاذه ومثله الأعلى كان السياسي الإيطالي المراوغ ميكافيللي"، حيث يقول عنه بالخصوص "كلما نسبت أعمالي الوحشية فإني أردد ما جاهر به ميكافيللي العظيم قائلا: "كي يحتفظ الأمير بهيبته عليه ألا يعبأ بعار القسوة"، ويعترف أيضاً بأن ضميره لم يؤنبه للحظة واحدة عن أعماله الدموية بأفراد الشعب الليبي فيقول: لم يحدث أن نمت لليلة هانئة، مثل الليلة التي أكون قد راجعت فيها ضميري، فيما يقولونه عن قسوتي ووحشيتي.

إن شريك غراتسياني في جرائمه ضد الشعب الليبي، دعي آخر هو بادوليو الذي كان حاكم ليبيا العام، ورئيس غراتسياني المباشر، وقد خطط الاثنان بدعم من موسوليني لإبادة الشعب الليبي قتلاً وتهجيراً، وقد تفنن هذان المجرمان في ابتكار الوسائل لتحقيق ذلك المخطط الرهيب، فأقاما المحكمة الطائرة التي كانت هيئتها تنتقل من مكان إلى آخر بطائرة خاصة لتحكم بشنق الليبيين على الفور رجالاً ونساء في محاكمات صورية، كما أنهما وراء إقامة المعتقلات الجماعية الرهيبة للآلاف من الليبيين، بخاصة سكان الجبل الأخضر، وقد حشروا فيها أكثر من مئة ألف مواطن جلهم من النساء والشيوخ والأطفال. كما أن أكثر هؤلاء المعتقلين ماتوا في معتقلاتهم جوعاً ومرضاً وقهراً، أو برصاص الطليان ومشانقهم، وكان غراتسياني يقول حين يجد من يعارضه على عمليات الاعتقال الوحشية هذه: "لقد قررت وصممت، ولن أتراجع حتى ولو أدى هذا الإجراء غلى فناء أهالي برقة جميعهم"، وقد ذكر أحد المواطنين الليبيين وهو سالم عمران أبو أشبور :"إن خمسين جثة من الليبيين كانت تخرج كل يوم من معتقل العقيلة الذي كنت معتقلا فيه، وتدفن في حفرة بشكل جماعي، أجل خمسون جثة يومياً كنا نعدها دائما وهؤلاء ماتوا إما شنقا أو رمياً بالرصاص أو أهلكهم الجوع أو المرض".

تمت مداهمة نجوع الليبيين من قبل الجنود الإيطاليين، وإجبار سكانها على ترك أراضيهم وممتلكاتهم وسوقهم في قوافل إلى المعتقلات الجماعية المخصصة لهم وكان أشد المعتقلات قسوة هو معتقل العقيلة الشهير الذي اعتقل فيها المجرمين الأكثر خطورة على إيطاليا وأقارب المجاهدين وكانت أهم القبائل التي دخلت المعتقل قبيلة المنفة وهي قبيلة شيخ الشهداء عمر المختار التي ذاقت أشد أنواع القهر والعذاب ولقد سطرها الشاعر الشعبي بقصيدة لاقت شهرة واسعة آنذاك وهي قصيدة العقيلة للشاعر رجب بوحويش الخائبى، فعلى سبيل المثال فأن أفراد قبيلة العواقير جمعهم الطليان وأجبروهم على السير على الأقدام إلى مسافة تصل إلى 300 كيلومتر في طرق وعرة أو صحراوية وفي مناخ قاس شديد الحرارة، وكان حين يبطئ كبار السن والضعفاء في المسير، يعمد حراسهم الإيطاليون إلى أخذهم جانباً، وإعدامهم رمياً بالرصاص، لأن أوامر غراتسياني كانت شديدة، بحيث لا تسمح بأي تأخير للوصول إلى المواقع المقررة لاعتقالهم، لكن رحلة العذاب والموت هذه لم تكن إلا البداية فالذين وصلوا أحياء كان ينتظرهم مسلسل آخر للآلام والإهانة والقهر.

قاد غراتسياني عملية الهجوم على مدينة الكفرة مشرفا على الفظائع التي ارتكبت فيها من قبل جنود الطليان ضد الليبيين المسالمين، وكان غراتسياني يأمر طياريه بإلقاء قنابل الغازات السامة مثل غاز الفسجين الذي هو مركب من الكربون والكلور، وهو من أشد الغازات فتكا، لأنه أثقل من الهواء ثلاث مرات ونصف، وبالتالي يبقى في شكل سحابة غاز ملامسة للأرض، كما أنه أكثر سمية من الكلور 15 مرة، ويوصف بأنه قاتل للإنسان الذي يبقى عشر دقائق يتنفس هواء يحتوي على 45مم من هذا الغاز في المتر المكعب الواحد من الهواء، ويمكن أن يكون مميتا حتى ولو كان تركيزه أضعف من ذلك، ويورد المؤلف واحدة من الإحصائيات عن نشاط الطيران الإيطالي ضد الليبيين في الفترة ما بين كانون الثاني 1924 إلى حزيران 1925م، وقذف الليبيين بالقنابل والغازات السامة وملاحقتهم بالرشاشات كما يلي: قام الطيران الإيطالي في تلك الفترة بـ 3103 طلعة في مجموع ساعات طيران بلغت 2630 ساعة، قطع خلالها 400 ألف كيلومتر، وقذف فيها 22770 أنبوبا متفجراً، و47649 قنبلة حارقة ومتفجرة من بينها الكثير من الغازات السامة، وقد مات المئات من الليبيين خنقا بهذه الغازات المحرمة عالمياً.

وهكذا فقد تم على يد هذا السفاح قتل الألوف من الشعب الليبي، وكان آخرهم الشهيد البطل عمر المختار.

قاد خلال الحرب العالمية الثانية الجيش العاشر الإيطالي المرابط في ليبيا. أصبح القائد العام لليبيا المحتلة بعد وفاة بالبو في حادث تحطم طائرة في 28 حزيران عام 1940م. بعد إعلان الحرب أمر موسوليني جرتزيانى باجتياح مصر. ورغم شكوكه حول قدرة الجيش الإيطالي على مواجهة القوات البريطانية، أمر جرتزيانى الجيش العاشر بالهجوم في 13 أيلول.

استقال من منصبه عام 1941م بعد هزيمة جيشه في عملية "البوصلة".

الحرب العالمية الثانية كشفت مدى تفاهة هذا الرجل وجبنه وعدم أهليته القتالية، حين تسبب في إلحاق هزيمة مذلة بإيطاليا في أول معركة له مع الإنجليز على الحدود الليبية المصرية، وتوالت هزائمه حتى تمت تنحيته. وبسبب ما ألحقه بسمعة إيطاليا من عار، قررت لجنة تحقيق إيطالية عليا، إحالته إلى محكمة الحرب، لكن موسوليني منع محاكمته.

كان جرتزيانى المارشال الإيطالي الوحيد الذي بقى وفيا لموسوليني بعد انقلاب دينو غراندي. ثم عين وزيراً للدفاع في الإيطالية وتولى قيادة القوات الإيطالية الألمانية المختلطة.

لكنه بعد غياب موسوليني وانهيار الحكم الفاشي، قبض عليه الطليان وحاكموه وأذلوه ووضعوا الحديد في يديه كما فعل مع عمر المختار. وقد لقي من الإهانة والأذى ما يجل عنه الوصف، وكان أصدق وصف لهذا الدموي ما قاله عنه الملحق العسكري الألماني في روما وهو إينو فون رنتيلين حيث كتب لحكومته يقول: "إن غراتسياني أقام شهرته في ليبيا والحبشة في معارك مع مقاومة شعبية سيئة التسليح لكنها غنية في شجاعتها، لكن هذا الدعي حين وضع في مواجهة جيش نظامي مسلح بأحدث الأسلحة انكشفت قدراته الحربية الحقيقية، فإذا به يتحول من أسطورة إلى أضحوكة، واختفى معه عن المسرح مقتولين أو مأسورين رفقاؤه أمثال ماليتي، وبيرغا نزولي، وغالينا، وبيتاسي مانيلا، وتراكيا، الذين وصلوا مثله إلى أعلى الرتب بسهولة في ميادين استعمارية ضد المدنيين الأبرياء".

في نهاية الحرب قضى جرتزيانى بضعة أيام في سجن سان فيتورى في ميلانو قبل أن ينقل إلى سيطرة الحلفاء. ثم أعيد إلى أفريقيا وبقى هناك حتى شباط عام 1946م في سجون الحلفاء في محاولة لحمايته من الاغتيال. وبعد إعادته إلى السجن بروسيدا في إيطاليا حكمت عليه محكمة عسكرية في عام 1950م بالسجن لمدة 19 سنة عقاباً له على التعاون مع النازيين لكنه أطلق سراحه بعد أن قضى بضعة أشهر في السجن. ومات في أحد المستشفيات مذموماً مدحوراً، في روما في 11 كانون الثاني عام 1955م.

مثل دوره الممثل (أوليفر ريد) في فيلم أسد الصحراء (عمر المختار) .