محمود البريكان "الشاعر الإنسان"

محمود البريكان "الشاعر الإنسان"

محمود البريكان

توفيق الشيخ حسين

[email protected]

قليلون أولئك الذين يعرفون محمود البريكان ( 1931 – 2002 ) رحمه الله معرفة جيدة , واقل منهم اولئك الذين يفهمونه بذات العمق وصدق المعاناة ولماذا اختط الراحل لنفسه هذا النهج في الحياة , ووضع لنفسه أسلوبا مدروسا متفردا في معاشرته للناس وفي مفهومه للنشر وفي عرض أدبه في الصحف والمؤتمرات يتواءم مع رؤيته الخاصة للحياة والوجود والقصيدة الشعرية .. ان الشاعر بعد رحيله , يظل يعيش بيننا بشعره , والكاتب بما كتب , والفنان والعالم , وكل إنسان منتج في ما ترك وراءه من اثر فاعل .. .

 كان شاعرا ومثقفا من طراز رفيع , وكان في حضوره الشخصي المميز وأدبه الجم , وثقافته المستنيرة , موطنا يضم في رحابته النوع الإنساني اجمع , كان مثل طائر لا يألف القفص وراهبا من رهبان الحرية عاشقيها .. كتب لها أجمل قصائده وظل ممجدا لها حتى أيامه الأخيرة .. تقول الشاعرة " لميعة عباس عمارة " في جريدة القبس عام 1982 :

" ان دور البريكان في مجال تطور الشعر الحديث لا ينكره احد ولكن هناك من حشر نفسه في قضية الريادة بحضوره الدائم في حلقات الشعر وبإصراره على الظهور بينما ابتعد المبدعين طواعية , ومحمود البريكان هو الذي نأى عن هذا المجال وامتنع عن نشر شعره منذ وقت طويل " ...

صمته ألممض هذا دفع بالناقد " حسين عبدا للطيف " إلى ان يلاحظ :

" الخليق بالملاحظة في مسألة البريكان , ان السور الذي ضربه حول نفسه أو متراسه أمام شعره  انهار بكل بساطة وأصبح عرضة لكل يد أو مزايدة أو ادعاء كاذب أو معرفة ناقصة  , وأصبح نفسه مشجبا أو أسطورة بعد السياب , ذلك ما تحدثنا به معه مرارا وحذرناه منه على حياته , لكن الاستجابة كانت ضعيفة , مترددة , متريثة , مؤجلة دائما , مع الإقرار الضمني من قبله بقوتها وصحتها وسلامة دوافعها " ...

يقول " بدر شاكر السياب " عن محمود البريكان في عام 1957 :

" انه شاعر عظيم لكنه مغمور !! بسبب نفوره من النشر , وسأحاول بذل كل جهد لإخراجه من صمته ليتبوأ المكانة اللائقة به " ...

كانت قضية الحرية أهم القضايا على الإطلاق التي انشغل بها الشاعر محمود البريكان منذ وقت مبكر ونالت الجزء الأكبر من اهتمامه خلال مسيرته الشعرية الطويلة , ويمكن اعتبارها القضية – الجوهر – عند الشاعر الذي ظل مخلصا لها إلى النهاية .. وفي سن الشيخوخة أو ما كان يسميه سن التنازلات , كان مستعدا لأن يتنازل عن أشياء بعينها لكنه رفض بقوة أن يتراجع عن قضيته الجوهرية (الحرية ).

الحرية التي تمنح الحياة أعظم معانيها وتجعل منها فعلا خلاقا متجددا وتجربة فريدة في معبر الوجود .. الحرية التي تقود الإنسان إلى أن يبدع ويقاوم ويأتي بالمعجزات ويثبت أمام العواصف العاتية وتجعله يلمس الألم البشري أينما كان , ويفهم الإنسانية ويتضامن معها ويحس نبض العالم المترامي .. هذه الحرية التي آمن بها محمود البريكان ودافع عنها طيلة حياته , وأراد لأمته أن تحيا تحت ظلالها  وأنوارها  , هي التي ظل يبحث عنها هذا العربي التائه عبر عصور الاضطهاد والخوف ..

يقول الشاعر محمود البريكان :

" أن كل كلمة لا يعنيها الشاعر تعني تفككا في الكيان , وان عبارة لا تستقطب شيئا هي خيانة " ...

هل كان البريكان يلعب مع متلقي شعره ما كنا نلعبه معا في السؤال المراوغ والجواب المضلل ؟ فحينما تتقنع ذات البريكان في متراس قصائده يلتبس على متلقيه وقرائه ما نصيب الحقيقة  في شعره وما نصيب التخييل ! تلك إحدى مهاراته في تقمص ذاته .. جسد قصائده وهي أيضا إحدى فطنه في استعاضة عن البوح المفضوح  الذي يتطلبه الحوار وكتابة السيرة , بالرهان على قصائده وحدها لكي لا يمسك أي من متلقيه وقرائه ببعض حقائقه على نصاعة ما يملك من حقائق ..

يقول الشاعر والروائي " محمد الأسعد "  من دراسة في تجربة البريكان في مجلة ثقافات البحرينية :

" بعزلته وابتعاده عن الوسط الأدبي وانشغاله بقضايا ومصائر يؤمن انه لا يستطيع مواجهتها إلا وحيدا , لم يترك محمود البريكان لنقاده سوى القصيدة , أي لم يترك سوى فن الشاعر وطريقته الفريدة التي يستطيع بها مواجهة العالم وتحرير ذاته , أما فضول عدسات التصويرواعلانات الصحف اليومية  فقد كان موضع تندره الدائم واستخفافه بل وسخريته الجارحة " ...

محمود البريكان هو ابن الزبير , هو ابن العراق والبصرة .. هو سر البصرة الغامض وطلسمها الأكبر .. كان يواجه شيئا واحدا يسمونه انطوائية واعتزالا .. فقامة البريكان في هذا الفن سامقة مشرئبة بين جميع الشعراء وباعترافهم .. كان البريكان يسأل والحزن يملأ قلبه .. إلى متى يبقى الإنسان العربي اللاهث أبدا يخاف القهر والجوع والموت ! والى متى تبقى هذه الأمة تصفق للطغاة والمغامرين ..

قتل محمود البريكان الساعة العاشرة من مساء يوم الخميس المصادف 28 شباط من عام 2002 في داره ودفن في مقبرة الحسن البصري في مسقط رأسه مدينة الزبير ..

وسكن مع بدر شاكر السياب التي دفن فيها ...