الشيخ عبد الكريم الرفاعي
ولد الشيخ عبد الكريم في دمشق مطلع القرن العشرين عام 1901م وفي أواخر العهد العثماني في بلاد الشام، حيث الجهل يعمُّ طبقات كثيرة من المجتمع، وحيث الفقر والتأخر يرخي بظلاله السوداء على حياة الناس.
ولد الشيخ في أسرة مستورة الحال، وكان منذ صغره ضعيف الجسم مريضاً، تعبت والدته كثيراً في محاولة علاجه مع قلة ذات اليد, فهي المعيلة الوحيدة للأسرة بعد وفاة زوجها، حتى أصابها اليأس من شفائه، وكانت قد سمعت بعالم من علماء دمشق من الصالحين من ذوي النفوس الرحيمة والنجدة في مساعدة الناس هو الشيخ علي الدقر رحمه الله، فانطلقت بولدها عبد الكريم إليه، وأخبرته عن حاله وقالت لقد يئست من شفائه وسأتركه أمانة بين يديك عسى الله أن يكتب له الشفاء ببركتك وبركة العلم.
نظر الشيخ إلى الطفل بين يديه، وحدق في وجهه وكأن الله قد أراه ما سيكون عليه في المستقبل من شأن كبير في العلم والدعوة إلى الله عز وجل، فراح يتوجه لهذا الطفل بالعناية والرعاية ويدعو الله له بكل إخلاص وصدق، فما هي إلا فترة قليلة من الزمن حتى بدت علامات التحسن والشفاء على الفتى عبد الكريم، وأصبح يذهب ويجيء على قدميه بعد أن كان يُحمل حملاً. وحقق الله تبارك وتعالى ما كانت تؤمله الوالدة الملهوفة اليائسة من هذا الشيخ الصالح المبارك في ولدها عبد الكريم وسُرت بذلك سروراً عظيماً.
سلك الشيخ عبد الكريم طريق العلم الشرعي على يدي أستاذه ومربيه فضيلة الشيخ علي الدقر, وتلقى عنه مبادئ العلوم, ومازال يرتقي سلم العلم حتى غدا أستاذاً لحلقة أو أكثر من الحلقات العلمية التي كان يعقدها شيخه لطلبة العلم، وحينما رأى شيخه إقباله الشديد واجتهاده أذن له بحضور دروس علامة الشام ومحدثها الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني رحمه الله تعالى، وداوم الشيخ بكل همة ونشاط على حضور دروس الشيخ بدر الدين الذي تفرَّس فيه خيراً فخصه بدروس في علوم التوحيد والمنطق والفلسفة استمرت أكثر من سبعة عشر عاما, كان يحضرها وحده ولم يشاركه فيها أحد سواه، كما تلقى الشيخ عبد الكريم أيضاً عن الشيح أمين سويد رحمه الله تعالى، وهو من كبار علماء عصره ومن الذين تفوقوا في علوم الفقه وأصوله وعلوم الحديث الشريف، كما استفاد الشيخ عبد الكريم أيضاً من دروس الشيخ محمود العطار أحد العلماء الأعلام في بلاد الشام.
كان هؤلاء هم الشيوخ الذين نهل الشيخ عبد الكريم من معين علومهم، واغترف من فيوضات أرواحهم، وكان لثباته واجتهاده ومثابرته على دروس هؤلاء الأشياخ وصدقه معهم الأثر الكبير في تكوين شخصيته العلمية بحيث أضحى عالماً متميزاً من علماء دمشق، وكان للأحوال التي يعيش فيها مجتمعه من جهل وضعف وشرود عن منهج الله تبارك وتعالى من جهة، ولإرادة التغيير الكامنة في نفسه, وحبه للإصلاح من جهة أخرى أكبر الأثر أيضاً في تكوين شخصيته كمربٍ وداعية.
تنقل الشيخ عبد الكريم في العديد من المعاهد الشرعية مثل (معهد الجمعية الغراء ـ معهد العلوم الشرعية) مدرساً ومربياً، يبث في طلابه روح الجد والإخلاص، ويحمِّلهم مسؤولية العلم والدعوة إلى الله تعالى.
وشاء الله عز وجل أن يستقر الشيخ عبد الكريم في جامع زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه إماماً وخطيباً ومدرساً، وفي هذا المسجد المبارك بدأ الشيخ عمله الدعويَّ المتميز، حين أعاد للمسجد رسالته التي ينبغي أن تُؤدى فيه كما كان العهد به في أيام السلف الصالح رضوان الله عليهم، فأخذ يجمع الشباب على دين الله عز وجل، وأسس الحلقات العلمية الشرعية، والحلقات القرآنية، والتي لم يكن يهدف من ورائها للوصول إلى منصب من المناصب، ولم يسعَ لينال زخرفا من زخارف الدنيا، وإنما كان كل همه أن يُنقذ أبناء بلدته من براثن الضلال والفساد والشرود عن منهج ربهم تبارك وتعالى، وأن يُحصنهم في سبيل ذلك بالعقيدة الواضحة الثابتة، وبالعلم الشرعي الرصين، وبالأخلاق الإسلامية الفاضلة، وليكونوا من بعد ذلك القدوة الصالحة في خدمة مجتمعهم ووطنهم وأمتهم، لذلك لم يكن عمله مقتصراً على تخريج طلاب العلم المتخصصين فقط بالعلوم الشرعية, بل كان يريد إلى جانب هؤلاء أن يتخرج الشباب المثقفون ثقافة عصرية، ويجمعون معها الثقافة الشرعية اللازمة، ليكون في المجتمع الطبيب المسلم، والمهندس المسلم، والموظف المسلم، والتاجر المسلم، والصناعي المسلم, والعامل المسلم، الذين يعيدون إلى النفوس الثقة بالإسلام وبالمسلمين من خلال علمهم وسلوكهم وصدقهم وإخلاصهم.
لقد سار الشيخ في دعوته وتربية طلابه على منهج واضح وطريق مستقيم، يلقنهم مختلف العلوم الشرعية متدرجاً معهم من مبادئها وأسسها، ثم ينتقل بهم إلى ما هو أوسع وأغزر حتى يبني شخصية الطالب العلمية اللائقة، وليكون على دراية كافية بهذا الدين الذي يحمله ويدعو الناس إليه.
وهو مع ذلك يلاحظ سلوكهم وأخلاقهم ويعالج أخطاءهم وتقصيرهم، ويوجههم إلى ما يغذي أرواحهم وقلوبهم من ذكر الله تبارك وتعالى وصدق العبودية له, حتى يصبحوا منارات الهدى والحق وجعل عنوان منهجه ( علم ـ عمل ـ دعوة ).
ومما توجه له الشيخ عبد الكريم بالعناية الفائقة والاهتمام البالغ دفع الشباب إلى حفظ كتاب الله تعالى وإتقان تلاوته بقراءة متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختار أن تكون رواية حفص، يتلقون ذلك عن شيخ القرآن في جامع زيد والمساجد التابعة له وهو فضيلة الحافظ الجامع للقراءات والفقيه الورع الشيخ محي الدين الكردي أبي الحسن حفظه الله وبارك في حياته، والذي تخرج من بين يديه المئات من حفاظ القرآن الكريم وتخصص الكثير منهم في قراءاته، وانبثوا في أرجاء بلاد الشام والعديد من الدول العربية والإسلامية, يقومون بتحفيظ القرآن, وتلقين تجويده كما تلقوه هم بالسند المتصل إلى سيدنا زيد بن ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام وإلى رب العزة تبارك وتعالى.
لم يكن منطلق الشيخ عبد الكريم في نشر دعوة الإسلام وتربية الناس عليها إلا جملة من الأخلاق التي تحلى بها طوال حياته، ومن أبرزها التواضع والحب والاعتدال.
أما التواضع ونكران الذات فقد كان الشيخ مضرب المثل فيه، سواء كان ذلك مع أقرانه من العلماء أو مع طلابه الكثيرين، إذا جلس مع إخوانه العلماء يؤثر الاستماع إليهم والاستفادة منهم، وإذا جلس مع طلابه عاملهم كأبنائه بل ربما يقدمهم على أولاده لا يبخل عليهم بعلم ولا توجيه ولا دعاء، ويسعى في قضاء حوائجهم ما أمكنه ذلك.
وأما الحب فهو الوقود الذي كان يدفع به إلى ساحة الدعوة وتحمُّل مشاقّها وأعبائها، كان يحب دعوته لأنها دعوة الله عز وجل، وكان يحب الناس ويحرص على هدايتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور متأسياً في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أكثر ما ورد في دروسه العامة والخاصة موضوع الحب، ولا زلت أذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يكرره على أسماعنا بين الفينة والفينة ( أي عرى الإيمان أوثق ؟ ) ثم يقول عليه الصلاة والسلام بعد إجابات متعددة (الحب في الله والبغض في الله)، ولعمري لا يمكن لصاحب دعوة أن ينجح في دعوته إذا كان أنانياً مبغضاً للناس من حوله، ولا يمكن أن تنجح جماعة في دعوة إذا كان أفرادها يتعالى بعضهم على بعض ويبغض بعضهم بعضاً.
وأما الاعتدال فهي سمة هذا الدين، وسمة رسول هذا الدين عليه أفضل الصلاة والسلام، ألم يقل ربنا في محكم كتابه (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) ورسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم قال (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) والمنبَتُّ هو الشديد المتعنت الذي يرهق نفسه ودابته في قطع الطريق إلى غايته، وما أظن الاعتدال إلا ثمرة من ثمار العلم المتوازن والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم.
في غمرة ما كان يقوم به الشيخ من أمور الدعوة والتربية والتعليم, وما كان يأخذ منه هذا العمل من جهد ووقت، لم ينسَ ما كان يعاني منه الكثير من أفراد مجتمعه, وخاصة في الأحياء الشعبية من الفقر والمرض والحاجة, فدعا إلى تأسيس الجمعيات الخيرية التي تعتني بشؤون الفقراء والمرضى والأرامل والأيتام المحتاجين عملاً بقول الله عز وجل (وتعاونوا على البر والتقوى) وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((واللهُ في عون العبد مادام العبد في عون أخيه)), وبذلك يقترن القول بالعمل، وينشأ المجتمع المسلم المتكافل الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
وكان من ثمار هذا التوجه إنشاء ( جمعية البر والإحسان) في حي قبر عاتكة، وجمعية (إغاثة الفقير) في حي باب سريجة، ولما ظهرت آثار هاتين الجمعيتين وكثرت أعباؤهما أسس الشيخ مع لفيف من العلماء وأهل الخير الصالحين جمعية ثالثة يشمل نشاطها مدينة دمشق بأسرها وهي جمعية النهضة الإسلامية، التي تقوم برعاية الفقراء والمحتاجين من أي حي كانوا وسد حاجة المرضى والعاجزين ومكافحة التسول والتشرد لتظهر عاصمة بلاد الشام بالمظهر الكريم الذي يليق بها، وكان الشيخ يختار لهذه الجمعيات الأعضاء و الإداريين ممن تتوفر فيهم الثقة العظيمة، والسمعة الطيبة، والعاطفة الإيمانية النبيلة، الذين يعطون ولا يأخذون, ويبذلون ولا يطلبون إلا رضا الله عز وجل.
خاض الشيخ غمار هذه الأعمال كلها بصبر المؤمنين الصادقين، وعزيمة الغيورين المخلصين، ودأب الجادين المصلحين، على الرغم مما واجه من مصاعب، وما وقف في طريقه من عقبات كان يقابلها بمزيد من المصابرة والإخلاص والصدق مع الله عز وجل واللجوء إليه في كل أمر، واستعمال ما وهبه الله من عقل وحكمة وخبرة, وكان يعلم أن ما يقوم به من عمل إنما هو مسؤولية العلماء الذين ورثوا مهمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, وأعظم بها من مهمة، وأكرم به من مقام يصطفي الله له خاصة خلقه مصداقاً لقوله عز وجل (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس).
استمر الشيخ على القيام بأعمال الدعوة والتعليم والتربية والعناية بالمجتمع سنين طوالاً ربما قاربت الثلاثين عاماً حتى إذا ما ثبت غرسه، وأينعت ثماره، حان موعد الرحيل إلى قيوم السموات والأرض, فأصيب الشيخ بشلل نصفي أقعده عن العمل ستة أشهر، وقبيل وفاته بعشرة أيام أصيب بغيبوبة لم يُفق منها إلا لحظة ملاقاة الله عز وجل وهو يقول (الله ), وصفوة طلابه يقرؤون عند رأسه قول الله تبارك وتعالى من سورة يس (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون، هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون، لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون، سلام قولا من رب رحيم). وكان ذلك في عام 1973م.
رحم الله الشيخ عبد الكريم وجزاه عن أهله وطلابه ومجتمعه خير الجزاء، وأجزل له العطاء، وجمعنا به في مستقر رحمته تحت لواء سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وسوم: العدد 852