الشيخ محفوظ نحناح
الشيخ محفوظ نحناح
عبد الله الطنطاوي
مدخل:
التقيته أول مرة عام 1988 في مطار فرانكفورت بألمانيا، وكان في استقبالي أنا القادم من بغداد، وهو القادم من الجزائر، صهري المهندس صلاح الدين الجعفراوي.
كنت سمعت عنه من إخواننا الذين التقوه في الحج، وجلسوا معه، واستمعوا إليه، وتباينت تقويماتهم لطروحاته التي صادمت بعض ما كانوا يقتنعون به، ويدعون إليه، ولكنه كان موضع احترامهم جميعاً.
تعارفنا في المطار، وشدّتني إليه ابتسامته العريضة التي استقبلني بها، ودعابته اللطيفة لأول وهلة، عندما نظر إليّ وإلى صهري ثم قال:
- لست أدري من منكم عمّ الآخر.. صلاح الأشيب الشعر واللحية، أم عمّه عبد الله الذي لا أجد في شعره بياضاً؟
وبعد أن سرنا خطوات، وقف مستنداً إلى الجدار، ثم جلس وهو يقول مداعباً:
- الحقيقة أنني أنا العجوز بينكم.. انظروا.. لا أستطيع أن أقف على قدميّ.. الروماتيزم مغرمٌ بركبتيّ، ولا يفارقهما في حلٍّ أو ترحال.
ومنذئذ توالت لقاءاتنا في ألمانيا، وجدة، وبغداد، وعمان التي كان يكثر من زيارتها للمعالجة في المستشفى الإسلامي وغيره، وكنا نلتقي في كل زيارة، نزوره في المستشفى، ويزورنا في بيوتنا، وكان آخر لقاء قبل عام في المستشفى، ثم في بيته المستأجر في (مرج الحمام) من ضواحي عمان الجميلة، ثم في بيت الدكتور حسن هويدي في عمان.
ومن خلال تلك اللقاءات الطويلة منها والقصيرة، وما يتخللها من أحاديث وحوارات، ومداعبات، توضّحت لنا شخصية الشيخ محفوظ جلية لا غموض فيها، على الرغم من اتهامه بالغموض من بعض شبابنا الذين يريدوننا على مثل الشمس نشهد، أو نمسك، لأننا لا نعرف خفايا الرجل الداهية الذي يأخذك بعيداً بابتساماته ونكاته ومرحه، عن الموضوع الذي توشك أن تتبيّن حقيقته وحقيقة صاحبه الشيخ محفوظ.
وأقول لهؤلاء الأحبة:
﴿وما شهدنا إلا بما علمنا، وما كنّا للغيب حافظين﴾. يوسف: 81
ونحن قريبون منكم في بعض مآخذكم على الرجل الذي أفضى إلى ما قدّم، وحاورناه عن قرب، كما حاورتموه عن بعد، واشترك في حوارنا بعض الشيوخ وشباب أمثالكم، ولم يشارككم في حواركم إياه حتى الشيخ نفسه، ونستطيع نحن وأنتم الآن، أن نناقش أفكار الشيخ ومواقفه بهدوء، ومن دون تعصب له أو عليه، وإن كان من تعصب، فله، وليس عليه، واذكروا محاسن موتاكم، فقد كانت شخصية الشيخ وبعض مواقفه مثيرة للجدل بين الأقرباء والأبعداء على حدّ سواء، ونحن وأنتم لا نقبل الإساءة لرجل اجتهد فيما اجتهد فيه، فأصاب وأخطأ، وأمره إلى الله فيما اجتهد، وهو أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، ونرجو أن يثيبه في الحالين، فما عرفناه إلا حسن النيّة، نقيّ الطوية، أعمل فكره فيما آلت إليه أمور البلاد من قتل وتدمير وتخريب، وأفزعه ما يمكن أن تكون عليه من مستقبل غامض، ومن أخطار محيقة بالوطن أرضاً وشعباً وقيماً، وأراد أن يلتفّ على تلك المخاطر بأساليب ارتضاها لتلافي الانهيار الذي كان العسكر سبباً وجيهاً فيه، كعادتهم في كل بلد تسلّموا زمامه، وقد ساءتنا بعض تلك الأساليب، وفاتحناه بها، ودافع عنها، واستمرّ فيها، ووكلناه إلى الله الذي يعلم السرّ والخفي من الأمور، وإلى نيّته التي نحسن الظن بها وبصاحبها، وليس لنا الآن سوى الابتهال إلى الله الكريم، أن يثيبه على اجتهاده، وأن يتجاوز عن أخطائه، وأن يلهم إخوانه سبيل الرشاد، فلا يبتعدوا وأن يصبروا ويصابروا، ويستفيدوا من مشورة إخوانهم في الجزائر العزيزة المنكوبة بتصرفات لا يرضى الله عنها، من أي جهة كانت، ولا التاريخ ولا شعوب الأمة العربية والإسلامية.. فإنما تأكل الذئاب من ذوي الأفكار والمواقف القاصية..
حياته:
ولد الشيخ محفوظ نحناح في مدينة البليدة (الورود) التي تقع على بعد 50 كم جنوب العاصمة في بيئة إسلامية محافظة وفقيرة، وتعلّم اللغة العربية في المدرسة الإصلاحية العربية (مدرسة الإرشاد) التي كانت تمثل رمز المقاومة والدفاع عن شخصية الجزائر العربية الإسلامية، أمام سياسة الفرنسة، وعاش إرهاصات الثورة الجزائرية وهو فتى، وعندما نشبت الثورة التحريرية الكبرى عام 1954 انضمّ إليها، وشارك فيها.
أكمل تعليمه الثانوي في الجزائر، والتحق بكلية الآداب - قسم اللغة العربية في الجامعة الجزائرية عام 1966.
شغل منصب مدير مركز التعريب في الجامعة المركزية في الجزائر العاصمة، وكان عضواً في رابطة الدعوة الإسلامية، ورئيس جمعية الإرشاد والإصلاح، ثم أسس حركة المجتمع الإسلامي (حماس) عام 1991 التي حوّلها إلى حركة مجتمع السلم (حمس) تماشياً مع قانون الأحزاب الجزائري الذي يحظر الأحزاب الدينية.
كان رمزاً من رموز الحركة الإسلامية في الجزائر، ممثلاً لنهج الإخوان المسلمين فيها، وكان عضواً في مكتب الإرشاد، وهو القيادة الجماعية للتنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين، كما كان عضواً في مجلس الشورى العام للتنظيم العالمي.
عارض الرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين في توجهاته العلمانية الاشتراكية، ومحاولته فرض النظام الاشتراكي بالقوة على المجتمع الجزائري العربي المسلم، ودعا إلى توسيع نطاق الحريات السياسية والاقتصادية، فاعتقله بومدين، وقدّمه إلى محاكمة عسكرية هي صورة عن المحاكم العسكرية في سائر الأنظمة العسكرية الانقلابية (التقدمية) في الوطن العربي الكبير، واتهمه بمحاولة قلب نظام الحكم، وهي التهمة نفسها في سائر تلك الأنظمة البائدة والحالية، وحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاماً سنة 1975 وتعرّض ومن معه لألوان التعذيب الوحشي، لعله يتراجع عن موقفه ضد الاشتراكية العلمانية، ولكنه أبى وازداد تشبثاً واقتناعاً بموقفه، وكانت صلابته في الحق مثار إعجاب بعض سجانيه وجلاديه، ومثار إغضاب بعضهم الآخر ونقمتهم عليه، فصبّوا عليه العذاب صبّاً.
وبعد انتهاء (التحقيق) وما رافقه من تعذيب وحكم واستقرار في قاع المعتقلات، لم يضع الشيخ محفوظ وقته وعمره سدى في عفونة الزنازين، بل بادر إلى نفسه يعالجها بالقرب من الله، والإقبال على العبادة، وتلاوة القرآن الكريم وحفظه، وتثقيف نفسه، من خلال التهام ما يقع بين يديه من الكتب، وفكّر ملياً في الفكر المطروح، وفي النظريات المطروحة على الشعب من الماركسيين والفرانكفونيين المستغربين، وزادته طروحاتهم الوافدة بعداً عنهم، وتمسكاً بدينه وعروبته، وبدأ يعمل مع من معه من السجناء والمعتقلين، يثير عقولهم، ويحرك قلوبهم، حتى اهتدى عدد منهم على يديه، وتركوا ما كانوا عليه من انحرافات سلوكية، وهذه هي المدرسة اليوسفية، صبرٌ على البلاء والأذى، ودعوةٌ إلى الله، وهداية الضالين، وإقبال على النفس تثقيفاً وتزكية وإعداداً لها لقابل الأيام، ولذلك لم يحقد على ساجنيه، بل سامحهم وعفا عنهم، وهذا ما لم نقدر عليه نحن.
من عجيب أمر الله تعالى في الشيخ محفوظ، أنه عندما كان معتقلاً في مدينة (الأصنام) تعرّضت المدينة إلى زلزال مدمر، ترك الشيخ فجأة في العراء، وقد تساقط كل ما حوله، وفرَّ السجانون ومن بقي من السجناء على قيد الحياة، بينما ظلّ الشيخ محفوظ ساكناً في مكانه، ينتظر عودة السجن والسجانين.
وبعد موت بومدين، أطلقوا سراحه عام 1980 بعد خمس سنين أمضاها في سجون الظالمين.
شارك في انتخابات الرئاسة الجزائرية عام 1995 مقابل الأمين زروال، وحصل على ثلاثة ملايين صوت، حسب الإعلان الرسمي عنها، ولكنه في الواقع تجاوز هذا الرقم بكثير، ولكن الجنرالات الحاكمين في الجزائر زوّروا الانتخابات، وزعموا فوز منافسه اليمين زروال.
ومما يتناقله الجزائريون، أن الرئيس زروال وقف مرة في وجه الجنرالات، وزعم لهم أنه رئيس منتخب، فقالوا له: أنت تعرف جيداً من هو الرئيس المنتخب، فسكت، ثم أطاحوا به.
توفي بعد ظهر يوم الخميس 19/6/2003 بعد مرض عضال عانى منه قرابة سنة.
شيع أكثر من مئة ألف جزائري جنازته بعد صلاة الجمعة 20/6/2003 إلى مثواه الأخير بمقبرة العالية، في الضاحية الشرقية للجزائر العاصمة، حيث ووري جثمانه الطاهر في المربع المقابل لمربع الشهداء، حيث ترقد جثامين العديد من الشخصيات الجزائرية، كالأمير عبد القادر، إلى هواري بومدين، وبوضياف، وقادة ثورة تشرين الثاني (نوفمبر) والشخصيات الجزائرية البارزة الأخرى التي تركت بصماتها في تاريخ الجزائر المعاصر.
وأقيمت صلاة الجنازة في مسجد الفرقان بحي رابية الطاهر بباب الزوار، بحضور آلاف المصلين الذين توافدوا على المسجد منذ الصباح من مختلف الولايات.
أقيمت له التشريفات الرئاسية بصفة استثنائية، في حضور كبار المسؤولين في الدولة، ووصفت الجنازة بأنها ثاني أهم جنازة في البلاد بعد جنازة الرئيس الأسبق هواري بومدين في نهاية عام 1978.
شارك في التشييع مدير ديوان رئاسة الجمهورية، ورئيس مجلس الأمة، ورئيس الحكومة السابق السيد أحمد أويحيى، وقادة الجيش، وسفراء الدول العربية والإسلامية الذين تقدّمهم السفير المغربي في الجزائر، وعدد من الشخصيات السياسة الجزائرية، من بينهم الأمين العام لجبهة التحرير الوطني حزب الغالبية البرلمانية، والشيخ عبد الله جاب الله، والدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، ووزير الشؤون الدينية بوعلام غلام الله، ممثلاً للرئيس بوتفليقة الذي اعتذر عن حضور التشييع في اللحظة الأخيرة، وأوفد الوزير الذي تلا على عشرات آلاف المشيعين رسالة من الرئيس، أثنى فيها بوتفليقة على الشيخ محفوظ، ومما جاء فيها: "ما من مشكلة ألمت بالجزائر إلا وكانت للشيخ محفوظ في حلّها مساهمة، وما من قضية إلا وكان فيها رأي، أو اتخذ منها موقفاً نابعاً من حبه لوطنه.."
عوامل تكوينه:
عاش الشيخ محفوظ حياة العصامي الذي يبني نفسه بنفسه، ولا يعتمد على سواه من الأهل، والنسب، والمال وما إلى ذلك من العوامل المساعدة على بروز القادة والزعماء.
درس حيوات العديد من زعماء العالم الإسلامي ومجاهديه في القديم كالإمام ابن تيمية وسواه، وفي الحديث كرجالات الحركة الوطنية الجزائرية الذين كافحوا من أجل عروبة الجزائر وإسلامها ضدّ محاولات الفرنسة والتغريب، وقد عاصر بعضهم، وسمع وقرأ حيوات السابقين الذين كانوا يعبئون الجماهير بهذا الشعار الجميل:
الإسلام ديننا
العربية لغتنا
الجزائر وطننا
ومن أولئك الرجال الرواد في الحركة الجهادية ضدّ الاستعمار الفرنسي ومحاولاته اليائسة في إلحاق الجزائر بفرنسا: عبد الحميد بن باديس، والبشير الإبراهيمي، والفضيل الورتاني، ومالك بن نبي، ومحمد محفوظي.
وكان للقادة المشارقة تأثيراتهم الواضحة في الشيخ محفوظ، مثل المجاهد الثائر جمال الدين الأفغاني، والإمام حسن البنا، والشيخ محمد متولي شعراوي، والشيخ محمد الغزالي، والإمام المودودي وسواهم.
إلى جانب مطالعاته الغزيرة التي أكسبته ثقافة وحصافة، وأثرت تجاربه في حقول الدعوة والتربية والسياسة.
صفاته:
من صفاته الخَلْقية التي تلفت الانتباه إليه، مظهره الأنيق، فلا تكاد تراه إلا في هندام كامل؛ بذلة حديثة مكويّة، وربطة عنق محكمة جميلة ومتلائمة الألوان مع البذلة، ولحية لطيفة أعمل بها المقص تهذيباً وتشذيباً، وشعرٌ مرّ عليه المشط من قريب، فبدا مرتّباً، وقد زانه الشيب وزاده وقاراً، وحذاء ملمّع.
يستقبلك بابتسامته العريضة التي لا تكاد تفارقه حتى في أقسى الظروف الملمّة به، كالمرض الشديد، والهموم العاتية.
إذا حدّثته عما تعانيه الدعوة والدعاة في بلدك أو ما يصيب المسلمين في العالم من مصائب، سالت دمعته حزناً وألماً.
منذ اللحظات الأولى معه، تعرف أنك أمام محاور متمرس، ولطيف، يعطيك من الوقت ما تريد حتى تنتهي من شرح فكرتك، ثم يستأذنك في الكلام، ويدلي بدلوه فيه بوضوح، وبلا لفٍّ ولا دوران، تحسّ باحترامه لمحاوره، كائناً من كان، فهو محاور ذكي، وذو عقل منظم يفرض احترامه على من أمامه.
وتحسّ أنه زاهد في الحديث عن نفسه، وفي أن يرجع الفضل إليها في أي عمل من الأعمال، فهو ليس من الذين يحبّون أن يُحْمَدوا فيما فعلوه أو لم يفعلوه. يبتعد عن الأضواء والمباهاة، ولا يجرّح خصومه وأعداءه، فضلاً عن إخوانه وأصدقائه المخالفين له في الرأي، متأنٍّ، لا يستعجل قطف الثمار في حواره ومواقفه.
هادئ في سائر أحواله هدوءاً يدل على استقرار نفسي.
وذو روح مرحة، ودعابة مهذّبة حاضرة، يلقي النكتة، ويتلقّاها في سرور، وقد يتفاعل معها فيتجاوز الابتسام إلى الضحك الوقور.
متواضع لإخوانه؛ محبّ لهم، يشاركهم في سرّائهم وضرّائهم، ومواقفه مشهودة مع إخوانه التونسيين الممتحنين.
مثقف ثقافة عالية، شرعية، وأدبية، وسياسية، واجتماعية، يظهر هذا في أحاديثه وكتاباته.
يتميز بمرونة عجيبة إلا في الثوابت التي يبدو مقاتلاً شرساً في الدفاع عنها، ومن أهمها، انتهاك حرمات الله، وإراقة الدماء، وفيما يعتقد أنه حق ومصلحة.
شجاع مقدام في الصدع برأيه مهما بلغ تباينه مع الجمهور.
همومه هي هموم شعبه وأمته، وكان من العبّاد، محافظة على الفروض والنوافل والأوراد، ودعوة إخوانه ومن يحبّهم إلى التمسّك بها.
وكان فصيح اللسان، واضح البيان، بعيداً من الرطانة والعجمة اللتين تسمعهما من الذين رُبّوا أيام الاستعمار الفرنسي على النطق بالفرنسية التي فرضوها لغة رسمية في بلاد العرب والمسلمين في الجزائر. إذا خطب شدّ إليه الأسماع والأبصار، ولهذا كان الشباب يقبلون على المسجد الذي يخطب فيه، ليتزوّدوا منه علماً وأدباً، وفصاحة، وأخلاقاً، وديناً، وسياسة، ووسطية في ذلك كله، فقد كان بمثابة الأب الروحيّ لكثير من شباب الحركة الإسلامية وشيوخها الذين ينشدّون إلى أحاديثه وخطبه وكلماته، ويتبعون أحسنها. تدور الآيات على لسانه وقلمه، منزّلاً إياها منازلها الذكية في البرهنة والتدليل على ما يريد، بشكل مدهش.
ويستخدم المحسنات البديعة استخداماً جميلاً لطيفاً على الأسماع، فتخرج مخرج الأمثال:
"وإن القضاء على هذه العقارب، يفرض تلاقي الأقارب".
وخاصة في عنواناته التي تذكرك بما كان الأجداد يفعلونه.
يعرض فكرته بعقلانية وتجرد عرض الفيلسوف الحكيم، بحيث يجعل خصمه يذعن له..
ويزن كلامه كأسد جريح.. قال العارفون عنه: إنه سرّ الإخلاص.
مدرسته:
تتميز مدرسة الشيخ محفوظ بالحوار، وروح التسامح والاعتدال، والمسالمة، والتناصح، والدعوة إلى المشاركة السياسية بدل الصراع بين الحاكم والمحكوم الذي تميزت به علائق الإسلاميين بالأنظمة العلمانية الثورية في الوطن العربي الكبير، في مصر، وسورية، والعراق، وليبيا، وتونس، والجزائر.. دعا الشيخ محفوظ إلى التعاون، والتواؤم، وتجميع الطاقات المختلفة، والاتفاق ولو على الحدود الدنيا، والعمل لإيجاد قواسم أو جوامع مشتركة مبنية على الصراحة والحوار الحر البنّاء. ولذا كان يعمل مع سائر أبناء الوطن ضمن قواعد التشاور، والتنظيم، والتنسيق والائتلاف، ضمن أطر المصلحة العامة التي يغلبها على المصلحة الخاصة أو الحزبية، وهذا كان يتطلب منه البحث بعمق عن نقاط التلاقي مع محاوريه، واجتناب نقاط التنافر والتنابذ، إلا ما كان متعلقاً بالثوابت، والدماء.
وهو في محاوراته كما في خاطراته وسلوكياته وأدبياته، بعيد عن التطرف، قريب من الاعتدال وما يتطلبه من تشارك وتمازج بين الأطياف والأشياء والأفكار.
إنه لا يؤمن بحديّة الأشياء، وإنما يؤمن بنسبيتها.
وهو لا يرى الحقّ في جهة من الجهات، والخطأ المطلق في جهة أخرى، ويعتبر الحوار مجالاً مفتوحاً حتى للشيطان، والشيطان هو أكبر ممثل للشر، وإذا كان الحوار موجوداً بين أكبر ممثل للشر، وهو الشيطان، وبين الله سبحانه وتعالى، فمن باب أولى أن تكون هنالك مساحات لهذا التعاطي النسبي مع جميع الأشياء، ولهذا قدّم عدة مبادرات لتجسير العلاقة بين السلطة والإسلاميين، حسبما يمليه عليه منطق الاعتدال والتفاهم، الذي يؤمن به، ويسعى إلى أن يحله محل استخدام القوة.
كان الشيخ محفوظ أحد الدعاة إلى المشروع الإسلامي البارزين، ولهذا دخل المعارضة السياسية ضد الميثاق الوطني الذي رآه بعيداً عن الروح الحضارية الإسلامية التي يقوم عليها تاريخ المجتمع الجزائري، فاعتقل وذلك قبل تأسيس التجمع الكبير للتيارات الإسلامية بمسجد جامعة الجزائر المركزية، وبذلك كان أحد وجوه المعارضة الإسلامية للنظام الحاكم، وكان يعتبر الحزب الذي شكله (حركة المجتمع الإسلامي) واجهة سياسية تتصدّى للواجهات السياسية الأخرى، ولا تسعى إلى الهيمنة عليها، فليس ما يمنع من وجود أقليات معارضة أخرى، غير إسلامية..
"وإذا كان الأمر يعود إلى الديمقراطية بمفهومها الغربي، فإن الأقلية يجب أن تنقاد للأكثرية، ومن هنا، فلا خشية على شعبنا من الديمقراطية، ضمن المنظر السياسي والأخلاقي والحضاري، للإسلام."
أما إذا كانت الديموقراطية قائمة على الطعن والتجريح والسباب والشتائم، فهذه تعني الانتقال إلى ديمقوقراطية تقوم على الدجل والتضليل والمناورات وتزوير الحقائق وشراء الذمم.
المنظر الحضاري والفكري لدى الشيخ محفوظ أرفع من أن يكون مجرد تسميات سياسية وحزبية إسلامية ضيّقة.. فحزب الله، بالمفهوم الإسلامي، مفهوم استراتيجي أولاً وقبل كل شيء، بمعنى أن الأمة الإسلامية حزب واحد أمام طغيان الفرد على الجماعة، وأمام طغيان الجماعة على الفرد، والأمة الإسلامية في مواجهة التيارين الطاغيين، ليست مواجهتها مواجهة قتل وعنف واغتيال وإبادة، وإنما هي مواجهة بين حضارتين، تبني الأولى قواعدها على الحق، والثانية على الباطل والروح العدوانية، والاستغلال، والآلة العسكرية.
ولأنه يعتبر الخلاف ظاهرة صحية، كان يسعى للحوار دائماً حتى وُصف بأنه رجل الحوار، وكان محبباً في حديثه وخطابه، لبقاً في حواره، لا يصل مع محاوره إلى خصومة أو قطيعة، بل يحافظ على شعرة معاوية حتى مع ألدّ خصومه، وهو بهذا يرسي دعائم مدرسة أساسها احترام حقوق الإنسان، وصناعة تقاليد في التداول على السلطة بالطرق السلمية، واحترام الحريات في ظل النظام الجمهوري.
لقد كان الشيخ محفوظ محاوراً ممتازاً، في سائر المحاور الدينية والسياسية في الجزائر كما في الوطن العربي وعدد من دول العالم.
الداعية
الشيخ محفوظ عمل في حقل الدعوة أكثر من ثلاثين عاماً في مقابل المدّ الثوري الاشتراكي ونشر الثقافة الفرنسية، وهو من أشدّ معارضي التوجهات الماركسية والفرانكفونية، وقد مرّت حياته الدعوية بعدة مراحل:
1 – مرحلة النشأة الفكرية، وقد تأثر فيها بعدد من المفكرين الإسلاميين الثائرين على التخلف والجمود والاستبداد والاستعمار، كالأفغاني، ومحمد عبده، وابن باديس، ومالك بن نبي، وحسن البنا، وسيد قطب، والمودودي وسواهم من المفكرين.
2 – مرحلة المشاركة في الثورة الجزائرية، وهي التي فتحت عينيه على ضرورة التغيير، وملّكَتْه إرادة التغيير.
3 – مرحلة الاستقلال: "وكانت الجامعة محل صياغة شخصيته القيادية، المستفيدة من تجارب الحركة الإسلامية العالمية.
4 – مرحلة الثورات الثلاث التي قام بها النظام، واتجه وجهة شيوعية، فوقف الشيخ في وجهها ضدّ تأميم أملاك الناس ومصادرتها بغير حق، وضدّ التوجه الأيديولوجي للدولة الجزائرية، وضدّ الضغط الشيوعي على الدولة، وكان الاعتقال والتعذيب له ولمؤسسي حركته.
5 – مرحلة التعددية السياسية، وفيها صار الشيخ رمزاً للحركة التي تحملت مسؤوليات جديدة، مثل حماية الإسلام من التطرف والغلو والتشويه وكل ما يمكن أن يتخذ منه النظام مسوّغاً للانقضاض عليه وعلى الدعاة إليه، مما اقتضاه نوعاً من فقه الأولويات، فقه درء المفاسد المقدم على جلب المصالح، وبرز لديه ما يسمى بالمشاركة والتعاون مع كل الأطراف في السلطة والمعارضة، على أساس المبادئ الوطنية المشتركة.
وهذه المرحلة أخصب مراحل حياته الدعوية والسياسية، خرج فيها من إطار القطر، إلى الإطار الأوسع، فكانت الزيارات للعديد من الدول العربية والإفريقية والإسلامية والأجنبية، وكانت لقاءات، ومؤتمرات وحوارات أغنت تجربته، وصار يُنظر إليه كزعيم مرتقب للجزائر، وجعلت دولة كفرنسا التي رفضت إعطاءه تأشيرة دخول إلى بلادها، جعلتها تستقبله استقبالاً رسمياً، بعد الانتخابات الرئاسية التي خاضها.
وبهذا تتبين لنا: "سابقية الشيخ محفوظ في خدمة الدعوة على كل الجبهات منذ كان طالباً في كلية الآداب، فأستاذاً جامعياً لمادة التفسير، ودأبه على نشر مبادئ التجديد الإسلامي في الجزائر التي كانت يوم بدأ عمله الدعوي قد استقلت حديثاً".
وكان من أبرز رموز الشباب المغربي الذين ظهروا منذ نهاية الستينيات. وفي أعقاب حلّ أول جمعية إسلامية بعد الاستقلال (جمعية القيم) وهم الشيخ محفوظ، والشيخ عباسي مدني، والشيخ عبد الله جاب الله، والشيخ محمد بوجلخة، والشيخ محمد السعيد، ثم علي بلحاج، ومصطفى براهمي في مرحلة تالية.. نهض هؤلاء الفضلاء تحت رعاية من تبقّى من شيوخ جمعية العلماء المسلمين، مثل الشيخ محمد سحنون، والشيخ مالك بن نبي، والشيخ عبد اللطيف سلطاني، وتصدَّوا لانحراف بعض قادة جبهة التحرير عن إرثها الإسلامي، وإيغالها في نهج العلمنة والاشتراكية والاستبداد في أيام بومدين ومن تلاه.
"وقد مثّل الشيخ محفوظ جسراً مهمّاً جداً لنقل الأفكار الإصلاحية المشرقية والمناهج التربوية لجماعة الإخوان المسلمين إلى الجزائر، من خلال تدريسه في الجامعة، وخطبه في المساجد.".
كان الشيخ محفوظ داعية متميزاً، وواعظاً مؤثراً، ومربياً حصيفاً، استطاع بخطابه المتميز بالعمق الإسلامي، والواقعية، والأدب الرفيع، أن يتغلغل في أوساط الطلبة والمثقفين والتجار والنساء، واستمر طوال ثلاثين سنة يدافع عن العقيدة الصحيحة السليمة من شوائب المتزيدين، وعن قيم الوسطية والاعتدال التي تعتمدها الجماعة الأمّ التي ينتمي إليها، ويدعو. وانطلق يبشر بها في خطبه في المساجد والمنتديات، داعياً إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، داعياً الشباب أن يكونوا، كما قال الإمام الشهيد، كالشجر، يرميها الناس بالحجر، وترميهم بالثمر.
ضد العنف
كان العقل المفكر والمدبر لحركة إسلامية لا تؤمن بالعنف سبيلاً إلى السلطة، وتقوم على الاعتدال والانفتاح والحوار، فكان صمام أمان في الحياة السياسية الجزائرية، ولم يأبه بما كان يوجهه الآخرون إليه وإلى حركته السلمية من انتقادات بهذا الخصوص، لأنه مقتنع بموقفه.
أدان التطرف والعنف المسلح، ورفض فكرة التكفير للحكومات والمجتمعات والهيئات السياسية والدينية، ورفض الاقتتال بين أبناء البلد الواحد تحت أي ذريعة، وهذا لا يعني أيّ تنازل عن الثوابت التي آمن بها، ودعا إلى الوقوف عندها، ومناجزة التيارات العلمانية والاشتراكية الخارجة عليها.
لقد ألجأت الأزمة التي نشبت بإلغاء الجيش الانتخابات التي فازت بها جبهة الإنقاذ أو كادت، ألجأت الشيخ النحناح إلى حسابات جديدة، وتوازنات جديدة "وإلى تأجيل عداوات، وتأجيل خلافات، وإلى تعاون مع الخصوم على ضرورات مشتركة، مثل ضرورة تمدين النظام السياسي، أو ضرورة التنسيق من أجل المحافظة على الحريات العامة والخاصة، أو ضرورة الإبقاء على الدولة وتقوية مؤسساتها، أو ضرورة إنهاء المرحلة الانتقالية، أو إصلاح شرعية الحكم المعطوبة.. الأمر الذي أثار عليه موجة من الانتقادات، وكنا في جملة المنتقدين، لأن تجاربنا مع الأنظمة العسكرية قتلت كل معاني الثقة بها، ولم يكن رأي الشيخ بعيداً من رأينا، ولكنه كان مضطراً لأكل لحم الميتة، وإلى معايشة الخصوم، وهو أدرى بهم وبمواقفهم من الإسلام والدعاة إليه، وقد غدروا به عندما رشح نفسه للرئاسة أول مرة، وزوّروا، ثم حالوا دون ترشيحه للرئاسة في المرة الثانية، وبلع الشيخ السكين وصبر عليهم، لأنه يخشى على الجزائر أرضاً، وشعباً، وإسلاماً وعروبة، ويعرف قوة المتربصين بها في الداخل والخارج، ويعي طبيعة المؤامرات التي تحاك ضدّه، وضدّ حركته، وضدّ سائر المخلصين على أرض الجزائر، ولهذه الأسباب كان يحني هامته الشامخة للعاصفة العاتية التي تريد استئصال من يقف في وجهها من الجذور.. وكان يعي اللعبة الدولية الماكرة في الكيد للإسلاميين في كل مكان، من طنجة حتى جاكارتا، ومن الإنقاذ حتى أنور إبراهيم، مروراً بأربكان وسواه، فما كان منه إلا أن يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من بين براثن من لا يتقي الله في أرض ولا شعب ولا دين ولا عرض، ولا أي قيمة قد تقف في وجه أهوائه وشهواته، وقد فهم الرسائل من هنا وهناك وهنالك، والعاقل من اتعظ بغيره، وهو قد اتعظ بما جرى لإخوانه في بلاد العروبة والإسلام.
كان الشيخ ذكياً، وكان مخلصاً تسيل دمعته، ويدمى قلبه لما جرى ويجري لأحبائه في الجزائر، وفي الأوطان الشقيقة، وما كان غبياً، ولا متآمراً ولا مساوماً على قيمة من القيم التي يؤمن بها، ويجاهد ويضحي من أجلها، خاصة وهو الخبير بالعنف وأسبابه التي تغذّيه وتقوّيه، كفرض الشخصيات الملوّثة قادة وحكاماً على الناس، يسيرون بالبلاد والعباد إلى الدمار والانهيار، ولكنه عرف أن العنف سوف يؤدي بدوره إلى دمار قد يكون أشدّ من تخريب أولئك الزعماء الملوّثين، ولهذا خاض حرباً شعواء ضد العنف ورجاله، وضدّ الفكر المتطرف الذي يرفع الإسلام شعاراً له، ويستبيح القتل والتدمير باسمه.
كان خطابه داخل الجزائر وخارجها يقارع الجماعات العنفية، وتصوراتها الفكرية والسياسية المباينة للتصورات الإسلامية الصحيحة، المغايرة لمصلحة الدعوة والمصلحة الوطنية، ووقف بصلابة في وجه الحملات التي شنتها عليه تلك الجماعات التي هددته في حياته، واغتالت أقرب إخوانه إليه ونائبه وخليفته الشيخ بوسليماني.
وعندما زار ألمانيا في مارس 1995 عقد عدة ندوات صحفية في مدينة بون، وأكد فيها أن حركة حماس تنبذ العنف كوسيلة للوصول إلى السلطة، والبقاء فيها، وتلتزم فكرة التداول على السلطة سلمياً، وضرورة الأخذ برأي الأغلبية، واحترام الأقلية.
قال عنه الأستاذ إبراهيم نافع رئيس تحرير الأهرام:
"إن الشيخ محفوظ نحناح، بصفته الحزبية، يمثل حالة خاصة بين أطراف الساحة السياسية التي تفور بالحركة والغليان في الجزائر، فالرجل قطب مهم من أقطاب الحركة الإسلامية في الجزائر، لكنه بحكم أفكاره وتاريخه وتحليله لواقع بلاده وأزمتها، يدعو إلى الحوار، ويمارسه مع جميع القوى السياسية المعارضة، أياً كانت اتجاهاتها، حتى تلك التي ترفض إيديولوجية الحوار مع القوى الإسلامية.
وهو بذلك شخصية متميزة، يرفض منهج
الإقصاء والاستبداد، ويدينه بكل وضوح."
والحقيقة، أنه رجل سياسي متمرس، عُرف بوسطيته واعتداله بين الدعاة في
الجزائر، حتى لُقّب بحكيم الإسلاميين، وعدّه الشيوعيون بمواقفه هذه، أخطر رجل
في المعارضة الإسلامية، في ثباته على مواقفه، وصراحته في خطابه، وتعامله مع
سائر الأطراف الفاعلة في الساحة السياسية.
السياسي:
الزلزال السياسي الذي كاد يدكّ الدولة الجزائرية دكاً، وكاد يعصف بالحكم العسكري الاستبدادي في انتفاضة الخامس من تشرين الأول (أكتوبر) 1988 جعل الشيخ النحناح يغوص في أعماق العمل السياسي، فقد ساير التيّار العنفيّ ولكن بحذر، وقام بعمل ذكي أمَّن به نوعاً من التأمين على الدعوة، عندما أسس جمعية الإصلاح والإرشاد، وجعلها في منأى عن العمل السياسي، حتى لا تُضرب إذا ما أقدم العسكر على ضربه، وبنى علاقة مع قادة الجيش أصحاب السلطة والنفوذ الحقيقيين، لطمأنتهم على أن حركة مجتمع السلم تسلك سبيل الإقناع والحوار، وتنبذ العنف بكل أشكاله، وأنه مع الدولة والنظام ضد الفوضى والعمل المسلح وأن الجيش هو الضمان لبقاء الدولة، والمدافع عن الوطن ووحدة البلاد، ثم شهدت الجزائر أسوأ مراحل تاريخها المعاصر، عندما أوقف الجيش المسار الانتخابيَ في كانون الثاني (يناير) 1992 عندما أشارت النتائج الأولية إلى فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وحلَّ الجبهة، واعتقل قياداتها، فهرب كثير من شبابها إلى الجبال، وأعلنوا الثورة المسلحة، وبدأت حرب أهلية لم تنته فصولها حتى الآن، عندما تحركت الدبابات لسحق جماهير جبهة الإنقاذ التي كانت تسيطر على الشارع السياسي، وتسحق معها صناديق الاقتراع، وتطرد الرئيس الشاذلي من الحكم، لتعود بالبلاد إلى ما قبل انتفاضة 5 أكتوبر 1988.
كان على معرفة دقيقة بما يجري في وطنه، وإقليمه، ووطنه العربي الكبير، وفي الواقع الدولي المحكوم بسياسة وحيد القرن، كما يطيب له أن يسمي أمريكا التي تعمل للهيمنة على العالم سياسياً، واقتصادياً، وقيماً، فانطلق يساهم بقسط وافر في تنشيط الحياة السياسية والفكرية، ولكن أجهزة الإعلام الوطني كانت تحاول أن تعتم على مختلف نشاطاته، في حين تقوم بالترويج للأفكار المتطرفة التي تعجّ بها الساحة الجزائرية.
غاص في الأزمة، وعارض سياسة التعنّت والإقصاء، وانتقد من سماهم (سماسرة الدم) الذين يحاولون تبييض ماضيهم الأسود، والذين يحاولون تسلُّق جدار الأزمة المشيد بجثث الأبرياء. كان يندد بالجماعات المسلحة، ويغمز من قناة المجلس الأعلى للدولة، معتبراً إياه صيغة تجاوزتها الأحداث، ويعتبر الجيش صمام أمان من الحرب الأهلية.
كان يحاول باستمرار توسيع قاعدة حزبه مجتمع السلم، لتكون البديل الحقيقي السليم الذي يكفل للبلاد السلامة، وللشعب الجزائري الاستقرار.
كان ديموقراطياً في طروحاته، ويحاول تسخير الديموقراطية للتمكين للإسلام ضمن ثلاثيته:
المرحلية، والموضوعية، والواقعية. وكانت طروحاته ذات بعد مستقبلي مستفيداً من الآنيّة.. وواقعياً.
كان يرى المشاركة في الحكم، وعدم الابتعاد عنه حتى لا ينفرد الآخرون بالسلطة والنفوذ، ومن هذا القبيل كانت مشاركته بسبعة وزراء، وبعدد من البرلمانيين من حركته، وبهذا كان يتعاطى مع الحدث، بحكمة وهدوء وتوازن يعبّر عن معرفته بالواقع المعيش، وحنكته في التعامل معه، واستطاع بذلك أن يقدّم الإسلام السياسي –كما يدعونه- بالشكل الذي يحميه ويحمي ذويه، وفعلاً تمكن من إنقاذ إخوانه وحركته ممّا ألمّ بالإسلاميين الآخرين على أيدي العسكر.
قال الشيخ راشد الغنوشي الذي صحب الشيخ محفوظاً، وعايش أفكاره وحركته الدعوية والسياسية: "الثابت أن الجماعة التي أسسها الشيخ على عينه وصورته، قد ثبتت بعد ثلث قرن من التقلب مع الموج الجزائري العاتي رقماً مهمّاً، ومعطى ثقافياً وسياسياً واجتماعياً يمكن لك أن تتفق معه وتختلف، ولكن لا مناص من أن تقرأ له حساباً، فقد وسّع قاعدته في مستوى الشباب الطلابي، وفي مستوى العمل النسائي، ووسط فئات واسعة من الفئة الوسطى ومختلف قطاعات الدولة، بما قدّم من تصوّر هادئ متسامح يعطي مكاناً واسعاً في الإسلام لكل ما هو إنساني وجميل وحديث، من ديموقراطية، وحقوق إنسان، وذوق جميل، ومال، وتجارة، وترفيه حلال، وروح دعابة، إلى حسّ عميق تجاه المساكين والأرامل والعوانس، كما حفل خطابه بخصوصية نادرة في حركات التغيير، من الدفاع عن الدولة، وضرورة المحافظة عليها، والخشية من الانفلات والفوضى".
وجعل ثوابت حركة مجتمع السلم:
الوسطية، والاعتدال، والحوار، والديموقراطية، والمشاركة، ونبذ العنف، والمحافظة على الدولة، والوحدة الوطنية، والدفاع عن الثوابت الوطنية، ومواجهة علمنة المنظومة التربوية.
ومن منطلقاته وثوابته التي نالت رضا الحياديين والمخلصين والعقلاء: أن الإسلام جامع أساسي لسائر أبناء الجزائر، عرباً وبربراً، وأن الإسلام، والعروبة، والأمازيغية ثوابت وطنية، وخطوط حمر لا يمكن تجاوزها.
وأن التواصل بين شتى شرائح الشعب الجزائري ضرورة يمليها الواقع والمصلحة الوطنية العليا، وأن الحوار والانفتاح، والتعاون مع الإسلاميين وغيرهم من اليساريين والمتفرنسين واجب تحتمه المصلحة الوطنية العليا، والشيخ محفوظ كان يصرّ على رفض فكرة الاستئصال لأي جماعة مهما كان فكرها، ويرى وجوب التعاون من أجل بناء الدولة، ويرفض الخروج عليها، ويدعو إلى إصلاح المجتمع، لا إلى تخريبه وتمزيقه تحت ذرائع مرفوضة، ويؤمن بالتدرج الطبيعي في الإصلاح في التغيير، وبالعمل الإيجابي البناء.
وعندما أثارت بعض الشخصيات الجزائرية مسألة العروبة والإسلام، ونفوا أن تكون لهما صلة بالحالة الوطنية الجزائرية، واشتدّوا على الداعين إليهما، الرابطين بين الوطنية من جهة، وبين العروبة والإسلام من جهة أخرى، حتى عدَّ بعضهم العرب الفاتحين الذين عرّبوا تلك الديار وأسلموها –غزاة مستعمرين، وكما طالب دعاة القومية الفينيقية في سورية ولبنان، ودعاة القومية المصرية الفرعونية في مصر- العرب إلى العودة إلى جزيرتهم وصحاراهم، وإلى جمالهم وخيامهم، كذلك كان الشأن لدى بعض الشخصيات المغربية، هذا الصراع المفتعل في المغرب، كما في المشرق، تصدّى له الشيخ محفوظ، وعقد عدة ندوات ومؤتمرات، "لتجسير العلاقة بين القوميين، والإسلاميين والوطنيين، ولتتوج فيما بعد، بمؤسسات وتنظيمات ترعى وتجسد هذه الفكرة لتحقيق مشروع متكامل بين كل الأطياف السياسية في وطننا العربي والإسلامي، بما يحقق التنمية والاستقرار".
والمثير في ظاهرة الشيخ محفوظ نحناح هو ذلك النمط من التعامل من جهة، ومن الوسائل والأساليب التي اتخذها في عملية التغيير، ومنهجية المعارضة السياسية، أو بالأحرى، منهجية الإصلاح السياسي في وطنه الجزائر، وفي مسار الحركة الإسلامية عموماً من جهة أخرى.
فالشيخ محفوظ نحناح، انطلقت حركيته من مصادر فكرية، فهو ابن المدرسة الإسلامية الأصيلة والطموحة نحو تطبيق حقيقي لنظرية (الإسلام صالح لكل زمان ومكان) وإخراجها من دائرة المجاملات، ومن دائرة النظري المثالي، إلى دائرة التطبيق الواقعي.
ذو نمطية متميزة في إدارة التغيير، وإدارة الإصلاح السياسي.
وقد أصبح الرجل مثار جدل ومثار التباس عند الكثيرين من الباحثين والمفكرين والدعاة، بسبب بُعدهم عنه، أو بسبب العجز عن مواكبته، أو بسبب تنازع خفي، تدفع إليه الرغبة في بسط السيطرة على العمل الدعوي والسياسي، وما يتطلبان من جهد لتوسعة التنظيم.
وهكذا صار أحد كبار رموز الحركة الإسلامية في الجزائر، ومن أبرز القيادات الشعبية، بعد إقرار التعددية السياسية.
ولهذا كان الجيش يخشاه، والإنقاذيون يتهمونه، وهو بين هؤلاء وهؤلاء يشقّ طريقه الوسطي، وقد عقل وتوكل، فنجّاه الله من القوم الظالمين الذين كانوا يأتمرون به ليقتلوه، ويمكرون ويمكر الله له، والله خير الماكرين.
القضية الفلسطينية
تبنّى القضية الفلسطينية، وعدّها قضيّته وقضيّة العرب والمسلمين، ويظهر هذا منذ بدايات حياته الدعوية والسياسية، وامتدّت معه وصاحبته طوال حياته، ويشهد على ذلك، صوته القوي في المؤتمرات والندوات التي كان يقيمها، أو يحضرها، تضامناً مع الشعب الفلسطيني المظلوم، وقضيته العادلة، وفي حواراته مع الشخصيات السياسية الكبيرة في البلدان التي كان يزورها، في أمريكا، وفرنسا، وإسبانيا، والسويد، وألمانيا، وبريطانيا، وإيطاليا، وفي الدول العربية والإفريقية وسواها.
يقول الشيخ محفوظ:
"إن الغرب ينتقل من ثنائية قطبية، إلى وحيد القرن، لفرض السلام الأمريكي، وبناء إسرائيل الكبرى".
ولنقرأ فهمه وتحليله لهذه القضية:
"إن أهم القضايا القديمة والحديثة التي استأثرت باهتمام العاملين في الحقل الإسلامي والملاحظين والمراقبين من كل الأجناس، ومن مختلف المعسكرات المتصارعة هي قضية فلسطين التي يعتبرها بنو الإنسان الأحرار قضية مركزية بسبب الغبن الذي سلط عليها، وبسبب الخذلان الذي أحاط بها من بعض بنيها ومن بعض بني يعرب الطوق الرسمي لجغرافية فلسطين الشاهدة على الصمود أو الخمود، وهذا الموقع الجيوسياسي والتاريخي الذي تحتله هذه القضية أصبحت به رمزاً لموانح الانتماء أو موانعه، وبقدر الالتفاف حولها والتشبث بأهدافها يكون الانتماء وبقدر السكوت أو الإعراض أو العمل على إجهاض مشروعها تكون الموانع، مما جعل الإمام عبد الحميد بن باديس يقول:
"كل مسلم مسؤول أعظم المسؤولية عند الله تعالى على كل ما يرى هناك من أرواح تزهق وصغار تيتم ونساء ترمل وأموال تهلك وديار تخرب، وحرمات تنتهك، كما لو كان كله واقعاً بمكة والمدينة".
ومما جعل الشيخ البشير الإبراهيمي بعده يقول:
"إن فلسطين وديعة محمد عندنا، وأمانة عمر في ذمتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهود منا ونحن عصبة إنا إذن لخاسرون".
لقد عمل الصهاينة من بني إسرائيل على أن تقبل الأمة بأنظمتها الهزيمة، فاستوطنوا واشتروا الذمم وشكلوا عصابات "شتيرن" واعتقلوا وقتلوا في بير سبع ودير ياسين ومرج بني عامر ومرج الزهور، واستقدموا من الخارج عن طريق التهويد، واستخدموا من الداخل عن طريق التشريد وفعلوها في صبرا وشاتيلا، وجعلوا من سبتمبر الشهور السوداء في جبين الأمة وأبعدوا الأبرار، وقربوا الفجار واغتالوا الأخيار، وضغطوا ليسلم لهم القياد، وعملوا على إيجاد حالات نفسية مساعدة على إعطاء الدنية في الدين والوطن وقبول المشروعات الاستسلامية، وغزوا صندوق النقد الدولي، وهيأوا وسائل الإعلام المحلية والعالمية، وحولوا عبارة الكيان الصهيوني إلى مصطلح أرض إسرائيل، ونشروا السيدا والمبيدات الجرثومية والآفات الاجتماعية (واستعانوا بنا علينا) كما يقول الإبراهيمي وليأذن لي أن أقول واستعنا بأنفسنا على أنفسنا.
وطَّبعوا العلاقات المالية والإعلامية وأخيراً السياسية، وصنعوا فكرة الحرب بالوكالة ليتحول الصراع من العرب -يهود إلى العرب- عرب وخلعوا قميص الإرهاب عنهم وألبسوه بعض الفرقاء من العاملين في الحقل الإسلامي (واكتسبوا من ضعفنا قوة، ومن جهلنا قوة، ومن تخاذلنا قوة، ومن أقوالنا الجوفاء قوة، وأصبحت هذه القوى كلها ظهيراً لهم علينا.. (كما يقول الإبراهيمي..
فهل أدرك أبناء الحركة الواعية أن (وعد الصهيونية لا يعدو كونه وعداً) (وأن النصوص طرية لينة؟).
وهاهم بعد أن كانوا يبحثون لهم عن وطن قومي يتآمر معهم الأمريكان بعد الإنجليز ليصنعوا شبه جزء من وطن غير محقق وفي غياب الإجماع الوطني والإسلامي، وتحت راية الظلم الواضح.
الشيخ محفوظ في مرايا الآخرين
قال الأستاذ حسين أحمد أمين، سفير مصر في الجزائر سابقاً في حوار صحفي مع قناة أمريكية:
"الشيخ محفوظ عالم، وسياسي إسلامي من الطراز الأول، ولا أحد يشك في صدق إسلامه، وصدق توجهاته الدينية.. ومفكر إسلامي مستنير، ولا أظن أن الكثيرين من العلمانيين يشكون في استنارته، ومراعاته لظروف العصر، وقدرته على مجابهة تحديات المستقبل مجابهة دينية ودنيوية ممكنة.
ونعاه الشيخ فيصل مولوي، أحد إخوانه الأقربين إلى قلبه وعقله، العارفين له معرفة دقيقة:
"لقد كنت مثالاً في الصدق والالتزام والعمل، تضع الإسلام في ميزانك قبل الحركة، وتعتبر مصالح الأمة قبل مصلحة الجماعة بل وترفض التعارض في هذا المجال، وتصر على التكامل، وتجعل نفسك وجماعتك في خدمة الأمة وقضاياها".
ونعاه الشيخ راشد الغنوشي وقال في ختام مقاله عنه:
"رحم الله الأخ الصديق الحبيب الشيخ محفوظ، بما جدّد، وأشاع من قيم الإسلام العلمية والتربوية والسياسية، وحسن معاملة، مما تحتاجه أمة وشعب ممزقان بالأحقاد ونزوعات التنافي، وبما حرّك من سواكن العقول، وفجّر من قضايا عملية للتفكير والتأمل."
ونعته حركة النهضة التونسية باسم الشيخ راشد الغنوشي بقولها:
"وحركة النهضة إذ تنعى لشعب تونس وأمة العروبة والإسلام هذا المناضل الكبير، تذكر بالأيادي البيضاء للفقيد في إيواء وإعانة وحماية مناضليها الذين هاجروا إلى الجزائر، مع بداية الحملة الاستئصالية التي شنّت على حركتهم بداية التسعينيات.."
ووصفه الدكتور حسن هويدي نائب المرشد العام للإخوان المسلمين بقوله:
" قد كان الفقيد خير رفيق في الدرب الطويل، محباً لدينه، مخلصاً لدعوته، غيوراً على بلده، باراً بإخوانه، طاف العالم الإسلامي كله يبشر بكلمة الحق والصدق، حتى ترجّل ونحن في أشدّ الحاجة إليه."
ونعته جماعة الإخوان المسلمين في القاهرة، ووصفته بأنه "من أصدق رجال الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، ومن الذين تميّزوا بالشجاعة والإقدام، وبالجهاد بالنفس والمال في سبيل إعلاء كلمة الله، وإقامة شريعته على هدى وبصيرة، وقالت الجماعة: إنه قائد من قادتها الأبرار.
المراجع:
(1) الأستاذ محفوظ نحناح رجل الحوار-من إعداد إبراهيم بن عمر.
(2) قوة التغيير-برنامج انتخابي لحركة مجتمع السلم (حمس).
(3) مجلة المنار الجديد-خالد حسن.
(4) رسالة الإخوان-العدد 330 تاريخ 27/6/2003.
(5) مجلة فلسطين المسلمة-السنة 21-عدد تموز 2003.
(6) جريدة العالم الإسلامي- العدد 1799 تاريخ 30 حزيران 2003.
(7) ليما نبيل في جريدة الدستور الأردنية في 10/7/2003.
(8) جريدة القدس العربي اللندنية في 21/6/2003.
(9) جريدة الشرق الأوسط اللندنية 24/6/2003.