عبد الله الشرقاوي
عبد الله الشرقاوي
إبراهيم خليل إبراهيم
خضعت محافظة الشرقية مثلما خضعت مصر للحكم الفرنسى مدة قصيرة لاتزيد على 3 سنوات و شهرين وعلى الرغم من قصر هذه المدة لا أنها كانت ذات شأن مؤثر فى التاريخ ودلالة فارقة تؤكد أن الإنسان العربى بصفة عامة والمصرى بصفة خاصة لايقبل الأحتلال وكبت الحريات وأن الوطن أغلى من الولد والدم .. وللتاريخ نسجل هاهنا أن ذلك الأحتلال لم يؤثر قط على لغتنا العربية .
والمتأمل لتاريخنا القومى يجد أن محافظة الشرقية جادت بكل تضحية للتخلص من الأحتلال كما ضمت واحتضنت زعماء القوم الذين فروا من العاصمة المصرية بعد هزيمة أمبابة .. فقد لجا إليها ( إبراهيم بك ) مع مايقرب من 1500 من المماليك وصحبهم الوالى العثمانى ( بكر باشا ) ونقيب الأشراف السيد عمر مكرم وهؤلاء الفارون عسكروا فى مدينة بلبيس .
وكانت محافظة الشرقية فى هذا الوقت صاحبة الزعامة الدينية لأن أحد أبنائها وهو الشيخ ( عبد الله الشرقاوى ) كان شيخا للأزهر الشريف وآلت إليه رئاسة الديوان الوطنى .. ومن هذا المنطلق نعرض تاريخ الشيخ الشرقاوى .. أحد أبطال الزعامة الدينية والوطنية والذى أغضب الفرنسيين نظرا لوطنيته ومواقفه ضدهم من أجل مصر الكنانة وشعبها العظيم.
وتقول سجلات المواليد أن الشيخ ( عبد الله بن حجازى بن إبراهيم ) ولد فى سنة 1150 هـ بقرية الطويلة مركز فاقوس بمحافظة الشرقية ولذا لقب وأشتهر بالشيخ ( عبد الله الشرقاوي )
حفظ القرآن الكريم فى قرية القرين وأمتاز بالذكاء والطموح والمثابرة والوطنية وبرغم ضيق العيش تلقى العلوم الدينية والعربية على يد شيوخ أجلاء منهم نذكر : الشيخ الملوى والشيخ الجوهرى والشيخ الدمنهورى .. وبعد أن أنهى دراسته بدأ يلقى الدروس بالجامع الأزهر والعديد من المساجد كما أفتى فى مذهب الإمام الشافعى بالإضافة إلى تميزه فى الكتابة والألقاء .
وتولى الشيخ الشرقاوى مشيخة الأزهر خلفا للشيخ أحمد بن موسى العروسى ويعد الشيخ الشرقاوى هو الشيخ الحادى عشر فى سلسلة الشيوخ الأجلاء الذين تولوا مشيخة الأزهر .
والشيخ الشرقاوى لم يدخر جهدا من أجل خير الشعب المصرى ورفع الظلم الواقع عليه من المماليك ثم الفرنسيين وقد عاصر الجبرتى الشيخ الشرقاوى وذكره فى مؤرخاته حيث قال :
( فى سنة 1209 هجريا وفد على الشيخ الشرقاوى أهل الشرقية وذكروا له أن أتباع محمد بك الألفى ظلموهم وأرهقوهم بطلب مالاقدرة لهم عليه .. فغضب الشيخ الشرقاوى لذلك وخاطب مراد بك وأبراهيم بك فى رفع هذا الظلم فلم يكترثا للأمر فحضر إلى الأزهر وجمع المشايخ وتشاوروا فيما بينهم ثم اغلقوا أبواب الجامع وأمروا الناس بإغلاق متاجرهم وركبوا فى اليوم التالى وتبعهم كثير من الناس متظاهرين وأزدحموا أمام بيت إبراهيم بك صاخبين وأرسل إليهم أيوب بك مسئول الشئون المالية فسألهم عن مرادهم ؟
فقالوا : نريد العدل وإبطال الحوادث ورفع المكوس التى أبتدعوها ..
فقال : إن فى إجابة هذه المطالب تضييقا علينا فى معاشنا ..
فقالوا : ليس هذا بعذر عند الله ومالباعث على الإكثار من النفقات والمماليك ؟ فالأمير يكون أميرا بالإعطاء لا بالأخذ .. فأمهلهم حتى يبلغ ذلك .. ورجع المشايخ إلى الأزهر وشايعهم أهل القاهرة فى حركتهم فحضروا إلى الأزهر وباتوا فيه متحفزين فخشى مراد بك عاقبة هذا فبعث من يخبرهم بإجابة معظم مطالبهم ثم طلب أربعة مشايخ عينهم باسمائهم فذهبوا إليه في قصره بالجيزة فلاطفهم وطلب إليهم السعي في الصلح وفي اليوم الثالث أجتمع الأمراء والمشايخ في بيت إبراهيم بك ومن بينهم الشيخ الشرقاوي وتم الصلح على رفع المظالم وأن يكفوا أتباعهم عن مد أيديهم إلى أموال الناس ويسيروا فيهم سيرة حسنة وكتب القاضي حجة بذلك وامضاها الباشا والأمراء ، وانجلت الفتنة وفرح الناس وسكن الحال .
ومرت الأيام وجاء الفرنسيون ودخلوا القاهرة عام 1798 بعد مقاومة رائعة وبعد أن استقروا وضع نابليون بونابرت نظام حكم البلاد فقرر حكم القاهرة بمجلس مكون من 9 اعضاء وأن تكون السلطة المدنية للحكومة بيده وكان الشيخ الشرقاوي من أعضاء هذا المجلس ثم أمر نابليون بونابرت بتكوين مجلس لكل مديرية عدده 7 أفراد وذلك من أجل مصالح المديرية فأجمع الأعضاء على أختيار الشيخ الشرقاوي رئيسا للديوان وبذلك أصبح رئيسا لحكومة القاهرة المدنية بالإضافة إلى مشيخة الأزهر ومن هنا لقب بذي الرياستين … ثم دعا نابليون إلى أجتماع أعيان العاصمة والأقاليم بديوان القاهرة حتى يتعرف على أرائهم فى النظام المالى والأدارى والقضائى بالحكومة .. وبعد الأجتماع طلب منهم أختيار رئيسا فاجمعوا على الشيخ الشرقاوى .. وهذا الديوان كان يبدى رأيه فى الأصلاحات والأقتراحات التى يراها من أجل أثبات ملكية العقارات وفرض الضرائب والوصول ألى النظام الأصلح بخصوص تأليف مجالس بالمديريات وكذا النظام الأمثل للقضاء الجنائى والمدنى والتشريع الذى يكفل ضبط المواريث وأزالة الشكاوى والمظالم .. وهذا المجلس مجلسا تشريعيا للأمة وكان الشيخ الشرقاوى رئيسا له .. ومن هذا المنطلق نؤكد على نفوذ وعلو مكانة الشيخ عبد الله الشرقاوى .
بعد قيام ثورة القاهرة عام 1798 ضد الفرنسيين قام نابليون بونابرت بحل المجلس وأستمر معطلا لمدة شهرين ولكن سرعان ما أعاده نابليون ولكن بشكل جديد حيث قام بتكوين مجلسين أولهما .. عرف بالديوان العمومي - الكبير - وتكون من 60 عضوا من الأعيان المصريين وممثلي الطبقات المختلفة ، وهذا المجلس يجتمع بناء على دعوة من حاكم القاهرة وكان الشيخ الشرقاوي من أعضاء هذا المجلس الذي اجتمع في الثامن عشر من شهر رجب 1213 هـ ثم أنفض بعد ثلاثة أيام ..
و ثانيهما .. المجلس أو الديوان الخصوصي و عدد أعضاؤه 14 عضوا ويجتمع يوميا لبحث ونظر مصالح الناس ، وكان الشيخ الشرقاوي رئيسا لهذا المجلس وهو عبارة عن مجلس وزراء ولكن لشرف الفرنسيين .
وبعد معاهدة العريش و توقيع فرنسا عليها برغبتها في الجلاء عن مصر تم حل الديوان ( المجلس ) ولكن نشبت الثورة في القاهرة وبعد اخمادها واصل القائد كليبر امر تعطيل المجلس ، و بعد تولي القائد مينو القيادة العامة شرع في ارجاعه و لكن بنظام جديد ، فالأعضاء 9 ومن المسلمين و ترأسه الشيخ الشرقاوي و يعد هذا المجلس بمثابة الحكومة .
والفرنسيون سخطوا كثيرا على الشيخ الشرقاوي نظرا لوطنيته وثورته ضد أي ظلم .. ونذكر إليكم هذه المواقف :
حينما قام نابليون بونابرت بدعوة أعضاء ديوان مجلس القاهرة إلى منزله ألبسهم علم فرنسا ولكن الشيخ الشرقاوي طرح العلم أرضا أثناء قيام نابليون بونابرت بوضعه على كتفه ثم تقدم الشيخ الشرقاوي بالأستقالة .
وعندما قام سليمان الحلبي بقتل القائد الفرنسي كليبر أحضر الفرنسيون الشيخ الشرقاوي - شيخ الأزهر - مع الشيخ العريشي قاض مصر وتم حجزهما ساعات وطلب الفرنسيون منهما البحث عن الأزهريين الأربعة الذين ذكرهم سليمان الحلبي في التحقيق ولكنهما ثارا لذلك الموقف الفرنسي فحاول الفرنسيون الزج بالشيخ الشرقاوي في ذلك الأمر و لكن الأكذوبة تموت وحدها مثلما تموت السمكة في الصحراء .
وعند أضطراب الفرنسيين بسبب مجيئ الحملة العثمانية الإنجليزية لمصر ثم إحتلال الأتراك العريش قام فورييه -الوكيل الفرنسي - بإستدعاء أعضاء الديوان ثم أعتقل 4 منهم وكان في مقدمتهم الشيخ عبد الله الشرقاوي ثم ارسلوا إلى القلعة ومكثوا في سجنهم مائة يوم و تم أطلاق سراحهم بعد معاهدة جلاء الفرنسيين عن مصر و كثيرا ما كان يقول الفرنسي مينو : يارب كيف تنتهي هذه الحملة في مصر و كيف نؤمل المساعدة وقيد حيل بيننا و بين بلادنا ؟
وبعد خروج الفرنسيين من مصر لم يدخر الشيخ عبد الله الشرقاوي جهدا في الدفاع عن وطنه و دحض أي مظلمة تصيب بني وطنه من قبل الاتراك فعندما قام الوالي التركي خورشيد باشا بفرض ضريبة جديدة على أهالي القاهرة و قد سبق أن طلب خورشيد من العلماء نفس المطلب فثار الشعب فما كان من الزعماء إلا أن اجتمعوا في الثاني عشر من شهر صفر سنة 1220 هـ في بيت القاضي وكان في مقدمتهم الشيخ الشرقاوي و قرروا أختصام خورشيد باشا الوالي التركي فعلم الشعب بذلك فاجتمع ما يقرب من 40 ألفا وقاموا بمظاهرة ضد الأتراك و ظلمهم السافر ثم طلب القاضي وكلاء الوالي وعندما حضروا إليه عقدوا عقد المجلس وتم عرض مظالم الشعب و مطالبهم وهي :
1- عدم فرض أي ضريبة علي القاهرة إلا بعد أن يقرها العلماء و الأعيان .
2- جلاء الجنود عن القاهرة وأنتقال حامية القاهرة إلى الجيزة
3- عدم السماح بدخول أي جندي إلى مدينة القاهرة وهو مسلح .
وبعد أن وصلت رسالة القاضي إلى خورشيد باشا و هى محملة بهذه المطالب شعر أن موقفه خطيرا فأرسل إلى العلماء بمقابلته ولكنهم لم يذهبوا لأنهم فطنوا لمؤامرته و مكيدته فما كان من خورشيد باشا إلا رفض مطالب الشعب فقام العلماء ووكلاء الشعب باجتماع في الثالث عشر من صفر 1220هـ في المحكمة و اتفقوا مع الشعب على عزل خورشيد باشا و أختيار محمد علي واليا علي مصر و أبلغوه بذلك فتردد محمد علي في أول الأمر ثم قبل بعد أن أوضح له الشيخ عبد الله الشرقاوي و السيد عمر مكرم بأن هذه هى رغبة الشعب المصري ثم ألبساه خلعة الولاية .. وهذه هى أول مرة في تاريخ مصر الحديث يعزل فيها الوالي و يختار بدله بقوة الشعب و أرادته .
وقد كان محمد علي بالفعل عند حسن الظن فقد تولى ولاية مصر في السابع عشر من مايو عام 1805 وحتي الأول من سبتمبر عام 1848 م ولقب بباني مصر الحديثة حيث أقام المشاريع الصناعية و الزراعية و بني الأسطول و المدارس و أهتم بالتعليم وأقام لمصر أقوى جيش في عهده و توسعت حدود مصر لتصل إلى فلسطين و الشام و الحجاز و الحبشة مما أستدعى قيام الدول الأوروبية أصحاب المصلحة بالإجتماع مع الدولة العثمانية في عام 1840 وتوقيع معاهدة في لندن تقضي بعودة مصر إلى حدودها القديمة وبقاء حكم مصر وراثيا لأسرة محمد علي .
و في الثاني عشر من شهر أغسطس عام 1849 توفى محمد علي بالإسكندرية ودفن بمسجده بالقلعة .
هذا هو الشيخ الجليل و العالم الوطني عبد الله الشرقاوي الذي عاش لخدمة العلم و دافع عن بني وطنه و رفض بشدة أي ظلم يحيق بهم هذا هو الشيخ الجليل قائد حركة التطوير بالأزهر الشريف و صاحب الأثار العلمية المتعددة و التي تدل على عبقريته و علمه النافع .. وقد قال عنه الجبرتي : ( .. وله مؤلفات دالة على سعة فضله من ذلك : حاشيته على التحرير و شرح نظم يحيى العمريطي و شرح العقائد المشرقية و المتن له أيضا و شرح مختصر في العقائد و الفقه و التصوف و مشهور في بلاد داغستان و شرح رسالة عبد الفتاح العادلي في العقائد و مختصر الشمائل و رسالة في لا إله إلا الله ورسالة في التصوف و شرح ورد سحر بالبكري و مختصر المغني في النحو .. و غير ذلك .
رحم الله الشيخ عبد الله الشرقاوي .