الحاج محمود شكري
شخصيات في حياتي
الحاج محمود شكري
الحاج محمود شكري |
جمال سعد حسن ماضي |
الحلقة الأولى
1 - أول لحظة حب
فى بداية الدعوة كنت مشاركا في تنظيم إحدى الحفلات وكان الشباب يقومون باستقبال الوافدين و تهيئة أماكنهم , وكنت واحدا منهم، فإذا برجل يأتى مقبلا علىّ وجهه هالة من نور ما ان وقع نظرى عليه إلا ونبض قلبى بنبضة حب، وحسبته يحتاج إلى خدمة ، فاقبلت عليه بهذه المشاعر، وكأن اللقاء بين قلبين ولم يكن بين رجل وشاب صغير، وصافحنى وأراد أن يتعرف علىّ وابتدرنى باسمه : محمود شكرى من الإخوان المسلمين، وعرفته باسمى، ودار حديث حول ماضى ومن أين وكيف استقرت العائلة فى الأسكندرية، ثم حدثنى عن إعجابه بعملى فى الحفل ثم رحل، ولكن بقيت كلمات التقديرمع مشاعرالحب ونبضات القلب، وكم تمنيت لوأن اللقاء طال وامتد، وكانت بالفعل أول لحظة حب.
وبدأت أتعرف على الإخوان الخارجين من السجن، حتى حضرت لقاء مع الحاج/ أحمد البس تحدث فيه عن مذبحة طره وكيف أنه كان من الناجين القلائل وكان عاريا ومن كثرة ضرب السياط على ظهره، ظن الذى يليه أنه يرتدى ثيابا حمراء فقد كانت دماء على لحم مهرى!! فتشبث بها، فإذا بالجلد يسقط فى يده!! تخيلت ما قال الحاج/ أحمد البس، فتكونت صورة للإخوان بأنهم المقهورون المظلمون المضروبون، وبقيت أياما متأثرا بالمذبحة وأتخيلها حتى تكونّ فى مخيلتى أن هذا هوطريق الإخوان !!
ثم أن قدرالله ميعادا لزيارة أحد الإخوان: فإذا بالزيارة الى الحاج/ محمود شكرى فى منزله بالورديان، وتحققت الأمنية، وكان حديثه حول الإخوان فى مشهد آخر: أنهم زرعوا السجن طماطم وخضروات وفاكهة وورود , ثم مشهد الإيثارالجميل، فقد كانت تهرب إليهم قطعة الجبن المثلثات، فيقسمونها بعددهم فى الزنزانة!! ليس الأمر فيما يتوفرلكل منهم، بقدرالإيثاروالحب والعاطفة واعتدلت والحمد لله صورة الإخوان فى مخيلتى المبتدأة بعد حديث المذبحة!! وتأكد فى قلبى الحب للحاج محمود، ولم يصبح لحظة ومرت، بل لحظات وممتدة.
2 - وبدأت خطوات الدعوة
وكانت أولى خطوات الدعوة، يدى فى يد الحاج/ محمود، أقف فيرفعنى وأتعثر فيدفعنى، وأسقط فينتشلنى، وأرتفع فيفوضنى , فاكتسبت ولله الفضل، خبرات عملية ، يندروجودها فى الكتب ، ولايعرفها إلا من كان ماهرا فى بطون الكتب!! ولا يدركها إلا من تذوقها!! فازدت نشاطا فى الدعوة ، وسعيا فى الممارسة ، وكنا رغم شبابنا وفتوتنا لا نستطيع أن نلحق بحركته وسعيه ليلا أو نهارا. وفى عام 1978 م تم تأسيس دار الدعوة وكان لى الشرف فى العمل معه ، مع بدايات الدار، فى قسم النشر، فوجدتنى فى بيئة ثقافية علمية مع أهل التخصص وعلى رأسهم الأستاذ/ محمد عبد الحكيم الخيال وكانت أولى خطوات التأليف فرغم أن الكثيركان متخوفا من التسرع!! إلا أن الحاج/ محمود دفعنى وشجعنى، وهكذا كان دبدنه مع كل مريديه يرفع ويدفع ويشجع بل إنه تبنى أولى الكتابات ( الجنة والنار رأى العين فقه النفوس كشف الكربة بوصف حال أهل الغرية) ثم الدعوة المؤثرة التىأوضحت فى المقدمة فضله على الكتاب.
وأصبحت أعمل مع الحاج/ محمود دعويا فى غرب الاسكندرية ومهنيا بدارالدعوة حتى أصبح لى أبا ووالدا بعد وفاة والدى الذى توفى عام 1982م.
3 - العبرة بمن صدق
( ليست العبرة بمن سبق ولكن العبرة بمن صدق ( , هذه العبارة المشهورة على لسان الحاج، وكان ترجمة حقيقية لها، لا يبحث عن اسم أو كيان أو مكانة!! بل جندى صادق ، تراه فى الليالى، فى المؤتمرات، فى الندوات، فى المعسكرات، فى الاعتكافات، فى الزيارات، فى المناسبات، حتى انك لو سألت الإخوان لقالوا: إنه ( لا يغيب لحظة عنا) فالتحم باخوانه وامتزجوا به، فأصبح الأخ والأب و الشقيق والوالد، يستريحون إليه , صندوقا لأسرارهم، وملهما لأعمالهم، فينبسطون معه حبا، يبتادرون لأمره طاعة وجندية، فأقام معسكر أبى يوسف وكم من الليالى كان لاينام، مع الشباب فى الإعداد والحركة ، أو مع القادة فى الرأى والفكر، أومع الضيوف فى الاستقبال وحسن الضيافة ، والسؤال من أين استمد هذه الطاقة وهذا الصدق؟!.
هذا يأخذنا إلى خطواته الأولى فى السيدة زينب بالقاهرة، حين كان يستمع إلى الإمام البنا فينهل من كلماته زادا، ومن أعماله تضحيات، ويذكر لنا مؤكدا على الصدق أن الإمام البنا كان يخرج فى الجوالة على العازفين و مستخدمى الطبلة ليقول لهم : تقبل الله، فليست العبرة بالشكل وإنما بالصدق!!
وربما حياته العسكرية بالبحرية ثم ارتياده البحر فى السفن، حفر فى ذاته الجندية والتعلق بالله تعالى، يحكى أنه دخل على أحد العساكربالبحرية وهو يصلى ولا يستوى ظهره، فقال له : نزل ظهرك شوية يا فلان فقال العسكرى : تمام يا فندم وهو فى الصلاة.
ويحكى أيضا أنه كان يضع السواك فى الكاب للاحتفاظ به أثناء الصلاة، فلما انتهى من صلاته وجد العساكرجميعا كل واحد يضع السواك كما يضعه قائدهم!! نعم إنها القدوة سرت فيهم , الأسوة به لما رأوا من صدقه وحبه للناس.
فى عام 1981م لم يكتب الله لى وله الاعتقال فى احداث سبتمبر، وكان الأمرالى الإخوان بحلق اللحى لا خوف ولكن للمحافظة على العمل الدعوى، وتردد بعض الإخوان فى حلق اللحية، وكان عددا يعد على الأصابع والحمد لله، فطلب الحاج / محمود أن يأتوا إليه فى مواعيد مختلفة بالمكتبة، ونحن لا ندرى لماذا طلبهم؟ هل سيقنعهم؟! أم سيعنفهم؟ أم يبهتهم بالأدلة الشرعية؟ أم يناظرهم؟! وكانت المفاجأة أن الحاج/ محمود جاء إليهم حليق اللحية فقط ، ثم كانت اللقاءات عبارة عن لحظة بصوته المميز: السلام عليكم يا أخى ، فقط , وانصرف كل واحد لينفذ الأمر فى راحة، دون أن يتكلم بكلمة واحدة ، هذا هو نفس الصدق الذى أشارت به أم سلمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية!! وتبقى العبارة الخاصة به حية ( العبرة بمن صدق وليس بمن سبق) .
الحلقة الثانية
4 - القائد المربى
الدكتور/ عصام شكرى كلما قابل والده يقبل يده، وكأنه يتضرع ، مثل الإمام / محمد بن سيرين لما سأل أحدهم لماذا يكون بين يدى والديه حاله هكذا ؟ فقيل له : هو هكذا يكون بين أيديهم كأنه يتضرع!! .
لم أجد إلا هذا المشهد أصف به ما أراه من حال الدكتور عصام ، وعندما جلست إلى الحاج/ يوسف على يوسف وهو أول من أنشأ شعبة بغيط العنب ثم أول من أنشأ شعبة الإخوان بالورديان , يحكى لى : أنه رأى فى السجن الحاج/ محمود يمسح الأرض بأوامر الزبانية , ثم ينادى الزبانية على ابنه د.عصام الذى اعتقل مع أبيه ، لتأمره بأن يصفع أباه، وتحت وطأة التهديد و التعذيب والإيذاء، يشجعه الأب على ضربه، والمشاعر تعتصر اعتصارا، وكعادة الحاج/ محمود لايحكى عذابات السجون ، لذلك يحكيها عنه غيره.
ولأنه من العسكريين جاءت الأحكام عليه بالاعدام ، مما تسبب فى وفاة زوجته وأم أولاده من الصدمة ، ثم خفف الحكم بعد ذلك ، وتبدأ رحلة العذاب ، وعذاب السجون , والتى يصر الحاج محمود على احتسابها عند الله , وإحاطتها بالخفاء وهذا شأن الصالحين من الأمة , وهو نفس منهج الأستاذ مصطفى مشهور, بعبارته المشهورة عنه : ( اعتبروا فترة السجن مرفوعة من الخدمة ) , والتى لم أفهمها إلا من إصرار الحاج محمود , ثم يخرج الحاج /محمود من السجن فيجد ابنه الأستاذ/ معتز الذى تربى بعيدا عن الاسكندرية ناصريا , بل و يحتفظ بتمثال لعبد الناصر!! وهو الأن من الدعاة المتميزين , أردت بهذه المقدمة أن أقول أن القائد لا يكون مربيا إلا بهذه المعاناة , لا يكون مربيا إلا وهذه الخبرات فى روعه وروحه ونفسه وقلبه ووجدانه ومشاعره وإحساسه ، ومن ثم فالتربية ليست نظريات وليست كلمات وليست تصنعات , وإنما هى تنطلق دون دراية، فهى أفضل خطة محكمة دون تخطيط ودون ورقة وقلم!!.
لقد كان حريصا على زواجى أكثر منى ، فكان يسأل عن عروسة لى ويذهب معى يطلبهم لى، ويحدث الناس عنى وعن مستقبلى ويؤجل ويسأل ويرفض , وما أنا إلا كالمشاهد يرى الأحداث تجرى وينتظرالنهاية!! .
حتى جاء عام 1985 م وكنت أعمل مديرا للنشر بدارالدعوة، فسألنى عندك بدلة، قلت: نعم , قال : ارتديها وتعال اليوم لصلاة التراويح فى مسجد مصعب!!
فارتديت البدلة وجئت الى المسجد، لأجده يسبقنى ويرتب أمرا، مع الأستاذ/ محمد حسين، والدكتو/ ابراهيم الزعفرانى واقتادونى بسيارة الدكتور/ ابراهيم بعد التراويح والسلامات، حتى اقتربت الساعة من الثانية عشربعد منتصف الليل وعند أول شارع خالد بن الوليد وكان يجلس بجوارى أ/ محمد حسين جاءت سيارة 2/1 نقل ، مكتوب على بابها أميرة ، فقال لى : انت عارف رايحين فين ؟ قلت: لا , قال : رايحين عند مراتك واسمها أميرة!!
وتحدث الوالد الحاج / محمود مع حماى الذى كان ضابطاً بالجيش ومن سوهاج ، قائلا: لنا ولكم أسبوع نسأل عنكم وتسألون عنا , وبعد أسبوع نذهب نحن الثلاثة أيضا مرة أخرى , عقب إفطار يوم الثلاثاء ( هذا ما وجدناه من ميعاد نتفق فيه نحن الأربعة ) ، وكانت فرحة الوالد الحاج/ محمود لا أستطيع أن أصورها وهو يعلن ان عقد القران بإذن الله سيكون فى مسجد عمر بن الخطاب ليلة غزوة بدر، يعلن ذلك لكل الاسكندرية ، وفى الحفل يأخذ الميكرفون لينشد لأول مرة نشيد ( ملكنا هذه الدنيا قرونا ) , ولك أن تتخيل صوت الحاج فى النشيد , وسأبحث عنه فإن قدر الله وجود التسجيل سأحمله بإذن الله لكم , فما أحوجنا إلى القائد التربوى، وعلى الذين يتأهلون للقيادة أن ينظروا إلى هذه المواقف العظيمة!!
5 - رحلة العمر
بعد انتهائى من فترة الجيش عام 1984 , قدر الله لى اداء فريضة الحج , ومن جميل قدر الله وكله جميل , ان أكون مع الحاج محمود والدكتور الزعفرانى , فقد تأخرت عن الذهاب معهما فى نفس الطائرة , ثم لحقت بهما بمكة , ولا أنسى حينما تعثرت التأشيرة وطلبت من الحاج الدعاء بالتيسير, وكنت أتمنى أن أحج معه , وكان بالفعل التيسير , فقد لحقت بآخر طائرة , والحمد لله استجاب الله دعاء الحاج محمود , وحقق الله أمنيتى , وكان على عبء البحث عنهما , حتى قدر الله لى مقابلة الرجل الفاضل الحاج صبري رمضان رحمه الله , سائق الحاج عباس السيسى والضابط السابق بالبحرية , الذى دلنى علي مكانهما , وبإذن الله لى معه حديث خاص حيث عمل بدار الدعوة فترة غياب الحاج عباس بالخارج سائقا للحاج محمود , وأقول ( عمل بدار الدعوة ) لأن الحاج محمود لم يشعرنا لحظة أنه سائق له , فربما وكان ذلك الأغلب يستقل الحاج محمود المواصلات تاركا السيارة لأعمال الدار , ولم أجد الحاج محمود فى سعادة وانسيابية وانبساط كما يكون مع الحاج صبري فقد كان يجمعهما حب عميق , يصل إلى التندر بالفكاهات , فإذا بالحاج يلقى بنكتته الوحيدة والشهيرة , والتى لا يقولها إلا فى حال سعادته : ( واحد صعيدى داس القطار على رأسه فقالوا : الحق ابنك داس القطار على رأسه , فقال : تاني !! ) , ومن أسرار الحاج إذا زادت سعادته عن هذا الحد يقول : الدنيا أقبلت !! .
وفى يوم عرفة كان من دعاء الحاج محمود دعاءه الشهير : ( اللهم دبر لنا فإننا لا نحسن التدبير ) , لم أشعر بحلاوته , ولم أتذوق معناه مثل اليوم , من التوكل والتفويض والثقة , ربما لاجتماع جلال اليوم , وصدق القلوب , وحمدت الله أن حقق أمنيتى فى أداء فريضة الحج مع الحاج محمود , بعد انقطاع الأمل من وجهة نظرنا ولكن المدبر له شأن آخر , الله دبر لنا فإننا لا نحسن التدبير .
وتمنيت أن يكتب الله لى أن أحج مرة أخرى معه , ولكن : كيف وأين وبماذا ؟ فدعوت المدبر , وفوضت الأمر إليه , حتى قدر الله لى العمل بالسعودية عام 86 , وأحج معه وكان معى هذه المرة زوجتى وابنى محمد , الذى كان مازال يحبو , ولا أنسى حينما كان الحاج يداعبه , فقال له بصوت صارم حاسم : تعال يا محمد امشى يا ولد , فجاءه ماشيا ملبيا الأمر , وسط دهشتنا الممزوجة بالضحكات من كرامة الموقف وطرفته , والتى لن ننساها , ولم لا وهى رحلة العمر ؟! .
الحلقة الثالثة
6 - الرجل المدرسة
حينما سألت فضيلة الشيخ السيد الصاوي عن الحاج محمود قال عبارة واحدة : ( الحاج محمود مدرسة ) , فأجملت هذه العبارة رغم قصرها معاني ضخمة , والإفصاح عنها يحتاج إلى شروح تطول .
في عام 1985 تبرع أحد الصالحين من خارج مصر بطبعات كاملة من كتاب ( مختصر ابن كثير ) , في طبعة أنيقة جدا , عبارة عن ثلاث مجلدات تجليد فاخر , وكان علينا استلام الكمية من السفارة السعودية بالقاهرة , الملحقية الثقافية , وكلفت باستلام الكمية الخاصة بالإسكندرية , وكانت عبارة عن تريلة نقل كبيرة , وكان الصندوق الواحد يحوي ثمانية نسخ من الكتاب , وكانت في مجملها مغامرة , سواء فى التحميل أوالنقل أو السفر , ثم في التخزين بالإسكندرية , ولكن عناية الله تعالى لم تجعلنا نفكر في الأسباب رغم إحكامها , بل الأمر كان يسير في سلاسة بعون من الله , وكان القائم على رأس هذه المغامرة بالقاهرة المهندس محمد سليم وسأفرد له حديثا خاصا بإذن الله .
المهم وصلت بأمان إلى الإسكندرية مع أول نسمات الفجر , ومعى السائق وتابعه , فماذا أصنع بكمية كبيرة : ( 500 صندوق بواقع 400 نسخة بما يساوي 12000 مجلد ) , وكان معي مفتاح المخزن , فذهبت لصلاة الفجر حيث كان الإخوان يتجمعون , ووفقني الله بإعداد عدد من الإخوان للمساعدة فى عملية التخزين , ثم ذهبت إلى الحاج محمود بمنزله بالورديان , وعلمنا أن الكميات الذاهبة إلى الفيوم تم مصادرتها , فتعجبنا حتى نشر العلم والقرآن وتفسيره , أصبح مصادرا ومطاردا !! .
وفى هدوء يستقبل الحاج محمود الخبر , ثم كان من حكمته أن قال لي : أذهب إلى بيتك , وخذ قسطا من الراحة ثم تعال مرتديا بدلة إلى العمل .
وفى الساعة الحادية عشر ذهبت إلى العمل , فإذا بالحاج قد اتصل بالاسكندرية , وفي وقت قياسي تم توزيع كل الكمية !! , مع الاحتفاظ بثمان صناديق وضعت بمخزن اسبورتنج , وعندما وصلت قوات الاستيلاء على التراث الإسلامي , وفتشوا فلم يجدوا شيئا , ثم ذهبوا إلى اسبورتنج فلم يجدوا إلا الثماني صناديق فأخذوها , وعلمت بعد ذلك أن النسخ قد وزعت هدايا فى احتفال عيد الشرطة !! فقلت الحمد لله : المال الصالح للرجل الصالح ممتد حتى ولو كان بنية الاستيلاء عليه , والسؤال فى هذا الموقف كيف استطاع الحاج محمود في وقت قصير جدا أن يوزع هذا العدد الهائل من العلم الخيري , فى هدوء وحكمة , قبل أن يستيقظ المستولون عليها !! , لا أستطيع إلا أن أقول مرددا ما قاله الشيخ السيد الصاوي : الحاج محمود مدرسة !!! .
وتشهد على ذلك البيوت السكندرية التى مازالت تنهل من التفسير , ومازالت عامرة بمختصر ابن كثير , وربما إلى الآن لا تعرف هذا البيوت كيف وصل إليها , وما عاناه الحاج محمود من تفتيش وبطش وترويع !!! ؟ ويبقى الدرس( سر القيادة ) في حكمتها وهدوئها وتعقلها وايثارها الناحية العملية على الانفعال أو الكلام ! , و بالفعل هو:
( الرجل المدرسة ) .
7 - روح الإسكندرية
فى عام 1995 صدرت الأحكام العسكرية في قضية 8 و11 عسكرية , وكانت تأتيني رسائل الحاج محمود, وكنت أبادله الرسائل , حتى جاءني في إحدى الزيارات كتاب ضخم كبير , قيل لي هو إهداء لك من الحاج محمود , وكانت المفاجأة حينما فتحته لأجده مختارات من الأشعار المختلفة فى العصور المختلفة , وسبحان الله كأن الكتاب رسالة إلى وجداني , فقد شرعت في استعارة ما درسته في اللغة العربية من علم العروض , فكتبت الشعر في هذه الخلوة الربانية , بل سجلت كتيبين صغيرين عن ( علم العروض ) للمبتدئين , دارالكتيبان بين الزنازين , فكتب على إثرها الشعر الكثير من الإخوان , وكان الفضل في ذلك لهذه الهدية التى أتتني على موعد رباني من الوالد الحاج محمود , ومن أعاجيب الأقدار أن يحدث حريق داخل الزنزانة وكنا ثلاثة ولكل أخ ركن فأتت النيران على كل ما أملك دون أن تمس شيئا غير ركني , ولم يتبق من الحريق سوى المصحف وكتاب الحاج محمود ومازلت أحتفظ بهما إلى الآن .
ثم أن خرجت في عام 1998 م , لأستكمل رحلتى مع الحاج محمود , وأعوض ما حرمتني الأيام من سعادتي اليومية , بالعمل مع الحاج محمود , ورؤيته والعمل معه والاقتراب منه , خاصة بعد اختياري عضوا بمكتب اسكندرية لأعمل تحت قيادته .
وبعد أن تولى الأستاذ محمد حسين رئاسة المكتب , تفرغ الحاج محمود ليكون ملهما للاسكندرية كلها , فأصبح روح الإسكندرية , لم يتخلف عن لقاء أو اجتماع , أو مؤتمر , أو حفل , أو تجمع ,أو أي عمل اجتماعي للإخوان , ويشهد على ذلك يوم اعتقال مكتب المحافظة في إبريل سنة 2003 م , فقد كان الحاج في زيارة للمكتب كعادته , ورغم سنه اعتقلوه , وهو البالغ حينذاك 84 عاما , وقد ضرب لنا المثل : فلم يأبه بشىء كعادته , صلبا , شابا , قويا , فإن اعتقلوا جسده فقد بقيت روحه تلهم رجالها وتفجر طاقاتها , ولم لا وهو روح الإسكندرية ؟ ! .
أرأيتم إلى غير يوسف عليه السلام يعرض عليه الخروج من السجن فيأبى !!؟ , هذا ما حدث مع الحاج محمود , حينما استيقظت فجأة وزارة الداخلية من سباتها فأمرت بالإفراج صحيا على مجموعة كان على رأسها الحاج محمود الذي رفض الخروج قائلا : ( أريد أن أموت هنا في السجن ) , وكانت رحلة العودة من أطرف الرحلات , كما روى لنا الأستاذ محمد حسين : رحلة خاصة جدا, فكانت من المواقف الكريمة التي تضاف إلى حياة الرجل الصالح , بتدبير من المولى تعالى .
أما عن أقدار الله في سجنه وهو في هذه السن , فقد لمسنا عجبا , فقد كنا نخرج من الزنازين على ساعات من اليوم , حتى لا نري ولا يرانا الإخوان في الزنازين الأخرى , ولكن تدبير الله للحاج أن سمح له بالتواجد خارج الزنزانة طيلة اليوم , فكان البلسم لكل الإخوان يتوافدون عليه في كل ساعات اليوم , فلا يكل من ذكر تاريخ الإخوان , والمواقف التربوية , والنصائح الدعوية , فكأنه في مهمة ربانية إخوانية , لو أنفق الإخوان ما في الأرض جميعا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا , خاصة أن المهمة كانت : لمن اختارهم الله تعالى في هذه المنحة الالهية ( ولله في خلقه شئون ( .
وبعد أن انقضت مهمة الحاج محمود عاد الجسد للإسكندرية , فعادت الحياة مرة أخرى , فهو يصر على التواجد بالمكتبة يوما كل أسبوع , من أجل شىء واحد : أن يرى إخوانه وأبناءه و أحفاده في الدعوة , فهم أهله بعد أهله , فالدعوة حياته , وحياته الدعوة .
أزوره لأفاجأ به يحدثنى عن صحتي والاهتمام بها , ويطمئن عن الأولاد كل باسمه , نفعنا الله بعمله , وثبتنا على القرب منه , والنهل بين يديه , فمن أراد أن يحيا فليذهب إليه فى مكتبته كل يوم إثنين , يستمد روحا من روح الإسكندرية.