الرئيس علي عزت بيجوفيتش
الرئيس علي عزت بيجوفيتش (رحمه الله)
مفكرّاً، ومجاهداً، وسياسياً
الرئيس علي عزت بيجوفيتش (رحمه الله) |
عبد الله الطنطاوي |
تمهيد:
أول ما سمعنا عن الرئيس علي عزت، من بعض طلابنا في يوغسلافيا، وكان الرئيس علي معتقلاً في سجون الشيوعيين، وقال لنا أولئك الطلبة الأحباب:
- إن الدكتور علي عزت مثقف إسلامي كبير، ويصفه العلماء والمفكرون بأنه سيد قطب أوربا.
وعندما التقينا العالم المجاهد البوسنوي الشيخ علي يعقوب -رحمه الله تعالى- في استانبول عام 1984 تحدّث عن الشيخ علي عزت بإعجاب، ودعا له، ودعا على جمال عبد الناصر الذي يصادق (تيتو) عدو الإسلام والمسلمين، والحاقد الأكبر على الشيخ علي عزت.
نشأته:
ولد الرئيس علي عزت عام 1344هـ/1925م في مدينة بوسانا كروبا، شمال غربي البوسنة، في أسرة عريقة في إسلامها، وتعّلم في مدارس مدينة سراييفو التي أمضى حياته فيها، وفيها أكمل تعليمه الثانوي عام 1943 والتحق بجامعتها، وحصل على الشهادة العليا في القانون عام 1956 ثم نال شهادة الدكتوراه عام 1962 وعلى شهادة عليا في الاقتصاد عام 1964 ويقرأ ويتحدث ويكتب باللغات الأجنبية: الألمانية، والفرنسية، والإنكليزية، مع إلمام جيد بالعربية.
بعد تخرجه في كلية القانون، عمل مستشاراً قانونياً مدة خمس وعشرين سنة، ثم اعتزل الحياة الوظيفية، ليتفرغ للبحث والكتابة، وينخرط في العمل العام، داعياً إلى الله على بصيرة، وبالحكمة والموعظة الحسنة، فقد فتح عينيه على مظالم ومآس وكوارث ينزلها الكفرة من الصرب الأنذال، والكروات المتعصبين، على أهله وأبناء ملته، فنذر نفسه للدفاع عن إسلامه، والذّياد عن قومه وأبناء دينه، فأمضى حياته كلها في ميادين العمل الإسلامي والوطني، يكتب، ويحاضر، ويشارك في المؤتمرات والندوات، ويسهر مع الصغار والكبار، لتوعيتهم، وتربيتهم على الجهاد، ليكونوا أهلاً لحمل الإسلام، وأبناء بررة لوطنهم الذي استباحه الملكيون المتعصبون، ثم الشيوعيون الملاحدة الحاقدون على الإسلام والمسلمين، وقد برزت أحقادهم في المذابح التي فعلوها بُعَيْدَ استلامهم السلطة، بعد الحرب العالمية الثانية، ثم بعد استلام تيتو للحكم عندما بادر إلى نصب المشانق لعلماء المسلمين في يوغسلافيا، دون ذنب ارتكبوه سوى أنهم مسلمون متمسكون بإسلامهم.
شخصيته:
لم يكن الدكتور علي عزت رئيساً عادياً كسائر رؤساء الجمهوريات الذين تسلموا هذا المنصب في العالم الإسلامي، بل كان:
سياسياً داهية.
ومناضلاً عنيداً.
ومفكراً عميقاً
وذا نظرة إسلامية بعيدة جعلته يتجاوز حدود البلقان، إلى سائر أنحاء العالم الإسلامي، ليحمل هموم المسلمين حيث كانوا، ويعمل مع العاملين لنهوض المسلمين، بعد تخليصهم من أوضار التخلف الذي أطمع الغرب والشرق بهم.
لقد كان الرئيس علي عزت صلباً في قلب الأحداث، لا يرضى إلا أن يكون مع أبناء شعبه، يعاني معه ما يعاني، ولهذا رفض مغادرة سراييفو، وبقي تحت الحصار الدامي، وعندما أراد الخروج للبحث عن دعم لقضية بلاده، قام بمغامرة جريئة، ونزل في نفق طويل أسفل المطار الذي يسيطر الصرب على النقاط الاستراتيجية حوله.
وبعد أن اضطر إلى الموافقة على اتفاق (دايتون) استقال من رئاسة الجمهورية، ومن رئاسة الحزب، بعد أن أدّى واجبه كما لم يؤدّه أحد من الرؤساء والقادة في هذا الزمن، ليعيش مواطناً عادياً بين شعبه، وفي منزله المتواضع، وبين كتبه، محامياً عن شعبه الذي يستحق التضحية من أجله.
كتبه:
الرئيس علي عزت مفكر عميق، يغوص في الأعماق، ويأبى أن يعوم فوق السطوح، ومثقف أخذ نفسه وأحاطها بألوان الثقافة العصرية، كما ثقف العلوم الشرعية، وقرأ الكتب الفكرية الإسلامية المعاصرة، وجمع بين أصناف تلك العلوم التي حصلها من مصادرها الأمينة الموثوقة، غربية وإسلامية، فكان لنا منه مفكر عميق، ودارس واع للتيارات الفكرية المعاصرة، وثقفٌ لقفٌ قرأ فوعى، وكتب فأوعى، ولكنه لم يتفرغ للكتابة، لأن هموم الأمة الإسلامية عامة، وهموم مسلمي البلقان خاصة، والمحن والابتلاءات التي مرّوا بها، والمآسي والكوارث التي نزلت بهم. كان كل هذا يشغل الحيّز الكبير من حياته، وحركته، وتفكيره، فقد كان يكافح على عدة محاور، ولو تفرغ للقراءة والكتابة، لكان لنا منه مؤلف كبير، ولزوّدنا بثقافة ثرّة، ولأغنى المكتبة الإسلامية بمؤلفات قيمة، ولكن الخير فيما يختاره الله، ولقد سدّ الرجل ثغرات في المسيرة السياسية والكفاحية لمسلمي البوسنة والهرسك، ما كان غيره ليقوى على سدّها، والله أعلم.
ومع ذلك، ألّف الرجل عدّة كتب، وكتب العديد من الأبحاث، وقدّم الكثير من المحاضرات، في ميادين فكرية، وسياسية، ودعوية.
ومن هذه الكتب التي ألفها:
1- هروبي إلى الحرية. كتبه في السجن، عندما اعتقله الشيوعيون عام 1949 بسبب نشاطه السياسي، ولانتمائه إلى جمعية الشبان المسلمين، وحكموا عليه بالسجن مدة خمس سنوات.
2- البيان الإسلامي. وهو مجموعة مقالات كان نشرها في مجلة (تاكفين) باسم مستعار. وهذه المجلة كانت تصدرها جمعية العلماء في البوسنة، وكان يقرؤها خمسون ألف مسلم، وقد جمعها ابنه الأستاذ بكر، وأصدرها في كتاب بعنوان (البيان الإسلامي) وهو شرح لأساسيات النظام الإسلامي، وقد أثار نشر هذا الكتاب ضجة كبيرة، واستاء منه الخبثاء من الصرب والكروات، ووصفوه بالمنفستو الإسلامي الذي يدعو إلى الجهاد المقدس، لإقامة دولة إسلامية في قلب أوربا، وقدّموا الأستاذ علياً مع أحد عشر من زملائه المثقفين الإسلاميين إلى المحاكم، وحُكم عليهم بالسجن أربعة عشر عاماً، بتهمة العمل ضدّ نظام الدولة وأمن شعبها. وكان هدف المحاكمة، قمع كل فكر إسلامي، والقضاء على أصحابه. كان هذا عام 1983. وقد عدّ الشيوعيون والأوربيون هذا الكتاب وثيقة اتهام لعلي عزت وللإسلام معاً، فقد تلقفته الدوائر الغربية التي تصنع القرارات المتعلقة بمأساة البوسنة، لتصفية دولة البوسنة، وتحويل شعبها إلى لاجئين، والكتاب برئ من كل تلك الاتهامات الملفقة.
كان هدف الأستاذ علي من هذا الكتاب أن يجمع شباب المسلمين في يوغسلافيا على مفاهيم واضحة، وبسيطة، وعملية، وأن يكون –الكتاب- دليلاً مرشداً في العمل الإسلامي، وليس فيه ما يمسّ أمن الدولة، وليس فيه ذكرٌ لنظامها أو أي إشارة إليه، ولهذا كانت المحاكمة شبه سرية، وسريعة حتى لا تلفت الأنظار.
وقد انتشر هذا الكتاب انتشاراً كبيراً في أوساط الإسلاميين، وتدارسوه سراً وناقشوه في حلقات ضيقة، وأثار لديهم الكثير من التساؤلات حول مستقبلهم، وهويتهم.
3 – الإسلام بين الشرق والغرب. وهذا الكتاب الكبير هو أشبه بموسوعة علمية، هزّ به أركان العالم الغربي، فقد خاطب به قادة الفكر هناك، وكان فيه عالماً، وفيلسوفاً، وأديباً، وفناناً مسلماً تمثّل كلّ ما أنجزته الحضارة الغربية، ثم ارتقى بتلك العلوم عندما ربطها بهدي السماء الذي جاء به الإسلام.
لقد وقف في هذا الكتاب أمام العالم بأسره في محنة بلاده التي خذلها الغرب المتحضر، كما خذلها الشرق، وهي تعاني مأساتها على أيدي مجرمين شياطين عرفت البشرية أمثالهم لدى محاكم التفتيش، ولدى الستالينيين، ولدى العصابات الصهيونية في فلسطين المحتلة، وهم جميعاً لا يعرفون معنى للرحمة، أو العدالة، أو الإنسانية، فهم أشدّ ضراوة من الوحوش الكاسرة.
عندما أوشك علي عزت أن ينهي كتابه هذا، اعتقله الشيوعيون وأودعوه السجن، ولم يتمكن من نشره -آنذاك- في لغته الأصلية (الصربو-كرواتية) واستطاع صديقه حسن قرشي أن يهرّب الكتاب إلى كندا سنة 1983 واستكمل الاستشهادات وعزاها إلى مراجعها، ثم ترجمه إلى اللغة الإنكليزية، ونشره في أمريكا سنة 1984 ثم أعيد طبعه عام 1989 وهذه الطبعة هي التي ترجمت إلى اللغة العربية.
إنه "كتاب ثري بأفكاره، متميز بمنهجه، أخّاذ بأسلوبه، وقوة منطقه، وثقافة صاحبه العميقة الواسعة، فهو متمكن من الثقافتين: الإسلامية والغربية معاً، وهو مسلم حتى النخاع، وأوربي بالمولد والنشأة والتعليم، استوعب الفكر الغربي، ولكنه لم يغرق فيه" وأدرك مواطن الضعف والتناقض والقصور فيه أيضاً، وأطلعنا على حقائق لم تلفت انتباهنا من قبل، وقد اتسق منهجه التحليلي في تقصي الحقائق، مع هدفه الذي عبّر عنه بقوله:
"لكي نفهم العالم فهماً صحيحاً، لا بدّ أن نعرف المصادر الحقيقية للأفكار التي تحكم هذا العالم، وأن نعرف معانيها".
ألا ما أصدق هذه الشهادة للمفكر الأوربي المحايد (وود وورث كارلسن) بهذا الكتاب ومؤلفه:
"إن تحليله للأوضاع الإنسانية مذهل، وقدرته التحليلية الكاسحة تعطي شعوراً متعاظماً بجمال الإسلام وعالميته".
4- عوائق النهضة الإسلامية.
5- الأقليات الإسلامية في الدول الشيوعية.
جوائزه:
الرئيس المفكر الداعية علي عزت فوق الجوائز، ولم يكن يتطلع إليها، ولا يسعى لنوالها، بل كانت هي التي تأتيه طوعاً، فقد عرفه البوسنيون، والعرب، والمسلمون، والمثقفون، والسياسيون من سائر الأجناس، وكان عارفو فضله ومقامه في ميادين السياسة، والفكر، والدعوة، هم الذين يرشحونه، وهم الذين يمنحونه الجائزة تلو الجائزة، ومن هذه الجوائز:
1- جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1993م.
2- جائزة (مفكر العام) من مؤسسة علي وعثمان حافظ عام 1996.
3- جائزة مولانا جلال الدين الرومي الدولية لخدمة الإسلام في تركيا.
4- جائزة الدفاع عن الديموقراطية الدولية، من المركز الأمريكي للدفاع عن الديموقراطيات والحريات.
5- جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم (رمضان 1422هـ)، تقديراً لجهوده في خدمة الإسلام والمسلمين.
كفاحه السياسي:
كان الفتى علي عزت ذا شخصية متميزة بالجدّ والاجتهاد، والتأمل في أحوال المسلمين في بلاد البلقان، وهي أحوال متردية مادياً ومعنوياً، فالحكم الشيوعي الذي جاء بعد انهيار الحكم الملكي، كان إلحادياً، شديد الوطأة على الإسلام والمسلمين، كما كان الحكم الملكي من قبل، بل كان أشدّ وأقسى وأمرّ، وقد سمعنا من الشيخ علي يعقوب الذي أنجاه الله من مذابح الملكيين والشيوعيين وهو طفل صغير، سمعنا منه في استانبول عن بعض المذابح والأهوال التي كان يلقاها مسلمو البلقان على أيدي أولئك المجرمين من الملكيين المتعصبين لنصرانيتهم، الحاملين أحقادهم التاريخية على الإسلام والمسلمين، فهؤلاء كانوا يتفقون مع الشيوعيين على حرب المسلمين.
فكّر الفتى علي عزت فيما يمكن أن يقوم به من أجل المسلمين، فهداه تفكيره إلى إنشاء جمعية أسماها (جمعية الشبان المسلمين) ودعا إليها نفراً من زملائه الطلبة، وكان في السادسة عشرة من عمره، وكانت الجمعية أشبه بنادٍ مدرسيّ يعمل لجمع الطلبة المسلمين، وتوعيتهم، وتثقيفهم ويتحاور فيه الطلبة، ثم انتقل بالطلبة من الكلام إلى العمل، فقامت بأعمال خيرية، وثقافية، وأنشأت قسماً للفتيات المسلمات، وقدمت خدمات ومساعدات للمحتاجين إبّان الحرب الكونية الثانية، وسعت إلى بناء الشخصية المسلمة السوية الواعظة التي تفهم زمانها، وتستقيم طريقة تعايشها مع الوسط الذي تتعامل معه.
وأبناء هذه الجمعية وعلى رأسهم علي عزت، كانوا متأثرين بالأفكار الإخوانية التي نقلها إليهم الطلاب البوسنيون الذين يدرسون في الأزهر، ويحتكون بطلبة الإخوان هناك. وقد عرفوا منهم أن الإسلام ليس هذه العبادات التي يؤديها المسلمون وحسب، بل هو: دين ودولة، عقيدة وشريعة، مصحف وسيف.
وبعد حوارات طويلة، انتهى أبناء الجمعية إلى أن الإسلام أيديولوجية يجب أن تكون واقعاً في الحياة، وليست محصورة في حدود الفرد وعلاقته بربه، من خلال العبادات، كما يفهم المسيحيون الأوربيون دينهم، ويريدون تعميم فهمهم هذا على سائر الأديان، وليس الإسلام كذلك، فهو دين العقيدة، والعبادة، ودين المعاملات التي تشمل سائر المجالات الحياتية.
قرأ علي عزت ما وصل إليه من كتب الإخوان، وتأثر بأفكارهم، وتجاربهم، وأُعجب بتاريخهم الجهادي، وبعملهم التنظيمي، والدعوي، وبكفاحهم السياسي، كما اطلع على تجارب الحركات الإسلامية الأخرى في الهند، وباكستان، وأندونيسيا، وقرأ بعض كتب المودودي والندوي، ورئيس وزراء أندونيسيا الأسبق الدكتور محمد ناصر، وتفاعل معها، وهو ما يزال طالباً يدرس القانون في جامعة سراييفو، وكان يتحرك في أوساط الطلبة البوشناق في الجامعة، ويحاورهم، ويقنعنهم بما اقتنع به من تلك الأفكار التي ألهمته الكثير، ودلّته على الطريق اللاحب الذي يجب أن يسير فيه، من أجل النهوض بشعبه البوشناق، وبسائر مسلمي البلقان، لتخليصهم من أتون الشيوعية الملحدة التي تريد أن تطمس هويتهم، وتقضي على دينهم الإسلامي الحنيف، وتجعلهم قطيعاً يعيش على هامش الحياة، كما تسير سائر القطعان الأخرى التي رزحت تحت وطأة الحكم الشيوعي الدموي.
في مواجهة النازيين
اجتاح هتلر بجيشه النازي يوغسلافيا واحتلها في نيسان (أبريل) 1941 وسارع بعض أبناء البلقان المتأثرين بالفكر النازي إلى تأسيس حزب (الأشتاشا) النازي، وحاول الشبان النازيون التأثير على الطلاب المسلمين، فتصدّى لهم الطالب علي عزت وزملاؤه في جمعية الشبان المسلمين وأفهموا الطلاب المسلمين أن الفكر النازي معادٍ للإسلام، وأن الحركة النازية ضدّ المسلمين، ويحرم على المسلم أن ينتسب إلى الحركة النازية تحت أي ذريعة.
واستطاع علي عزت وزملاؤه في الجمعية التأثير على الطلبة، فاستاء النازيون الألمان من الجمعية، وحاربوها، ولم يسمحوا لها بالترخيص والعمل الحر.
ضدّ الشيوعيين:
وعندما تحررت يوغسلافيا، ورحلت عنها الجيوش الألمانية، واتخذت الشيوعية مذهباً وديناً أواخر عام 1945 تصدّى الطالب الشاب علي عزت للشيوعية، كما كان يتصدّى للنازية، فاعتقله الشيوعيون مراراً، وهو طالب في الجامعة.
لقد كان الشيوعيون أقسى على المسلمين من النازيين والملكيين، فقد أغلقوا المساجد، ومدارس المسلمين وحوّلوها إلى ملاهٍ ومتاحف وبارات وحانات ومراقص، ومنعوا اقتناء المصاحف، وفعلوا الأفاعيل بعلماء المسلمين وبالمتدينين، قتلاً، وسجناً، وتعذيباً، ومطاردة..
لم يفتّ هذا في عزيمة الشاب، بل زاده صلابة وتصميماً على الكفاح، والعمل بأساليب شتى، فاعتقله الشيوعيون أكثر من مرة فما يزيده الاعتقال والتعذيب إلا إيماناً بصحة الطريق الذي يسير فيه، وتمسكاً به.
وكان عهد (تيتو) صديق عبد الناصر الأثير، من أشدّ العهود قسوة على المحامي علي عزت، حتى هلاكه سنة 1980 فقد كان هذا الديكتاتور الدموي يكره علي عزت، وعندما زاره عبد الناصر، سأله عن علي عزت، فأجابه تيتو:
- إنه رجل خطير.. أخطر من تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، فهو يطالب ويرى أن تتولى الحركة الإسلامية السلطة في كل بلد تكون لها الأكثرية فيه.
وقد حكم عليه بالسجن مدة خمس سنوات مع الأشغال الشاقة عام 1949 وكانت تهمته، أن له علاقة بجمعية الشبان المسلمين، مع أن هذه الجمعية ما كانت تتعاطى مع العمل السياسي، وكانت اهتماماتها مقتصرة على تعليم العلوم الشرعية، وعلى أعمال الخير.
وفي آب/ أغسطس 1983 حكموا عليه في محكمة سراييفو، مع أحد عشر شاباً من زملائه، بينهم شاعرة مسلمة –حكموا عليهم بالسجن أربعة عشر عاماً، بتهمة الانحراف نحو الأصولية، وكان من الواضح أن الحكام الشيوعيين هناك، رأوا أن فلسفة علي عزت، وما يدعو إليه، خطر عظيم على فكرتهم الماركسية الموغلة في الهمجية والتوحش.
الكفاح الدامي:
بعد تصدّع الأنظمة الشيوعية في أوربا الشرقية، وفي الاتحاد السوفياتي عام 1410هـ - 1990م وعدم قدرة تلك الأنظمة المنخورة الفاسدة على كبح جماح الشعوب التي بدأ تململها يظهر على السطوح، بعد عشرات السنين من القمع والاستبداد، اضطر الحزب الشيوعي اليوغسلافي إلى السماح بالتعددية السياسية، فاهتبل الدكتور علي عزت هذه الفرصة، وبادر إلى تأسيس حزب العمل الديمقراطي، وشارك في الانتخابات الرئاسية، وفاز فيها، وصار رئيساً لجمهورية البوسنة والهرسك، في جمادى الأولى 1411هـ الموافق لتشرين الثاني/ نوفمبر 1990. وأجرى استفتاء شعبياً على الاستقلال عن الاتحاد اليوغسلافي، كما استقلت كرواتيا وسلوفينيا، وصوّت الشعب المسلم على الاستقلال بأكثرية 63% ولكن الغرب الصليبي لم يرض بهذه النتيجة، فشنّ حملة إعلامية ظالمة ضد مسلمي البوسنة، الأمر الذي جعل الصرب الهمج ينقضون على البوسنة، في حرب عرقية دينية دموية، وحرب إبادة شاملة، وتطوع آلاف من نصارى أوربا للقتال في صفوف الصرب، ووقعت الدولة البوسنية الوليدة بين فكي كماشة، فالصرب من جهة، والكروات من جهة ثانية، استطاعوا تمزيقها، وكادوا يجهزون على شعبها الأعزل الآمن، بآلة الحرب اليوغسلافية الرهيبة التي كانت في أيدي الصرب المتوحشين.. جرى هذا على مرأى ومسمع من الأوربيين والأمريكان، وعلى مرأى ومسمع من الأمم المتحدة التي كانت اعترفت بجمهورية البوسنة والهرسك، بحيث غدت هذه الجمهورية عضواً في هيئة الأمم المتحدة.. لم يتحرك المجتمع الدولي الذي سبق له أن اعترف بهذه الدولة، ولا تحركت أمريكا، وتركوا الصرب والكروات، وعصابات (الشِّتْنك) الصربية الإرهابية، ومن انضمّ إليها من نصارى أوربا، يفتكون بالمسلمين، ويرتكبون المجازر الجماعية التي لم تُكتشف كل مقابرها الجماعية بعد، ويغتصبون حوالي مئة ألف امرأة وفتاة مسلمة، وهم (يتفرجون) عليهم، والمسلمون كالأغنام في الليالي المطيرة، لا حول لهم ولا طول، وكان على شعب البوسنة والهرسك، أن يختار بين الانضمام إلى الكروات أو الصرب، الخصمين اللدودين اللذين لا يجتمعان إلا على حرب المسلمين، وكان هذا الاختيار كالاختيار بين سرطان الدم، وسرطان الدماغ –كما قيل- والرئيس الداهية علي عزت، صاحب العين البصيرة، والفكر العميق، والنظرة البعيدة، واليد القصيرة –كان يسعى ويفكر في الطريقة التي تجنّب شعبه ما يمكن من الخسائر، فكان يتحرك هنا وهناك، ويعرض مقترحاته وأفكاره، ويضطر للتراجع أمام التواطؤ الغربي الأمريكي الذي لم يتحرك إلا عندما رأوا الصمود الأسطوري لذلك الشعب المسلم الذي بدت كفّته القتالية ترجح على الصرب الأوباش.
"لقد فُرض على شعب البوسنة حرب إبادة لتقويض وجوده المادي والمعنوي تماماً، وفُرض عليه حظر التسلح حتى لا يمتلك وسيلة للدفاع الشرعي عن نفسه، ووقف الغرب يتفرج على هذه المذبحة التاريخية للمسلمين، أما الصياح الذي يرتفع هنا وهناك عن مفاوضات السلام، وحقوق الإنسان، والمساعدات الإنسانية للمسلمين، وتدخّل النظام العالمي الجديد، والوجبات التي أسقطتها الطائرات ثلاث مرات في مكان، أو مرتين، على شعب محاصر جائع، على مدى ستة عشر شهراً.. كل هذا ليس إلا مظاهرات إعلامية للاستهلاك العاطفي".
من أجل إنقاذ شعبه، تقدّم الرئيس علي عزت بحلّ وسط إلى قمة رؤساء الجمهورية في شعبان 1411هـ - شباط 1991 يتمثل في إقامة (فيدرالية متناسقة) تلتئم فيها جمهوريتا الصرب والجبل الأسود، في اتحاد فيدرالي خاص بهما، وكرواتيا وسلوفينيا في اتحاد كونفدرالي خاص بهما، والبوسنة ومقدونيا في اتحاد خاص يتفقان على شكله، ثم يتمّ إيجاد إطار يوغسلافي موحّد يضمّ هذه الاتحادات الثلاثة، بشرط أن تتمتع جميع الجمهوريات داخله بالسيادة والاستقلال.
كان هذا المشروع كفيلاً بإنقاذ يوغسلافيا من التمزق والانهيار، ومن الحرب الأهلية بين الجمهوريات والأعراق، لذلك حظي هذا المشروع بدعم الجماعة الأوربية، ولكن الصرب والكروات وسلوفينيا عارضوا المشروع، وكانت المحنة الرهيبة التي لن ينساها المسلمون لأولئك الحاقدين على مدى الزمان.. لن ينسوا ثلاث مئة وخمسين ألف شهيد، وحوالي مئة ألف عرض منتهك.. لن ينسوا المنازل التي هدموها على رؤوس أصحابها، ولا المساجد التي دمّروها، ولا الجرائم الكثيرة التي لا تخطر إلا على بال الأبالسة وعتاة المجرمين، ولن يقبلوا اعتذاراًَ من أوربا وأمريكا، ولا من الربيبة المدللة التي زرعوها في قلب العالم العربي.. أعني الكيان الصهيوني الغارق في إجرامه.
وفاته:
لقد لقي هذا الرجل الكبير الكثير من العنت في حياته الحافلة بألوان الجهاد، وفي سائر المجالات، وابتلي في جسمه وصحته، وعلتْ سنّه، دون أن تهن له عزيمة، أو تُفَلَّ له إرادة، فينصرف عمّا عاهد الله عليه، إلى أن لقي ربَّه راضياً مرضياً يوم الأحد، التاسع عشر من تشرين الأول المنصرم، عن عمر ناهز الثامنة والسبعين، بعد أن قضى أكثر من شهر في المستشفى، إثر سقوطه في منزله، وتهشّم أربعة من أضلاعه، تسببت في نزيف داخلي. وكان الرئيس، من قبل، قد تعرّض لأزمتين قلبيتين، وأجرى عملية زرع جهاز لتنظيم دقّات قلبه الذي تحمّل مالا تتحمّله القلوب، طوال ذلك العمر المبارك.
وقد أعلن راديو البوسنة وفاته، ولم يتمكن مسلمو البوسنة من إعلان الحداد الرسمي عليه، فقد اعترض على ذلك ممثل الصرب في الرئاسة الجماعية، لأن الصرب الحاقدين يعدون الرئيس علي عزت عدوّهم اللدود الذي وقف بدهاء وجرأة وذكاء في وجه أطماعهم في ابتلاع البوسنة والهرسك، من أجل إقامة إمبراطورية صربية طالما حلموا بها.
رحم الله الرئيس المجاهد المبرور الميمون النقيبة، الدكتور علي عزت بيجوفيتش رحمة واسعة، وأسكنه الفردوس الأعلى، جزاء ما قدّم لدينه وشعبه وأمته، وعوّض شعب البوسنة زعيماً مخلصاً صادقاً قوياً زاهداً بزهرة الدنيا ومناصبها، كالرئيس أبي بكر: علي عزت بيجوفيتش.
المراجع:
1 – الإسلام بين الشرق والغرب. تأليف الرئيس علي عزت بيجوفيتش.
2 – رسالة الإخوان –العدد 246 تاريخ 28 من شعبان 1424هـ الموافق 24/10/2003
3 – رحيل علي عزت بيجوفيتش. د. نورة السعد.
4 – علي عزت بيجوفيتش.. الرجل الدولة: أ. لطفي عبد اللطيف.