أبو سليمان الداراني
محمد فاروق الإمام
عاش على مائدة القرآن وكان يقول: لولا صلاة الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، كان رجل فريد في زمانه, تقي بكل ما أوتيت الكلمة من معان, سُمي (ريحان القلوب) لغاية لطفه, عاش على مائدة القرآن وعلومه في نهم دائم, كان يمشي في مناكب الأرض طلبًا للرزق من دون أن يشغله شاغل عن الله, أو يغويه شيطان بمعصية, كُني بأبي سليمان الداراني نسبة إلى قريته داريا القريبة من دمشق. اسمه الحقيقي عبد الرحمن بن أحمد العنسي. إنه جوهرة في عِقد التابعين ودُرةٌ بين المؤمنين، وشامة في جبين المسلمين.
ولد أبو سليمان عام (140هـ/757م)، وتوفي عام (205هـ/820م)، وتعلم العلم وأخذ وروى عن سفيان الثوري وجماعة من التابعين، ورأى وشاهد العلماء العاملين فتعلم الأدب مع الله تعالى كيف يكون ؟
رحل أبو سليمان الداراني إلى الله تعالى، وحط رحاله بدار المحبين الخاضعين الخاشعين، وكان الليل علامة اللقاء.
كانت له أختان تتنافسان في التقوى, كما جاء في كتاب "حياة الصالحين" لعبد المنعم قنديل, وتتسابقان في العبادة وتتباريان في الورع, وكأنما أراد الله لهذه الأسرة أن تستظل بالإسلام مبادئ وقيماً ومثلا, وأن تتشكل سلوكياتها وفق تعاليم السماء.
اتخذ أبو سليمان الداراني من الحديث النبوي الشريف: (اليد العليا خير من اليد السفلى) منهجاً لحياته, وكان يقول لكل واحد من أصحابه (ليس العبادة عندنا أن تَصُف قدميك وغيرك يَفت لك, ولكن أبدأ برغيفيك فأحرزهما ثم تعبد, ولا خير في قلب يتوقع قرع الباب ويتوقع إنساناً يجيئه ليعطيه شيئًا).
من بين كلماته الشافية الهادية التي أوردها كتاب "حياة الصالحين" قوله: تعرض لرقة القلب بمجالسة أهل الخوف, واستجلب نور القلب بدوام الحزن, والتمس باب الحزن بدوام الفكرة, والتمس وجوه الفكرة في الخلوات, وتحرز من إبليس بمخالفة هواك, وتزين لله بالإخلاص والصدق في الأعمال, وتعرض للعفو بالحياء منه والمراقبة, واستجلب زيادة النعم بالشكر, واستدم النعم بالخوف من زوالها.
وكان يقول أيضًا: لا عمل كطلب السلامة, ولا سلامة كسلامة القلب, ولا عقل كمخالفة الهوى, ولا فقر كفقر القلب, ولا غنى كغنى النفس, ولا قوة كرد الغضب, ولا نور كنور اليقين, ولا يقين كاستصغار الدنيا, ولا معرفة كمعرفة النفس, ولا نعمة كالعافية من الذنوب, ولا عافية كمساعدة التوفيق, ولا زهد كقصر الأمل, ولا حرص كالمنافسة في الدرجات, ولا طاعة كأداء الفرائض, ولا تقوى كاجتناب المحارم, ولا عدم كعدم العقل، ولا فضيلة كالجهاد, ولا جهاد كمجاهدة النفس, ولا ذل كالطمع. ومن كلامه في الصلاة, كما ذكر مؤلف كتاب "صلاة الصالحين وقصص العابدين" لأحمد مصطفى الطهطاوي, أن أبا سليمان الداراني كان كثيرًا ما يقول لأصحابه: لولا صلاة الليل ما أحبب البقاء في الدنيا, وما أحب البقاء في الدنيا لتشقيق الأنهار ولا لغرس الأشجار. ويقول له تلميذه أحمد بن أبي الحواري: (إن ابن داود قال: ليت الليل أطول مما هو)، قال أبو سليمان الداراني: (قد أحسن وقد أساء، قد أحسن حين تمنى طول الليل للطاعة، وقد أساء حين تمنى طول ما قصره الله، إنه إن مضت عنا هذه فله في التي تأتي العرض).
وهذا هو دليل التسليم والرضا بقضاء الله تعالى، فالمؤمن لا يرى لنفسه اختياراً بل اختياره هو اختيار سيده ومولاه، وكم لليل من نفحات وكرامات، إنها معارف شتى تتنزل على العابدين، كل بحسب قربه ومنزلته من ربه سبحانه وتعالى، والمحب لا يُشغل بغير محبوبه:
وشُغِلْتُ عن فهم الحديث سوى ما كان عنـك فإنه شُغْــلي
وأُديمُ لحـظ مُحدِّثي ليَــرىَ أنْ قد عَقِلتُ وعندكم عَقْلي
ويحكي عنه صاحبه الإمام الجليل أحمد بن أبي الحواري فيقول: قال لي أبو سليمان: يا أحمد إني محدثك بحديث فلا تحدثن به أحدًا حتى أموت, قال أحمد: وما هو? قال الداراني نمت ذات ليلة عن وردي من صلاة الليل, فإذا أنا بحوراء تنبهني وتقول: يا أبا سليمان تنام عنا, وأنا أربى لك في الخدور منذ خمسمئة عام? أترقد عيناك والملك يقظان ينظر إلى المتهجدين في تهجدهم? بؤساً لعين آثرت لذة نوم على لذة مناجاة العزيز, قم رحمك الله, فقد دنا الفراغ, ولقي المحبون بعضهم بعضا, فما هذا الرقاد? قال الداراني: فوثبت فزعًا وقد عرقت استحياءً من توبيخها إياي وإن حلاوة منطقها لفي سمعي وقلبي.
ويقرر الداراني رحمه الله قاعدة مهمة يجب على كل متعبد أن يأخذها في أثناء صلاته وعبادته بعين الاعتبار, وهي مراعاة الحال التي يشعر فيها المرء بالخشوع والقلب من الله والتلذذ بمناجاته.
يقول أحمد بن أبي الحواري: سهرت ليلة في ذكر النساء حتى دخل وقت الصبح فذكرت ذلك لأبي سليمان فتغير وجهه وغضب علي وقال: ويحك أما استحييت منه تعالى أن يراك ساهراً في ذكر النساء? ولكن كيف تستحيي ممن لا تعرف? يا أحمد أقبل على صلاتك لربك, واعلم أنه إذا لذت لك القراءة فلا تركع ولا تسجد, وإذا لذ لك السجود فلا تركع ولا تقرأ, إلزم الأمر الذي يفتح الله لك فيه, يا أحمد: إني ربما أقمت في الآية الواحدة خمس ليال ولولا أني أدع الذكر فيها ما جزتها أبدًا, ولربما جاءت الآية من القرآن تطير العقل فسبحان الذي رده إليهم, يا أحمد: من صفى صُفي له, ومن كدَر كُدِر عليه.
ومن أقواله أيضًا ما ورد في كتاب (تذكرة الأولياء) لفريد الدين العطار النيسابوري, قال أبو سليمان: كنت في المسجد ذات ليلة, فأقلقني البرد, فخبأت إحدى يدي عند الدعاء, وارتحت راحة عظيمة لهذا, فهتف بي هاتف: يا أبا سليمان منحنا تلك اليد التي كنت قد أخرجتها رزقها, وإن أخرجت الأخرى. لمنحناها نصيبها فأقسمت ألا أدعو قط إلا وأخرج يدي, بردًا كان الوقت أم حرًا. ثم قال: سبحان الله الذي حشد لطفه بلا هدف أو مراد.
وقال: من يشبع, تعتريه ستة أشياء هي: أنه لا يجد حلاوة للعبادة, ويقل حفظه في تذكر الحكمة, ويحرم من الشفقة على الخلق, لأنه يظن أن العالمين جميعهم شبعانون وتثقل عليه العبادة, وتزداد الشهوات لديه ويحوم جميع المسلمين حول المساجد, ويحوم هو حول المزابل.
وقال أيضا: المعرفة أقرب على الصمت من الكلام, وقلب المؤمن مضيء بذكره, وذكره غذاء له والأنس به راحته, وتجارته حسن معاملته, والليل سوقه, والمسجد مكانه والعبادة كسبه والقرآن بضاعته, والدنيا مزرعته, والقيامة بيدره, وثواب الحق تعالى ثمرة كفاحه.
يقول ابن أبي الحوارى سائلاً أبا سليمان: " تبيت عندنا ؟ "، فيقول رحمه الله: " تشغلوني بالنهار وتريدون أن تشغلوني بالليل ".
ومن لطيف أقواله : " الفتوة أن لا يراك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك، فهذه هي الرجولة في الإسلام وتعريفها في القرآن قوله تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ ولا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}[النور:37]، وقوله تعالى: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}[الأحزاب].
في زمان كثر فيه المخنثون .... وقل فيه الرجال الصالحون
في زمان ظهر فيه الماجنون .... واختفى الصادقون المخلصون
في زمان ضاعت فيه الأوطان .... وصار الناس في سجن بلا سجان
وروي أن أبا سليمان كان صاحباً لمعاذ بن جبل وتلقى العلم منه, وحين اقتربت وفاته, قال الأصحاب: بشرنا بأنك ستذهب إلى الحضرة حيث الله الغفور الرحمن. فقال: لماذا لا تقولون ستذهب إلى الحضرة الإلهية, ويحاسبك فيها على الصغيرة ويعذبك على الكبيرة عذابًا شديدًا, ثم أسلم الروح.
رآه آخر في المنام بعد وفاته, فقال له: ما فعل الله بك? قال: رحمني, ورعاني ولكن إشارات هؤلاء القوم كانت ضررًا فادحًا لي. أي أنني كنت مشهورًا بين العارفين.