عبد الله التل.. بطل معركة القدس
عبد الله التل.. بطل معركة القدس
محمد سيد بركة
يعد عبد الله التل من أبرز الشخصيات التي لعبت دوراً رئيسا وتاريخيا في الصراع العربي الصهيوني منذ بدايته عام 1948 من خلال المعارك البطولية التي قادها ضد المستعمرات اليهودية قبل دخول الجيوش العربية إلى فلسطين في 15 مايو 1948، ثم دخوله على رأس الكتيبة السادسة مدينة القدس وتطهير المدينة القديمة من القوات اليهودية وحمايتها من الهجمات المتكررة لاحتلالها. ونتيجة للانتصارات التي حققها عبد الله التل في الميدان العسكري والسياسي خلال تلك الحرب، ولما تحلى به من كفاءة حربية عالية، وذكاء نافذ، وحنكة سياسية، وشجاعة بينة، وإيمان قوي، ووطنية راسخة...
لقد برز اسم عبد الله التل ولمع في وقت قصير على الساحة العربية والدولية حتى أصبحت إنجازاته العسكرية وتصريحاته السياسية وصوره الشخصية تتصدر الصفحات الأولى وبعناوين بارزة متواترة في الصحافة العربية والعالمية واستحق لقب بطل معركة القدس من الأوساط الرسمية والشعبية.
ولد عبد الله التل في مدينة اربد عام 1918 ، وفي مدارسها درس المرحلتين الابتدائية والمتوسطة ، ليلتحق مثل كثيرين من ابناء جيله بثانوية السلط وليتخرج منها في العام 1937.
عمل لمدة خمس سنوات موظفا مدنيا في مديرية الجوازات ، كما حصل على دورة أركان الحرب من بريطانيا عام 1946. ثم ماجستير آداب من جامعة الأزهر 1965.
كما عمل ملازماً في الجيش العربي عام 1942، ثم عين حاكماً عسكرياً للقدس في الفترة 1948-1949. ويُعد من الضباط الأردنيين الذين دافعوا عن القدس عام 1948 وسمي قائد معركة القدس.
وبسبب شجاعته وكفاءته سجل سابقة حميدة في الجيش العربي حين حصل على اربعة ترفيعات عسكرية خلال ست سنوات ، وكان رقمه في سجلات الجيش العربي هو 147 قبل ان يلتحق ابو المنتصر – عبد الله التل - بالجيش العربي في يونية عام 1942.
بطل معركة القدس
ارتبط اسم المجاهد عبد الله التل بمدينة القدس والدفاع عن هويتها الإسلامية وعروبتها ، حتى صار مصطلح بطل معركة القدس ملازما لاسم هذا القائد العسكري المتميز.
بطل بمواصفات عبد الله التل لا يحتاج الى شهادة احد ، فقد شهدت له معارك الدفاع عن عروبة القدس عامي 1947 1948و ، ويتذكر المقدسيون وغيرهم من المجاهدين العرب بطولات هذا القائد ضد العصابات الصهيونية. وربما كانت واحدة من اقسى اللحظات التي عاشها العسكري الشجاع ابو المنتصرعبد الله التل لحظة اعلان الهدنة وتوقف المعارك ، وهو يرى بأم عينه جزءا عزيزا من فلسطين ومن القدس الشريف قد اصبح تحت سيطرة العصابات الصهيونية.
بحكم موقعه القيادي في الجيش العربي ، وبحكم وعيه وقراءته العسكرية والسياسية الناضجة ، تعرف عبد الله التل على كثير من اسرار الحرب ، ودور الجيش البريطاني في دعم العصابات الصهيونية وتوفير الحماية لها ، لذلك كانت مذكراته التي اصدرها في القاهرة تمثل وثيقة سياسية مهمة من قائد عسكري محنك ، قال كلمته بجرأة وشجاعة في كل ما رآه في تلك الحرب التي لم تكن متكافئة ، وحجم المؤامرة التي تعرضت لها فلسطين في تلك المرحلة.
دورات عسكرية عديدة اجتازها عبد الله التل الذي اصبح احد ابرز الكفاءات العسكرية في الجيش العربي ، استحق عليها عددا من الاوسمة ، وعندما تم تعيينه في اركان حرب الجيش العربي احس جلوب باشا بخطورة ذلك على مستقبله ومستقبل الضباط الانجليز من وجود كفاءات عربية ، فنقله الى قائد لحرس القوافل ، وقد استثمر وجوده هناك لتوفير الدعم للمجاهدين العرب والفلسطينيين وتدريبهم لمواجهة الخطر الصهيوني ، وتعرف بحكم موقعه الى قادة فصائل الجهاد في فلسطين وفي مقدمتهم عبد القادر الحسيني.
تعرف عبد الله التل الى اسماء احياء القدس وشوارعها العتيقة وحاراتها ومساجدها وكنائسها وعائلاتها ، وقد تسلم منصب الحاكم العسكري للمدينة ثم متصرفا لها برتبة زعيم.
من المؤكد ان ضابطا شجاعا بمواصفات عبدالله التل قد فرح كثيرا وهو يرى قائد الجيش العربي جلوب باشا مطرودا ، خاصة انه يعرف الضباط الاحرار الذين عمل بعضهم معه او تحت إمرته في تلك السنوات.
ومن الجدير بالذكر أن آخرالعمليات العسكرية التي قام بها القائد عبد الله التل خلال معركة القدس عندما رفع عيار نيرانه ضد القوات اليهودية لم تكن مؤيدة بأوامر صريحة من قائد الجيش الأردني الجنرال البريطاني جون باجوت جلوب الشهير بجلوب باشا ، وكان رجال العشائر يلقبونه بـ "أبو حنيك" لأنه كان قد فقد جزء من حنكه بسبب إصابة خلال إحدى الحروب التي خاضها في زمانه . فقد اعتبر جلوب باشا مبادرة عبد الله التل وكأنها تمرد على الأوامر . ولكي يتفادى الملامة من المسؤولين العرب الآخرين رضخ الملك عبد الله الأول على مضض لمبادرات عبد الله التل العسكرية المتحمسة . حيث كان الملك في خضم مباحثات سرية مع بعض قادة الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية مثل جولدا مائير وموشيه شاريت وإلياهو ساسون طمعاً في الحصول على بعض أجزاء من فلسطين . وقد عكست مبادرات عبد الله التل العسكرية عدم استطاعته هو وجنوده الوقوف مكتوفي الأيدي بينما يقع مواطنيهم سكان القدس تحت رحمة نيران العدو دون من يدافع عنهم ، بينما يقوم ملكه بالتآمر مع هذا العدو .
وما أن تم التوقيع على هدنة بين الأردن والحكومات العربية الأخرى من جهة والقيادة اليهودية من جهة أخري ، علماً بأن الفلسطينيين لم يشكلوا طرفاً في تلك الهدنة أو في الإتفاقيات التي تلتها، أظهر الملك عبد الله ساعتها غضبه تجاه مبادرات عبد الله التل العسكرية التي كانت على وشك أن تفشل مخططاته . ومن دواعي العجب أن تمرد عبد الله التل هو الذي أنقذ القدس القديمة وأمنها للملك عبدالله الأول، وإلا فإن قوات الهاجانا اليهودية كانت ستحتلها عام ١٩٤٨.
وفي نهاية الأمر تعد عملية الدفاع عن مدينة القدس الإنتصار العسكري الوحيد ذو الأهمية الذي سجلته الجيوش العربية في حرب فلسطين ١٩٤٨ - ١٩٤٩ . فقد حالت العمليات العسكرية الناجحة التي بادر بها القائد عبدالله التل ، حالت دون سقوط مدينة القدس القديمة وبعض ضواحيها في أيدي قوات الهاجانا . وإن كانت المدينة وما تبقى من فلسطين قد سقطوا في نهاية الأمر بين أيدي الإسرائيليين عقب حرب يونيو ١٩٦٧ أو حرب الستة أيام كما تسمى أحياناً .
ولقد خشي الملك عبد الله الأول أيضاً من شعبية عبد الله التل المتزايدة ، فاتهمه فجأة بأنه يتآمر مع السوريين للإستيلاء على الحكم وضم الأردن إلى سوريا . وبدلاً من أن يعود عبدالله التل إلى بلده وعشيرته كبطل ، مما اضطر التل إلى اللجوء إلى مصرحيث أمضى ما يقارب العشرون سنة كلاجئ سياسي . ومثلما لمع اسم القائد عبد الله التل في معركة القدس ، فقد لمع كذلك اثناء اقامته في القاهرة التي كانت مليئة بالسياسيين من مختلف جهات الارض ، وقد تعرف الى سياسيين وعسكريين ومثقفين مصريين.
الجريمة الكبرى
عبدالله التل في كتابه القيم " كارثة فلسطين- مذكرات عبدالله التل قائد معركة القدس "- وقد ظهرت طبعته الأولى عام 1959 م- والتي بين فيه أن النصر على اليهود كان قاب قوسين أو أدنى بسبب تضييق الحصار عليهم ، إلا أن الخيانات العربية والتدخل البريطاني والأمريكي باقتراح الهدنة التي ساعدوا فيها يهود حالت دون ذلك يقول:
حينما أيقنت بريطانيا من قرب هلاك ربيبتها إسرائيل ولم يمض على دخول الجيوش العربية إلى فلسطين أكثر من أسبوعين، سارعت لنجدة اليهود – سياسياً- تلبية لاستغاثة كبار الصهيونيين الذين نشطوا لإقناع الإنجليز والأمريكان بخطورة الوضع في فلسطين. فتقدم المندوب البريطاني لمجلس الأمن في آخر شهر مايو 1948 باقتراح يقضي بوقف القتال لمدة أربعة أسابيع وتعيين وسيط دولي للتوفيق بين العرب واليهود. وقد استخدمت بريطانيا نفوذها للتأثير في جميع أعضاء مجلس الأمن ؛ فأقر المجلس الاقتراح البريطاني في 29 مايو 1948 بوقف القتال في فلسطين لمدة أربعة أسابيع وتعيين الكونت برنادوت وسيطاً منتدباً من قبل هيئة الأمم مهمته التوفيق بين العرب واليهود. بعد أن أبلغ مجلس الأمن قراره إلى اليهود والدول العربية وطلب الرد على هذا القرار اجتمعت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية في عمان لدراسة قرار مجلس الأمن واتخاذ الخطوات اللازمة بشأنه.
ثم يقول : وهكذا وافقت الدول العربية على قرار الهدنة بعد أن اشترطت أموراً معينة ما لبثت أن سحبت شرطها عليها بعد أن سعى برنادوت وأقنعها بقبول حله الوسط . !
و يقول التل معلقًا:
ليس لي إلا أن أصفها بالجريمة الكبرى ! وهي أخف وصف يمكن أن توصف به موافقة الجامعة العربية على شروط الهدنة التي قدمها برنادوت بدون قيد أو شرط، فقد وافق أعضاء اللجنة السياسية على أكبر خطيئة في تاريخ الحروب بالشرق العربي ؛ ألا وهي السماح بفك الحصار عن مدينة القدس ، وإنقاذ مئة ألف يهودي كانوا على وشك التسليم أو الموت جوعاً وعطشاً. وافقوا ( أي العرب ) قبل أن يفكروا قليلاً في نتائج ما أقدموا عليه.وافقوا قبل أن يفكر أحدهم فيما سيقع بعد عشرة أيام فقط من ذلك اليوم المشئوم. وافقوا لأنهم وثقوا من وفد الأردن في اللجنة السياسية وصدقوا رئيس الحكومة الأردنية الخائن. وافقوا قبل أن يفهموا أن القدس هي كل شيء في فلسطين ، وأن من يحتلها ينهي المعركة كلها. وافقوا قبل أن يسألوا ليفهموا :كيف كانت حال مئة ألف يهودي في القدس هم سُبع يهود فلسطين ؟!وافقوا قبل أن يسمعوا ما يقوله القائد العربي في تلك المدينة العظيمة، وقبل أن يعلموا مقدار الدماء والدموع والجهود التي بذلناها في القدس حتى جعلناها تترنح لتهوي صاعقة على رأس الصهيونية فتزيلها إلى الأبد.وافقوا قبل أن يفكروا قليلاً في نوايا الإنكليز وعزمهم على إنقاذ الصهيونية وخاصة القلب ( فلسطين ) . وافقوا قبل أن يسيئوا الظن قليلاً بشروط الهدنة ويفرضوا شرطاً واحداً على الأقل لمراقبة طريق الحياة للقدس ، وجعل تموين اليهود تحت إشراف العرب.لقد وافقوا ولو لم يفعلوا لتغير مجرى الحرب في فلسطين، وإنني أعتبر جميع الدول العربية مسؤولة عن ذلك القرار في اليوم الأسود بعمان ؛ لأن الواجب كان يقضي بإخراج الأردن من الجامعة العربية في ذلك التاريخ ما دامت النتيجة واحدة، وما يريده الأردن من فواجع وكوارث لابد أن يتحقق، أما إذا كانت الدول العربية في ذلك الحين حسنة الظن في عمان فتكون الجريمة قد تمت نتيجة الجهل الفاضح وسوء الإدراك لما يجري على مسرح السياسة ؛ وفي هذا مسؤولية لا تقل عما سبق.
مؤلفات عبد الله التل
وكما جاهد عبد الله التل بالسلاح جاهد بالكلمة فترك عدة كتب في قضية فلسطين من أهم الكتب التي يجب على الجميع قراءتها لفهم جذور قضية فلسطين.. القضية الإسلامية الأولى، وجميع هذه الكتب طُبع في الأربعينات والخمسينات من القرن الميلادي الماضي ، أي خلال أو بعد الإعلان الرسمي عن سرقة أرض فلسطين و تقديمها لليهود وبفضل الله هي موجودة على شبكة الانترنت ومن أهمها :
كتاب كارثة فلسطين، وهو مذكراته و تفاصيل معركة القدس التي انتصر فيها جيش المسلمين على جيش اليهود و فيالق الإنتداب.
وكتاب الأفعى اليهودية في معاقل الإسلام، ويدور حول التغلغل الباكر لليهود في عقول الطبقات السياسية الحاكمة و غيرها من الطبقات في العالم الإسلامي.
وكتاب جذور البلاء، الذي يبحث في أصل مشكلة فلسطين.
وكتاب خطر اليهودية العالمية على الإسلام والمسيحية.
وفاته
عبد الله التل.. صخرة من الصخورالعربية التي لا تقبل التفجير، ومن سيوف الإسلام التي لا تقبل الانحناء . ولا يكون الإنسان مبالغا إذا قال بأنه كان الرمح العربي الذي لا يقبل الانكسار. فقد ظل عند ثوابته على الرغم من مئات الوشايات والاتهامات الباطلة التي كالها له أصحاب الغيرة غير المستحبة بحقه بل في حق الوطن الذي قاتل من أجله لأن من كان مثل عبد الله التل لا يكون ملك نفسه بل ملك الوطن .أما الغرباء عن الوطن الذين أرادوا النيل منه فحبل كذبهم أقصر من ألسنتهم !!!
وقد فاضت روحه لبارئها في الثالث عشر من أغسطس عام 1973 ليدفن في مسقط رأسه ، وقد ملأ الحزن قلبه على ما آلت إليه اوضاع الأمة العربية والإسلامية ، ولم يكتب له ان يشهد يوميات معركة أكتوبر التي نشبت بعد شهرين على رحيله وفيها تم بفضل الله هزيمة الصهاينة .. وقد أنجب ابنة واحدة اسمها إيناس وخمسة أولاد هم : منتصر وصلاح وأسامة وخالد وحمزة . خمسة وخمسون عاما عاشها عبد الله التل كانت مليئة بالاحداث الكبيرة فقد قدم الكثير لدينه وأمته ..