محمد المبارك
محمد المبارك |
بقلم: محمد المجذوب |
أي مفاجأة راجفة .. تلك التي تلقيتها ضحى الأمس ـ الخميس 8 / 2 / 1402 هـ !! كنت على وشك أن أرفع سماعة الهاتف لأكلف ولدي بإعداد اللازم لغداء يتناوله عندنا مع أهله الأخ الأثير والمفكر الكبير الأستاذ أبو هاشم محمد المبارك .. ولكن شاء الله أن يدق منبه الهاتف ليصرفني عن الاتصال بولدي ، فإذا صوت صديق يخبرني في كثير من المداراة أن أبا هاشم قد أصبح في ذمة الله ، إذ وافاه الأجل وهو في السيارة إلى مستشفى المدينة لمعالجة تعب يحسه في قلبه .
وما أدري أي حال ألم بي بإزاء ذلك النبأ ، فإذا أنا في مثل الجو الذي احتواني قبل تسع عشرة سنة ، ساعة تلقيت نبأ وفاة الداعية الإسلامي المجاهد الدكتور مصطفى السباعي ، فرحت أدور على نفسي وأتلمس ما حولي لأتحقق : أفي يقظة أنا أم تحت كابوس حلم ثقيل !..
حتى إذا لم لي صدقه أملاً شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي . وعلى الرغم من تتابع الأحداث ، التي أوشكت أن تجفف الدموع في مقلتي ، لم أملك منعهما من نزف ما فيهما من بقايا الشئون ، ولاسيما حين وجدتني تلقاء الأخت المنكوبة أم هاشم وابنتها اللتين عجزتا عن حجب آلامهما ، على الرغم من محاولة التجلد ، بالتسليم إلى قدر الله الذي له الحكم والملك وإليه يرجع الأمر كله ..
وأتأمل ملياً في حركة القدر الحكيم ، وهو يسير أبا هاشم من رحاب بيت الله العتيق إلى جامعة الملك عبد العزيز في جدة ، ليلقي آخر محاضراته على طلبته ، ومن ثم يأخذ سبيله مع عزيزتيه إلى بلد الحبيب ، ليظفروا بحظهم من نفحاته ، وليتزودوا ما وسعهم من بركاته .. على دأبه المألوف في مثل هذه الأيام من كل عام .
ويشاء الحكيم العليم أن يختم تلك السيرة المباركة بالنهاية التي ما برح الكثير من إخوانه يتلهفون إلى مثلها : صلاة العشرات من آلاف المؤمنين على جنازته عقيب صلاة الجمعة وفي أول مسجد أسس على التقوى ، ثم مواراته أخيراً تراب البقيع في جوار ثلة من صحابة رسول الله وأهل بيته المطهرين ، وهم بعض الرعيل الأول ، الذين ما انفك أبو هاشم يترسم خطاهم في حياته ، التي قضاها في الدعوة إلى الله ، وفي إبراز محاسن الدين الذي اصطفاه الله لتصحيح المسيرة البشرية إلى التي هي أقوم ..
وما أكرمها نعمة أن يحظى أبو هاشم بدعاء كل هذه الجموع ، في البقعة التي طالما عبقت بأنفاس حبيبه!
وما أسعدها نهاية أن يستقر في ختام مطافه الطويل بين الأحبة من تلاميذ النبوة التي قبسوا من نورها ، فأضاءوا به طريق الأولين ، وقبس من قبسهم فأسهم به في إضاءة طريق الآخرين !.
فأعظم بها نعمة أحاطه القدر الحكيم بأسبابها .. وأكرم بها بقعة يتنافس المتنافسون على رحابها ..
كان أول لقاء جمعني بأبي هاشم في مدينة طرطوس ـ من الساحل السوري ـ قبل أكثر من ثلث قرن ، يوم دخل علي الفصل وأنا أشرح بعض النصوص من شعر ابن الرومي ، وعقب على عملي بكلمة تقدير لم أستطع نسيانها ، إذ كانت نابعة من فكر حصيف يتذوق الأدب الأصيل ، في فهم عميق يتلاقى خلاله العلم والشعور، على الوجه الذي قلما نجده في ملاحظات المفتشين الآخرين .. ثم تتابعت الأيام والشهور لتزيد صلتنا قوة وترسيخاً ، إذ لم تعد مقصورة على اللقاء الرسمي العابر أثناء جولاته التفتيشية على مدارس الدولة بل اتخذت سبيلاً آخر هو سبيل الأخوة في الله تحت راية العمل الإسلامي ، مع الثلة المختارة من حملة الدعوة ، الذين كانوا يتحلقون حول رجلها الملهم المجاهد الدكتور مصطفى السباعي .
وكانت ظروف الحياة مساعدة بعض الشيء على الاتجاه الصحيح ، فوجدت مواهب أبي هاشم وثقافته العميقة ، في كلا الميدانين القديم والحديث ، مجالها الملائم ، فإذا هو يتنقل من تصحيح مسيرة التدريس ، إلى تقويم الاتجاه في تخطيط المناهج الأساسية وما هي إلا خطوة أخرى حتى اتخذت هذه المناهج لبوسها الأصيل في نطاق العلوم ، ذات التأثير الهام في عقلية الجيل وفي مشاعره ، ثم ما زال مكباً على هذا الجانب من التخصص حتى تجاوز أثره نطاق سورية إلى مختلف أنحاء العالم الإسلامي ، سواء عن طريق عمله المباشر في الجامعات العربية والإسلامية ، أو عن طريق مؤلفاته المركزة في هذا الجانب .. وفي جامعة الخرطوم ، وبعدها في رحاب المملكتين العربية السعودية فالأردنية ، أبرز الشواهد على جهوده الفعالة في هذا الميدان العملي ..
ولقد كان لهذه المواهب العالية إيحاؤها المؤثر لدى الوسط الفكري والشعبي في مختلف الأرجاء السورية بعامة ، فما لبثت أن فسحت له الطريق إلى المجلس النيابي ، فاختير بين المفضلين من ممثلي دمشق في انتخابات ثلاث ـ 947 ـ 954 ـ حيث برزت مداركه السياسية ، القائمة على الوعي العميق لمشكلات سورية والعالم الإسلامي كله ، ثم ما لبث أن احتل بهذا النشاط الحي منصب الوزارة التي شغل منها ثلاث وزارات ، الواحدة تلو الأخرى ، فأدارهن بجدارة أكدت مكانته الفكرية والعلمية ، لا في البلاد السورية فحسب ، بل على مستوى العالم العربي كله ، الذي أصبح واحداً من كبار مفكريه .. وقد أسهم في تثبيت هذه المنزلة له استقامته الخلقية ، وتواضعه الذي لم تغيره المناصب ، حتى ليفتح بابه ، سواء في الوزارة أو المجالات الأخرى من أعماله ، لكل وافد ذي حاجة من الجمهور، بل إنه ليعتبر الزيارة له تكرمة تستحق أن تقابل بمثلها ، فلا يلبث أن يردها للمتقدم بها في منزله ، إذا كان من أهل البد ، أو في موضع نزوله إن كان من غيرهم ..
ولم يكن رجال العلم في سورية أقل تقديراً لهذا المفكر الكبير من عامة الشعب الذي تخيره لنيابته ، ومن قادة السياسة الذين وسدوا إليه مناصب الوزارة ، فإذا هم يحتفلون به عضواً عاملاً في مجمعهم العلمي العربي في عاصمة الشام ، ليخاطب جمهور العلماء من على منبره ، كما يخطب السياسيين من على منبر النيابة ، وكما يخاطب أصناف المثقفين وعامة الناس من خلال محاضراته ومؤلفاته ومقالاته وندواته ، التي اتسعت حتى شملت مختلف الجوانب الهامة من حياة العرب والمسلمين ، ووقفته رصداً رادعاً لدسائس المكرة من خراصي المستشرقين ، حتى ليبطل مع إخوانه سحرهم ، فيسحبون مفترياتهم ، التي أعدوها بدقة للهجوم على الإسلام في مؤتمر كراتشي عام 1377 هـ ـ 1958 م.
ونحن هنا في الجامعة الإسلامية المنورة ـ لا ننسى أن أبا هاشم كان أحد الأعضاء الأولين في مجلسها الاستشاري ، وأن له الأثر المحمود في تركيز مناهجها الدراسية ، على الوجه الذي يليق بجامعة تحتل المكان المتقدم بين جامعات العالم الإسلامي .. فلا جرم إذن أن يكون الرزء بأبي هاشم كبيراً في قلوب عارفيه من هذه الجامعة ، وأن يمتد الأسى عليه إلى سائر الجامعات التي أسهم في خدمتها بأفكاره الجديدة البعيدة ، ونشاطه الدؤوب الذي لا يعرف الفتور من الخرطوم إلى جدة فمكة المكرمة فعمان ، التي استقر في سنواته الأخيرة على توزيع خدماته بينها وبين جامعة الملك عبد العزيز على سواء .
ولعمر الحق إن من المتعذر على الراصد لنشاط هذا الفقيد العزيز أن يقصر وقع الكارثة به على الوسط الجامعي وحده ، وهو يرى إلى أفكاره تنتشر في كل مكان وصلت إليه مؤلفاته ، أو حظيت بها مؤتمراته في مختلف الأنحاء من الشرق أو الغرب .. ولا جرم أن أشد الناس حزناً على أبي هاشم هم أولئك الذين ألف حب الإسلام والعربية بينه وبينهم ، فهم يحبونه بحبهم للإسلام ، الذي كان في رؤيته النورانية مأدبة الله التي لا ينفد عطاؤها على مر الدهر، فمهما اتسعت أدواء البشرية ، وتعقدت مشكلاتها ، وجدت فيه العلاج الذي لم يسبق إليه ، والحل الذي لا تستعصي عليه .. وأحبوه بحبهم للغة القرآن العظيم التي شرفها الله بكتابه ، الذي عجزت الخليقة إنساً وجناً عن الإتيان بسورة من مثل أقصر سوره ، إذ كانت هذه العربية المقدسة في مفهومه هي المعين المتدفق أبداً بكل جميل من القول ، وكل نفيس من المعاني ، لأنها الوعاء الذي استوعب أسرار الوحي من قرآن وسنة ، فلا توقف لمدده ، ما دام ثمة عقل يفرق بين البهرج والأصيل ، وذوق يميز بين الغث والسمين وقد مكن له في قلوبهم ما لمسوه من تفانيه في إبراز هذه الحقيقة التي منحها كل وجوده ، وحبه ونشاطه ، فلم يحجم قط عن التوكيد عليها في كل مناسبة ، حتى في ظل العسف الذي لا يكره شيئاً كرهه للحقيقة ، فكان له بذلك أثره المقدر في كسر الهجمة الشعوبية ، التي يشنها دهاقين الصليبية واليهودية ، وأذنابهما المضللون والمتطوعون ، على حمى العربية والإسلام ، فخفت حدتها حتى أوشكت أن تخمد ، فلا تظهر بوادرها إلا في غفلة من أهلها أو على استحياء ، إذ وجد هؤلاء الأفاكون في أبي هاشم وإخوانه ، الصيارفة الذين كشفوا زيوفهم ، بما استوعبوه من دقائق الوحي ، وبما حذفوه من لغات الأعداء ومناهجهم في حوك الأباطيل وصناعة الأضاليل ..
والحق لقد كاد أبو هاشم أن يكون نسيج وحده بين جنود العربية والإسلام هذه الأيام ، إذ كانت الميزة الأولى في منهجه العملي هي التركيز على الموضوعية الخالصة بعيداً عن الإثارة العاطفية ، وذلك لأنه رجل فكر، يتجه في بحثه إلى العقل ، فيخاطبه بأسلوب الحكمة والموعظة ، وفي أناة الواثق مما يدعو إليه، وقلما يسلك إلى غرضه سبيل الخطابة ، وهي التي لها أهميتها كذلك في نطاق العمل الدعوي ..
وبعد فإن الحديث عن أبي هاشم أثير مثير، لا تتسع له الصفحات المقصورة على التذكير بمآثر هذه الشخصية ، التي سبق أن قلت في ترجمتها خلال كتابي (علماء ومفكرون عرفتهم) : " إنها تمثل أحد أفذاذ الجيل الذي انتهت إليه أمانة الدعوة والتوعية على مستوى العالم الإسلامي ".
وإن المتأمل في مراحل هذه الشخصية ليلمح غاية الله في إعدادها لحمل هذه الأمانة منذ تفتحها في ذلك الوسط الإسلامي العريق من دمشق ، حيث غذي بحب الإسلام والعروبة ، ثم زود بالمقومات التربوية والثقافية ، التي حفظت عليه ذاتيته من الذوبان أمام إغراءات الغرب ، ومكنت له أن يكتشف مبكراً مواطن الزيغ في أفكار أساتيذه من كبار المستشرقين في باريس ، فيناقشهم ويفند أغاليطهم .. فكان له من خبراته تلك مردود علمي أمده بالتصميم على وضع كل إمكاناته في خدمة الإسلام والدعوة إليه ـ كما يقرر هو ذلك في ترجمته لنفسه (1) ـ. (أنظر "علماء ومفكرون عرفتهم " ص234 .)
ومن هنا كان المصاب بأبي هاشم فاجعة أي فاجعة ، ولاسيما في هذه الأيام التي اتسعت خلالها حلبة النضال في معركة الإسلام .. وإنما يفتقد النور عند اشتداد الظلام .
فسلام على أبي هاشم في العالمين ، وجزاه الله عن الإسلام ولغة القرآن خير ما يجزي عباده المصلحين المجاهدين ..
ويا أيها الراحل العزيز :
لقد استنزفت الفاجعة بك ما أبقت مصائب الإسلام من الدموع في عيني ، ثم تذكرت قرب لقاءك والأحبة ، الذين تقدمونا قبلك فبرد الألم ، وتلألأ الأمل ، وأيقنت أن أفضل ما أشيعك به هو الدعاء لنا جميعاً بأن يجمعنا الله في ظل رحمته مع النبيين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً ..
اسمي الذي سماني به والدي رحمه الله " محمد " ولقب أسرتنا منذ أكثر من قرن على الأقل "المبارك" وقد كناني بأبي هاشم ، وكان يرى ذلك عادة عربية مستحسنة ، لما فيها من إشعار بالرجولة.
ولدت بدمشق عام 1912 م . في دار ملاصقة للمدرسة العادلية ، التي هي اليوم مقر للجميع العلمي العربي ، وقد أصبحت هذه الدار نفسها ملحقة بالمجمع ، وهي في حي قريب من الجامع الأموي ، ثم سكنا منزلاً آخر أقرب إليه في جهته الشرقية . وكنت أتردد مع أقراني من أحداث الحي على الجامع في أكثر أوقات فراغنا للصلاة والفسحة في رحابه الواسعة ، ولحضور الدروس الدينية التي كانت لها حلقات كثيرة بعد أكثر الصلوات الخمس .
إنني حالياً أستاذ ومستشار في جامعة الملك عبد العزيز بجدة ، وأقيم في مكة المكرمة منذ سبع سنوات بالقرب من بيت الله الحرام .. متزوج منذ سنة 1947 م . وأب لخمسة أولاد (ثلاث بنات وولدان) وجد لستة أولاد من بنتي المتزوجتين .
حياتي الزوجية سعيدة لما بيننا جميعاً أنا وزوجتي وأولادي وأصهاري من انسجام في العقيدة والأخلاق وسائر مذاهب الحياة ، ذلك أننا جميعاً نؤمن بالإسلام إيماناً عميقاً مقترناً بالحب له والعمل في سبيله والدعوة إليه . ونعتقد أنه السبيل الوحيد لإنقاذ البشرية وأن ما سواه من الأديان والمذاهب لا يصلح للإنسانية ، بل عن فهمنا للإسلام أنا وأسرتي جميعاً التي عددتها ، فهم واحد ، قوامه الرجوع إلى الكتاب والسنة وما استنبط منهما فحسب .
الأسرة :
كان والدي الشيخ عبد القادر المبارك عالماً مشهوراً في دمشق وأكثر شهرته في اللغة والأدب ، وكان أمثاله من اللغويين ومن في طبقته نادرين في البلاد العربية كلها ، كما شهد له بذلك الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله . كان أعجوبة في حفظ مفردات اللغة وغريبها وشواهدها من شعر العرب ، كثير الرواية له ، وكان من أعضاء اللجنة التي ألفت في عهد الملك فيصل الأول الهاشمي لتعريب المصطلحات العسكرية ، وقد اختير عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق حين تأسيسه ، وشارك في وضع كثير من المصطلحات كلفظ " الهاتف " التي هي من وضعه واقتراحه . وكان كذلك عالماً بالسيرة ووقائعها ، وبتراجم الرجال ومشاركاً في العلوم الإسلامية ، ومتقناً للغة التركية وعارفاً للإنجليزية .
كان أثره في حياتي وتكويني الفكري والثقافي كبيراً ، وكان في بيت والدي مكتبة كبيرة أصلها لجدي الشيخ محمد المبارك ، وكان من علماء دمشق وشيوخها ، وقد تفرد بينهم باللغة والأدب ونظم الشعر، وله رسائل أدبية مطبوعة وشرح لعشر من مقامات الحريري ، وقد تحدث عنه الأستاذ محمد كرد علي في مذكراته ، وهو أحد عالمين تتلمذ عليهما أحدهما الشيخ طاهر الجزائري . وأصل أسرتنا القريب من الجزائر، هاجر منها والد جدي إثر الاحتلال الفرنسي حوالي سنة 1845 م . على رأس قافلة كبيرة من الجزائرين الذين كانوا ملتفين حوله .
البيئة التي نشأ فيها بيئة محافظة على الأخلاق الإسلامية الموروثة ، تحيا في جواء الإسلام وتراثه وتعتز به ، سواء في ذلك الأسرة التي انحدرت منهم والحي الذي نشأت فيه . وكانت دار والدي مرتاداً للعلماء الوافدين من أرجاء البلاد الشامية والعربية ، وكنت دائم الحضور لتلك اللقاءات والندوات . وقد استفدت كثيراً من مكتبة جدي ثم والدي رحمهما الله ، وكنت مكلفاً تزويدها بالمطبوعات الجديدة وتصنيفها كلما اختل ترتيبها " .
ونقف هنا قليلاً لنتأمل في هذه المنطلقات التي يتولى الأستاذ سردها عن نشأته وأسرته ، فمثلها لا تغني فيه القراءة عن التأمل ، إذا أردنا التعرف الدقيق لملامح هذه الشخصية ، التي تمثل أحد أفراد الجيل الذي انتهت إليه أمانة الدعوة والتوعية ، على مستوى الوطن الإسلامي أو معظم أنحائه .
أول ما يسترعي الانتباه من هذا الحديث إبرازه ذلك اللون الذي تميزت به الأوساط العلمية بدمشق طوال عهود الحضارة الإسلامية إلى نهاية النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري ، أي قبل تسلل المؤثرات الدخيلة إلى صميم حياة الناس في ظل الانتداب الفرنسي . فالجو إسلامي صرف ، تظله كل مقومات التربية الأصيلة .. البيت بجوار المدرسة العادلية ، وعلى مقربة من المسجد الأموي، فمن هنا وهناك تنبعث موحيات الماضي العظيم ، تتراءى من خلاله رايات الإسلام ، تزحف في كل اتجاه من العالم ، وتحمل إلى الخلف أصداء التكبير ممتزجة بعبير النصر من سهول حطين القريبة ، وأسوار القدس الحبيبة .. وقد تولى تجديد ذكرياتها . كلما آذنت بالركود ، قبر البطل الفاتح الصالح صلاح الدين ابن أيوب ، الذي استقر بجوار ذلك المسجد ليكون معه شاهداً وحافزاً يصل بين الأمس واليوم والغد من حياة المسلمين .
في هذا الجو نشأ صاحب الترجمة ، وعلى هذا المسجد الحافل بالموحيات يتردد مع أقرانه من أحداث الحي لأداء الصلاة ، وللرتوع في رياض الجنة ـ حلقات الدرس ـ في أعقاب معظم الصلوات .
ثم هناك البيت الذي أسس على هذا الروح ، فهو مدرسة قائمة بذاتها ، فيها الكتب القيمة ، وفيها العلم الذي يأخذ سبيله إلى القلوب والعقول ، على يد والد يشهد عارفوه أنه كان أعجوبة في حفظه وسعة آفاقه ، وأسلوب تربيته ، التي تقوم على الحكمة والموعظة الحسنة .. والبيت بسبب ذلك كان مرتاد العلماء الوافدين عليه من أرجاء البلاد الشامية والمغربية ، والفتى المترجم دائم الحضور لتلك اللقاءات والندوات ، مما جعله مؤهلاً لرعاية المكتبة ، مكتبة جده ثم والده ، يزودها بالجديد من المطبوعات ، ويقوم بترتيبها كلما اعترى الخلل تلك المحتويات .
أجل إنها لمنطلقات لا يستطيع إغفالها من أراد الكلام عن حياة الأستاذ المبارك وتحليل آثاره وتعرف منهجه ، في خدمة الدعوة التي وقف عليها حياته المباركة كلها ، وبخاصة تلك الحصانة التي حفظت عليه مقوماته الشخصية أمام مغريات باريس ، وتخرصات المستشرقين ، الذين استطاعوا سلخ الكثيرين غيره من مقوماته الإسلامية ، إذ لك يكن لهم رصيد من الوعي الذي أتيح له .
ويحدثنا الأستاذ عن دراسته فيقول :
أما دراستي فكانت مزدوجة تسير في خطين متوازيين أحدهما خط المدارس النظامية ، وثانيهما خط الدراسة القديمة على الشيوخ في الحلقات .
أما دراستي النظامية فقد تابعت الدراسة الابتدائية ، ثم الثانوية ، منتهياً بالفرع العلمي وبالشهادة التي كانت تسمى يومئذ " شهادة الباكالوريا الثانية فرع الرياضيات " وكنت متفوقاً في الدراسة الثانوية ، وخاصة في اللغة العربية والرياضيات ، وأخيراً في اللغة الفرنسية التي كنت أقرأ بها وبالعربية جميع المواد الدراسية في السنة الأخيرة ، ثم تابعت الدراسة الجامعية بدمشق في الحقوق وفي الآداب ، حيث كانت أنشئت مدرسة الآداب العليا وأنهيتها في سنة 1935 م .
وكنت خلال هذه الدراسة النظامية أدرس في الصباح المبكر وفي المساء في الإجازة الصيفية على شيخ علماء الشام في عصره الشيخ محمد بدر الدين الشهير بالحسني والملقب " بالمحدث الأكبر" ، وكان أوسع أهل زمانه اطلاعاً على العلوم الإسلامية القديمة بجميع فروعها من الحديث والتفسير حتى الرياضيات وإن كانت شهرته في الحديث ، وكان متفرداً في نمط حياته وفي عبادته وتقواه وسمعته . وقد لازمته منذ نهاية الدراسة الابتدائية حتى نهاية الدراسة الجامعية مع فترة انقطاع قصيرة ، واستفدت كثيراً من علمه ، قرأت عليه النحو والصرف والتفسير والمصطلح والفرائض وأصول الفقه والكلام والبلاغة والحساب والجبر والهندسة ، بعضها في الدروس العامة وبعضها في الدروس الخاصة (أي خاصة بعدد معين من طلاب العلم) وبعضها كنت فيه منفرداً ، وذلك في مدرسة دار الحديث الأشرفية (التي كان يدرس فيها الإمام النووي) .
وقد تأثرت تأثراً عميقاً بهذا الشيخ الجليل رحمه الله ، بسمته وأخلاقه وصفاته ، كنت لا أزال أكن له المحبة والتقدير العظيم والإعجاب ، وإن كنت لم أقف منه موقف المقلد في جميع آرائه .
أنهيت في عام 1935 م دراستي الجامعية في دمشق كما انتهيت كذلك قبل هذا التاريخ من دراستي على الشيخ إذ توفي رحمه الله في صيف العام نفسه ، وحضرت تشييع جنازته ، وكنت كثير التأثر لوفاته ، لم أبك على أحد بكائي عليه . وسافرت بعد ذلك إلى باريس موفداً في بعثة نجحت في مسابقتها وكنت الفائز الأول للتخصص في الآداب .
درست في كلية الآداب من جامعة باريس (السوربون) وفي معهد الدراسات الإسلامية التابع لها ، تابعت دراسة الأدب العربي والثقافة الإسلامية ، وعرفت المستشرقين عن كثب ولم أجد عندهم مادة علمية أستفيدها في أكثر الموضوعات بل كثيراً ما كنت أصحح لهم معلوماتهم ، ولكني كنت أستفيد من معرفة المراجع وبعض أساليب البحث .
خصصت السنة الثانية من دراستي في جامعة باريس بكاملها في دراسة الأدب الفرنسي وعصوره وفنونه وأعلامه . وحضرت على كبار أساتذة الأدب الفرنسي يومئذ ، وهذه الدراسة أفادتني في تذوق الأدب والقدرة على تحليل النصوص والاطلاع على النقد الأدبي الحديث ونظرياته والمباحث اللغوية الحديثة .
أما السنة الثالثة فخصصتها لدراسة علم الاجتماع دراسة كثيفة ومركزة ، بحضور المحاضرات والعكوف على المراجع في المكتبة . وكان أساتذة القسم من كبار علماء الاجتماع الفرنسيين من تلاميذ " دركهايم " زملائه مثل " فوكونه " و " هالفاكس " و " البيريان ". وكانت استفادتيمن هذين الفرعين الأدب الفرنسي وعلم الاجتماع كبيرة جداً ، فقد مكنتني من الولوج في صميم الثقافة الغربية والتفكير الغربي ومذاهبه الفكرية والأدبية من منابعها الأصلية ، وعن طريق الاختصاصين من أهلها ، لا بالواسطة وعن طريق الترجمة . إن هذه الدراسة وسعت آفاقي وأكسبتني بعض المزايا الفكرية ولا سيما في طرائف البحث وأساليب التفكير ، ولكنها لم تستطع أن تؤثر في معتقداتي ولا أن تغزو عقلي، ولكنها زودتني بمعلومات نافعة ومناهج مفيدة ، وأثارني جانبها السلبي وحفزني للرد عليها ، فتولد في نفسي كثير من الأفكار الجديدة ، واكتشفت كثيراً من خصائصه . واستحكمت حجتي وقويت في الدفاع عن مزاياه ، وتمكنت من التمييز بدقة بين مفاهيمه والمفاهيم الغربية ، لأني عرفت كلاً منهما من منابعه الأصلية دون اختلاط وتلفيق . وكنت خلال دراستي في باريس كثير التطلع لمعرفة مختلف آفاق المعرفة ، فلم أكن أقتصر على محاضرات الجامعة ، بل كنت أحضر المنتديات والمحاضرات العامة ، وأتردد على مختلف المعاهد العلمية والنوادي على تعدد اتجاهاتها وألوانها ، وأتصل بالمجتمع اتصال بحث وتعرف استعداداً لاستثمار هذه المعرفة في مجال الدعوة الإسلامية التي كانت تشغل نفسي من عهد مبكر وقبل سفري إلى فرنسا . وقد تعرفت في جملة ما تعرفت إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في الجزائر، وكان لهم يومئذ تسعة أندية في باريس ، وكان يمثلهم الشيخ الفضيل الورتلاني ، رحمه الله ، وكنت أتردد على نواديهم وأتعاون معهم في مجال الدعوة الإسلامية التي كانت أشمل من محاربة الاستعمار وبالتحرر والاستقلال .
إجازاته العلمية :
أما الشهادات التي نلتها فهي (بعد شهادة الدراسة الثانوية) قسم الرياضيات :
شهادة الحقوق من الجامعة السورية سنة 1935 م من دمشق .
شهادة مدرسة الأدب العليا السورية سنة 1935 م من دمشق .
شهادة الليسانس في الآداب من السوربون من جامعة باريس سنة 1937 م .
شهادة أو دبلوم في علم الاجتماع والأخلاق من جامعة باريس سنة 1938 م.
وكانت ثقافتي دائرة اهتمامي موزعة في المجالات التالية :
1 ـ (اللغة العربية والآداب والنقد) ، وكنت متابعاً لهذا النوع من الدراسة متابعة جدية بالإضافة إلى الدراسة النظامية القوية يومئذ بالدراسة على والدي رحمه الله ، الذي قرأت عليه بعض شروح المعلقات وشرح مقامات الحريري والمقصورة الدريدية وغيرها ، وعلى شيخنا الشيخ محمد بدر الدين رحمه الله ، الذي قرأت عليه بعض كتب النحو والصرف والبلاغة . ثم أكملت هذه الدراسات العربية بدراسة الأدب الفرنسي الذي خصصت له من دراستي في فرنسا سنة كاملة فوسعت آفاقي الأدبية وتمرست بقراءة أعلام الأدب الفرنسي الكلاسيكي والمعاصر وتفوقت بذلك ملكتي اللغوية والأدبية .
وقد مارست تدريس الأدب العربي في مختلف عصوره في المدارس الثانوية ، ثم في دار المعلمين العليا التي أنشئت قبل كلية الآداب ، حيث درست النثر في العصر العباسي ، وخاصة نثر ابن المقفع ، ثم درّست في كلية الآداب في قسم اللغة العربية ، فقه اللغة والدراسات القرآنية ، سنوات طويلة بدءاً من 1948 م حتى 1966 م وألفت في كل من المادتين ، كما كنت أخرجت قبل ذلك رسالة في فن القصص في كتاب " البخلاء " للجاحظ .
2 ـ (الدراسات الإسلامية) ، درستها على والدي رحمه الله ، وكان مدرساً للدين في ثانوية دمشق الوحيدة يومئذ ، بل في سوريا باستثناء ثانوية حلب التي أحدثت بعدها . وكانت له طريقة خاصة مؤثرة في التدريس ، وقد درسنا خاصة بتوسع الأحوال الشخصية والسيرة النبوية . ودرست عدة سنوات على شيخنا الكبير الشيخ محمد بدر الدين رحمه الله التفسير والحديث والمصطلح والكلام والفرائض ، وغيرها . وأما الفقه فقد درست بنفسي مطولاته في المذهبين : الحنفي ،المالكي .
ولما كانت الدراسات الإسلامية محور اهتمامي فقد تابعت البحث فيها والمطالعة دون انقطاع ، وخاصة المشكلات المعاصرة وجانب الصراع بينها وبين الثقافات الأجنبية، والمشكلات المتعلقة بالعالم الإسلامي الحاضر. وقمت بتدريس هذا النوع من الدراسات في نطاق الجمعيات الإسلامية أولاً منذ سنة 1939 م ثم في دار المعلمين بدمشق ، ثم في كلية الشريعة التي أنشئت في جامعة دمشق 1954 م ثم في جامعة أم درمان ، ثم في كلية الشريعة بمكة وجامعة الملك عبد العزيز بجدة ، وألقيت في مختلف موضوعاتها مئات المحاضرات وكتبت كثيراً من المقالات ، ثم أخذت في التأليف فيها منذ سنة 1957 م وما بعدها . وانشغالي في هذا النوع من الدراسة أكثر في الفكر والعقيدة والنظم ، وقد انصرفت أخيراً انصرافاً كاملاً للدراسات الإسلامية واستأثرت بكامل اهتمامي .
3 ـ (الدراسات الاجتماعية) ، ولي إليها ميل قديم غذاه دراستي لعلم الاجتماع في فرنسا دراسة كثيفة مركزة ، وعنين بداسة المجتمعات الإسلامية والعوامل والتيارات المؤثرة فيها ، وبوجه خاص التيارات الفكرية المعارضة للإسلام ، ولي في هذا المجال بعض المؤلفات ، وأهمية هذا النوع من الدراسات عندي برزت بوجه خاص بسبب الحاجة إليها في مجال الدعوة الإسلامية ومعرفة المجتمع الإسلامي المعاصر، وما يواجهه من مشكلات وأفكار وتيارات ، وغير ذلك من المسائل الدائرة في هذا الفلك ".
مؤثرات دافعة :
لقد أحسن الأستاذ بهذا الاستقصاء الدقيق لموارده الدراسية ، فأردنا كيف استطاع الجمع بين الثقافتين الإسلامية والعصرية منذ أيامه الأولى ، وقد وفقه الله كثيراً إذ وهب له مثل ذلك الوالد ذي الشهرة الواسعة في العربية وغريبها وآدابها ، ووصله بالمحدث الشيخ بدر الدين الحسني ، الذي ملأ ذكره أنحاء الشام وما وراءها .. وكان كلا الرجلين ناقلاً إلى الشام مواريث العلوم الإسلامية من تراث الأندلس ، الذي انتهى إلى المغرب والجزائر وما حولهما ، مع الخصائص التي ميزت بناة ذلك التراث من شمولية الثقافة ، التي لا تعرف الانغلاق بوجه أي رافد من العلم .. وذلك هو الجو الذي نشأ في كنفه الأفذاذ من جيل الأستاذ المبارك والطنطاوي ، الذي إليه يرجع الفضل في تثبيت المعاني الإسلامية ، وتحبيب البلاغة العربية إلى تلاميذهم وقرائهم ، ممن يسر لهم الله الأخذ عنهم والتأثر بأساليبهم في ديار الشام وغيرها .
وهكذا شخص الأستاذ المبارك إلى باريس ، التي أخذ بريقها أعين الكثيرين من المسلمين ، حتى بعض الأزهريين ، الذين قصدوا إليها لطلب المعرفة ، فلم يلبثوا أن نسوا أنفسهم ومهمتهم ، ثم عادوا بعقول أجنبية ، لا تهتدي إلى نافذة تطل منها على الحياة إلا من خلال النظارات التي حملوها من هناك !! ومع أنه لم يقصر عن أولئك المسحورين في شيء من الثقافة التي فتنتهم ، إلا أنها واجهت من مناعته ما أعجزها عن إذابته ، فظل واعياً لما يرى ويسمع ، يعرض كل شيء على موازين الإسلام ، فلا يرفض ولا يقبل إلا في نطاق أحكامه . وبهذه المناعة نفسها كان يجابه دسائس المستشرقين من أساتذته ، فيبطل مدعياتهم ، ويحطم هجماتهم . بل إنه استمر على صلته الحية بالعاملين للإسلام حتى في باريس ، فلقي هناك الأمير شكيب أرسلان ، الذي سبق أن عرفه من خلال بعض ما كتبه فأحبه ، ولا بد أنه ازداد إعجاباً به وانسجاماً مع أفكاره ، التي كانت تشكل أحد معالم الطريق لدعاة الأخوة الإسلامية ، في مقابل النافخين أبواب الأقليميات لتمزيق العالم الإسلامي .
وهناك أيضاً اتصل ببعض كبار المجاهدين من " جمعية العلماء المسلمين الجزائريين " وفي مقدمتهم المرحوم الفضيل الورتلاني ، واستمر (يتردد على أنديتهم ويتعاون معهم في مجال الدعوة الإسلامية ، التي كانت يومئذ أشمل من محاربة الاستعمار والتحرر والاستقلال) .
ومن هذا كله يتضح أن (الفتى المبارك) لم يفارق في باريس جوه الروحي الذي ألفه في دمشق ، بل ربما ازداد به تعلقاً ، فكان ذلك باعثه إلى حسن التخير والاستفادة من كل معرفة جديدة (استعداداً لاستثمارها في مجال الدعوة التي كانت تشغل نفسه من عهد مبكر وقبل سفره إلى فرنسا) .
وعن الرجال الذين أثروا في توجيهه يكتب الأستاذ :
لقد كان لوالدي رحمه الله ، أثر في توجيهي وتكوين شخصيتي العلمية والاجتماعية بأسلوبه الشخصي الفذ الذي عرف به بين جميع تلاميذه ، وقد كان بالنسبة لي مرشداً مربياً وأستاذاً معلماً ووالداً ، علمني الحرية الشخصية . وكثيراً ما كنا نختلف في الرأي ونتناقش بحرية ، وكانت طريقته في الأخلاق والدين توجيهاً لا إكراه فيه ، ولا قسر، ولا مضايقة ، وكان كثيراً ما يلاعبنا ونحن صغار، ويتبارى معنا بالكرة ، نضربه بها ويضربنا ، والماهر منا من يفلت من إصابتها ، وعلمنا السباحة . وكان يحب الرجولة ومظاهرها ، ويكره الضعف والتخنث ، وكان كريماً يكره البخل والبخلاء ، وكانت له في البلد وعند الحكام وجاهة وزعامة لقوة شخصيته وكثرة تلاميذه وتلاميذ أبيه ، وكثرة مخالطته لمختلف الطبقات ، وكان في المجالس العامة محدثاً بارعاً .
وكان لشيخنا العظيم العلامة الكبير الصالح التقي المتعبد الشيخ محمد بدر الدين الشهير بالحسيني محدث الديار الشامية في عصره ، أثر عميق في نفسي في طراز حياته الفريد من نوعه وفي سمته وتقواه وانكبابه على العلم واطلاعه على العلوم بل الثقافة الإسلامية بجميع فروعها ، وكانت له بي عناية خاصة في تعليمي وتوجيهي ، وكانت له في توجيهه مرام بعيدة ، وكان من جملتها توجيهي بطريقة غير مباشرة ، لتعلم اللغة الأجنبية وتشجيعي على السفر إلى أوروبا للتعلم ، ولم يكن ذلك مألوفاً من أمثاله من علماء العصر.
وكان أكثر دهره صائماً ، قلما يتكلم إلا بعلم أو ذكر، يمنع الناس من القيام له ومن تقبيل يده ، ويغضب لذلك . وكان يعلن في دروسه فرضية الجهاد لإخراج الأجنبي الكافر المستعمر، وكان على صلة مستمرة مع الثائرين على فرنسا في سورية . وكان للأمير شكيب أرسلان رحمه الله ، أثر عظيم كذلك في نفسي بمؤلفاته وما كان ينشره في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية ، والتحرر من الاستعمار، وقد كان له الفضل الأول علي وعلى أبناء جيلنا في تكوين وعي إسلامي يصلنا بالعالم الإسلامي ، ويشعرنا بانتمائنا إلى الأمة الإسلامية ، ويتجاوز بنا الوطنيات والقوميات التي كانت لها يومئذ سوق رائجة ، وقد جعلنا نعيش في أجواء المشكلات الإسلامية وقضايا الإسلام المعاصرة بكتبه ومقالاته . وقد أتيح لي بعد ذلك أن أجتمع به في باريس حين إقامتي فيها . وقد كان رحمه الله مطارداً من جميع دول الاستعمار، بل من أنصار الوطنية في بلده الذين يحلونها محل الإسلام ، ومن دعاة الرابطة القومية الذين يكرهون الرابطة الإسلامية ويحاربونها .
وممن أثروا في توجيهي الفكري من القدماء بآثارهم التي قرأتها ابن تيمية ثم من بعده تلميذه ابن قيم الجوزية .. ذلك أني وقعت على كتاب الحسبة لابن تيمية في مكتبة جدي ، فأعجبت بتفكيره ونقاشه وبحثه ، كما قرأت كذلك كتاب " الطرق الحكمية في السياسة الشرعية " ثم اطلعت على أعلام الموقعين لابن القيم ، وكنت حينئذ طالباً في الحقوق ، ولهذه الكتب الثلاثة صلة بالعلوم الحقوقية ، ففتحت أمامي آفاقاً جديدة وكشفت لي عن جوانب من عظمة التشريع الإسلامي من جهة ، وعن إبداع الفقهاء والمفكرين المسلمين ، ثم وجدت في مكتبتنا مجموع رسائل ابن تيمية ، وكتاب " الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح " . واستهواني النقاش بين الصوفيين والسلفيين الذي وجدت في موضوعه مادة خصبة في مكتبتنا وعديداً من الكتب التي تمثل الفريقين ، فأولعت بتتبع هذا النقاش . ومن خلال هذه القراءات تولد عندي ميل شديد لمدرسة ابن تيمية وتلميذه ، وأعجبت بسعة علمه وعلو مستوى تفكيره وبعد آفاقه وحسن فهمه للنصوص واستنتاجاته ، كما أعجبت بفقه ابن القيم وتعليلاته وأبحاثه ، لقد كانت صلتي بهذين الإمامين وآثارهما أكثر بكثير من صلتي بآثار محمد عبده ورشيد رضا ، بل إني أعترف بأني صلتي بهما كانت ضعيفة ضئيلة ، وقراءتي لهما نادرة ومتأخرة جداً . وفي مقابل ذلك كنت أقرأ للمحدثين من أفكار الفكر الفلسفي الحديث مثل فريد وجدي وأمثاله .
إن تأثير ابن تيمية كان واضحاً في تحريري من كثير من الأفكار التي كانت شائعة في البيئة التي نشأت فيها ، وقويت عندي ملكة الرجوع إلى الدليل من الكتاب والسنة ، وكنت بدأت بسلوك هذا الطريق إثر مطالعتي الكثيرة لكتاب " بداية المجتهد " لابن رشد و"الموافقات ، للشاطبي ، ولم يعد احترامي لشيخي ووالدي رحمهما الله ومحبتي لهما ، بمانعين لي من مخالفتهما في الرأي حينما يتضح لي الدليل الشرعي والعقلي .
وعن العلوم التي يؤثرها يقول :
لقد كان لي ميل فطري إلى الرياضيات منذ الصغر وكنت من المتفوقين فيها منذ الدراسة الابتدائية حتى نهاية الدراسة الثانوية ، وكنت دائماً في الشعبة العلمية ، وشهادتي الثانوية كانت من شعبة الرياضيات ، وكنا ندرس فيها ستة فروع أو مواد رياضية (هي الحساب والجبر والهندسة المسطحة والمجسمة والوصفية والمثلثات والميكانيك والفلك) . وقد درست كذلك الرياضيات في مراجعها الإسلامية القديمة كشروح خلاصة الحساب للعاملي ، وأشكال التأسيس في الهندسة ، وتحرير أصول أقليدس للطوسي وغيرها . وتابعت كذلك دراستها في مراجعها الفرنسية على أستاذ مختص أثناء دراستي للحقوق ، وكنت آمل أن تكون دراستي التخصيصية في أحد فروعها ، ولكن الله سبحانه قدر لي غير ذلك .
وكان لي كذلك منذ بداية طلب العلم ميل إلى العلوم العربية والعلوم الإسلامية ، وربما كان أسباب ذلك بيئتي الخاصة وتأثير والدي ولا سيما بالنسبة للغة وتأثير مكتبتنا الخاصة . وتقوى هذا الميل حتى غلب على غيره بسبب قوة رغبتي في الدعوة الإسلامية منذ زمن مبكر في حياتي . وكذلك الدراسة الاجتماعية الحديثة ملت غليها ، وربما لما فيها من التعليلات السببية للحوادث الاجتماعية ، وهي بذلك تمت بسبب إلى الرياضيات ، وربما لما أجد فيها من نظريات كشفت لي عن محاسن الإسلام وعظمته، ومطابقته للتطور السليم ومراعاته للعوامل الاجتماعية المؤثرة ".
ولقد سبق للأستاذ أن حدثنا عن هذه الميول ، وسيحدثنا عنها في تفصيل أكثر، وبذلك نؤخر ملاحظاتنا عليها إلى موضعها الآتي . ونكتفي هنا بالإشارة إلى ذلك الترابط بين نزوعه الرياضي ، ودراساته الاجتماعية ، واتجاهه الإسلامي .وقد أحسن الأستاذ في ما ذهب إليه من تعليل للعلاقة بين الرياضيات والاجتماعيات ، على أساس ما في كل منهما من تقص للأسباب وتلازم ما بين المقدمات والنتائج .. ولا جرم أن الفكر الناشئ في هذا الجو الرياضي أكثر ما يكون استعداداً لفهم الحقائق الإسلامية ، القائمة على سنن الفطرة في كل شيء ، من خفايا النفس الإنسانية إلى أدق الدقائق في القوانين الكونية . ولعلي لا أكون بعيداً عن الواقع إذا قرنت إلى حد ما بين هذا التنظيم الفكري ومؤثرات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في عقلية الأستاذ ، تلك التي حررته ـ كما يصرح ـ من كثير من الأفكار الشائعة في بيئته ، حتى بات تعلقه بالدليل القطعي من كتاب الله وسنة رسوله ، أقوى حتى من حبه لأبيه وشيخه .
وعن الأحداث التي عاصرها يقول الأستاذ :
" كان في مقدمتها الصراع بين أنصار الدين وأنصار الإلحاد والعلمانية ، والصراع مع الاستعمار، وكانت الثورة السورية على فرنسا من الأحداث التي عشت في أجوائها . كما كان لكثير من الأحداث في شتى البلدان الإسلامية أصداء قوية كإلغاء أتاتورك للخلافة ، وإمعانه في محاربة أي صلة للأتراك بالإسلام واللغة العربية ، وكالظهير البربري ، أعني المرسوم القاضي بفصل البربر عن العرب في المغرب ، الذي أصدرته فرنسا .
لقد كنا نعيش بعواطفنا وعقولنا في جانب المناصرين للدين والثائرين بالاستعمار والداعين إلى وحدة المسلمين فضلاً عن وحدة العرب ".
وإنها لأحداث يستخفها الجاهلون وينوء بذكرها العالمون . وأي صدمة للقلب المسلم تعدل إقدام اليهودي الدونمي على إلغاء الخلافة ، التي ظلت تلف المسلمين بذراعيها طوال ثلاثة عشر قرناً ونيفاً، فيشعرون بوحدة انتمائهم ، مهما تفرقت منهم الآراء والمذاهب ! ... فإذا هم يفاجئون بتمزيق ذلك الرباط ، وإذا هم إثر ذلك شيع تتخطفهم مخالب الأعداء ، ويتسابقون في مضامير العداء ، لا يراعون في دينهم إلا ولا ذمة ، ويتمادى بهم الضلال حتى ليخربون بيوتهم بأيديهم .. وما كان للظهير الفرنسي ، القاضي بنسف أخوة الإسلام بين العرب والبربر في الجزائر والمغرب ، وما تبعه وعاصره من دعوات هدامة ، سوى بعض الثمرات المسمومة لتلك الشجرة الملعونة ، التي غرسها أتاتورك ، فشجعت على الإسلام حتى من لا يستطيع دفعاً عن نفسه .
وما أوجع قول الأستاذ : كنا نعيش بعواطفنا وعقولنا في جانب المناصرين للدين والثائرين بالاستعمار !..
أأن نعيش بعواطفنا وعقولنا مع الإسلام وأعوانه هو كل ما نملكه لنصرتهم .. وا أسفاه ! ولكن .. لا بأس .. إن تحسس الشعوب للأحداث ثم التفاعل معها هو أول علائم الحياة ، ومبدأ الانطلاق لتحقيق الواجب .
ويتجاوز فضيلة الأخ الاستطلاع الثامن ليحدثنا عن مجالات نشاطه في خدمة العلم وطلابه ، حديثاً مفصلاً ممتعاً .
يقول حفظه الله :
كانت البيئة التي عشت فيها والعقيدة الإسلامية التي غذيت بها ، والثقافة الإسلامية التي تلقيتها ، في أوسع آفاقها ، ومتابعتي للأحداث فيما ينشر في الكتب والمجلات العربية والإسلامية ، كل ذلك كان موجهاً قوياً لي للعمل في الدعوة الإسلامية وجعلها هدف حياتي وغاية نشاطي ، ولذلك كان عملي في مجال الدعوة في زمن مبكر من حياتي . فلقد عملت عملاً جاداً في مقاومة إحلال التشريع الغربي محل التشريع الإسلامي سنة 1935 م إذ كنت طالباً في الحقوق بدمشق ، وقدمت أنا وصديق لي حملة علمية وصحفية مركزة في سبيل ذلك ، وكان الظفر والحمد لله نتيجة لها يومئذ ، إذ كان في عزم السلطة الفرنسية إحلال مشروع قانون مدني فرنسي إيطالي محل مجلة الأحكام العدلية الشرعية ، التي كانت القانون النافذ منذ العهد العثماني ، وهي مأخوذة من الفقه الحنفي ، فأبقي على المجلة الشرعية ، وعدل عن المشروع ، وبقيت معمولاً بها إلى عام 1949 م فألغيت في عهد الانقلاب الذي تزعمه حسني الزعيم ، وأحل محلها القانون المدني الحالي الذي وضعه الدكتور عبد الرزاق السنهوري ، وأسكت أصوات المعارضة بالقوة والعنف .
وعملت كذلك أثناء إقامتي في باريس مع رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ، ورتبت مع صديقي الأستاذ عمر الأميري حملة للنص على الإسلام في الدستور السوري ، الذي كان مزمعاً وضعه بعد مفاوضات الوطنيين مع فرنسا لاستقلال سورية . وبعد أن عدت من فرنسا أواخر سنة 1938 م باشرت العمل مع أصدقاء سابقين كانوا قد أسسوا في كل من حلب ودمشق جمعية إسلامية نشيطة تعمل في الدعوة الإسلامية في المجال الاجتماعي والثقافي .
كان عملي في نطاق الجمعيات الإسلامية المتعاقبة عملاً توجيهياً وعلمياً ، محوره التوعية الشعبية العامة توعية عقائدية فكرية واجتماعية وسياسية ، وكان هذا النشاط إلى جانب عملي الوظيفي (مدرساً ثم مفتشاً) ثم عملي السياسي حينما استقلت من الوظيفة عام 1947 م ولقد كان لي حلقات علمية أعالج فيها موضوعات إسلامية علمية ومشكلات اجتماعية مع طلاب ومدرسين وعمال ، كما كان نشاط متواصل في إلقاء محاضرات عامة على مختلف المستويات . ولم يقتصر نشاطي على المدن بل كثيراً ما كنت أخرج مع فريق من الشبان إلى القرى للدعوة والتوعية . ثم تطور هذا النشاط حتى شمل المشاركة في أكثر المؤتمرات الإسلامية التي عقدت في العالم الإسلامي في كراتشي ولاهور ودمشق ومكة ومقاديشو والقدس وطرابلس الغرب (ليبيا) ، كما زرت كثيراً من البلاد الإسلامية والمجتمعات الإسلامية في آسيا وإفريقيا وأوروبا .
النشاط السياسي :
لم يكن يخطر ببالي أن أتجاوز نطاق العمل التعليمي من جهة ، والعمل في الدعوة الإسلامية من جهة أخرى ، وكذلك كانت حال العاملين في الدعوة الإسلامية يومئذ ، وذلك لاعتقادنا أن الدعوة الإسلامية تحتاج أولاً إلى مرحلة طويلة في مجال نشرها وترسيخها وتكوين قاعدة لها ، وتأتي السياسة والحكم نتيجة طبيعية ولكن ربما بعد جيل . بيد أن غزو الأحزاب العقائدية المبنية على أساس غير إسلامي ، وانفتاح المجال لها عن طريق الانتخابات العامة التي جعلت على درجة واحدة أي شعبية عامة مباشرة ، وذلك ابتداءً من عام 1947 م جعل أصحاب الفكرة الإسلامية يغيرون رأيهم ويخشون أن تسد عليهم الطريق تلك التيارات المستوردة الوافدة بأساليب غير مشروعة أو بفتنة الناس ببريق مظاهر الجدة والتجديد ، وحصلت مذكرات كثيفة في نطاق الجمعيات والجماعات الإسلامية وانتهت إلى إجماع العلماء وأهل الرأي والجمعيات على دخول الانتخابات والميدان السياسي بوجه عام، وكنت ممن وقع عليهم الاختيار للترشيح للنيابة عن مدينة دمشق لمجلس النواب عام 1947 م وكنت الفائز من بين مرشحي دمشق من الجبهة الإسلامية مع عدد من المؤيدين من قبلها ، وبعد نحو سنتين حل المجلس إثر انقلاب أعقبه انقلاب آخر، وانتخب مجلس جديد بصفة مجلس تأسيسي لوضع الدستور، ونجح في عضوية هذا المجلس عدد أكبر من ممثلي الفكرة الإسلامية ، وكنت واحداً منهم .
وشاركت في عدد من الوزارات التي تألفت في عهد هذا المجلس ، وشغلت وزارة الأشغال العامة والمواصلات ، ثم وزارة الزراعة ، وذلك ما بين 1949 ـ 1952 م واشتدت في هذا العهد المعركة السياسية العقائدية . وشبت معركة حول أسس الدستور، انتهت إلى وضع نصوص إسلامية قوية وصريحة في الدستور الذي أقر عام 1951 م ثم أطاح انقلاب جديد قام به أديب الشيشكلي بالمجلس ، ثم أعقبه بعد أقل من سنتين انقلاب آخر أعاد الحياة الدستورية والمجلس حتى استكمل مدته ، ثم اعلن عن انتخاب مجلس جديد عام 1954 م ورشحت نفسي نائباً عن دمشق مستقلاً ، لأن الهيئات الإسلامية قررت عدم الاشتراك في الانتخابات للمنتمين إليها .
وتابعت مهمتي بعد نجاحي في الانتخابات ، أعبر عن الفكرة الإسلامية في مجلس النواب في المواقف السياسية والتشريعية إلى أن انتهت مدة المجلس عام 1958 م وكانت الوحدة بين مصر وسورية ، فلم يعد ثمة مجال للتعبير الحر عن الأفكار فانصرفت إلى العمل العلمي ، ولم أشارك منذ ذلك الحين في العمل السياسي لا في عهد الوحدة ولا بعدها .
لقد كان الصراع الفكري والعقائدي والسياسي على أشده في تلك الفترة في سورية وسائر المنطقة ، وكانت الفكرة الإسلامية ، بالرغم من قوتها الشعبية ، تتعرض لأشد الضغوط السياسية الداخلية ومن ورائها القوى الخارجية ، لتخوف الغرب الديمقراطي والشيوعي على السواء من انبعاث الفكرة الإسلامية وعودة الإسلام مجتمعاً وحضارة ودولة ، وكذلك بسبب ما كونه الاستعمار عن طريق مناهج التعليم والتربية من فئات تنكرت للإسلام بأسماء وعناوين مختلفة وبشتى الذرائع ، وكانت القوى الخارجية المختلفة ـ الغربية والشرقية ـ تعمل عن طريق القوى الداخلية لتطويق القوى الإسلامية الناهضة والقضاء عليها .. خلال جميع تلك المراحل التي مرت بالبلاد بعد الاستقلال .
في الوظيفة :
بعد أن أنهيت الدراسة في جامعتي دمشق وباريس عينت مدرساً للغة العربية في المدرسة الثانوية في حلب في العام 1938 ـ 1939 م حيث بقيت سنتين انتقلت بعدهما إلى دمشق . وكنت ادرس في ثانويتهما الكبرى الأدب العربي ، وأحياناً الأخلاق والمنطق والنصوص الفلسفية ، ودرست كذلك في دار المعلمين ثم في دار المعلمين العليا . وقد كان لي نشاط ملحوظ في المحاضرات العامة في مختلف نوادي العاصمة في شتى الموضوعات : اللغة والأدب والقضايا الاجتماعية والإسلام .
وفي عام 1954 م تم جلاء الجيوش الأجنبية عن سورية ، وكانت بداية الحكم الوطني المستقل ، وجرت في وزارة المعارف تنظيمات جديدة ، كان من جملتها إحداث لجنة فنية عليا في الوزارة تتألف من أعضاء من مختلف الاختصاصات لوضع الخطط والمناهج والأنظمة ، كما تم إحداث هيأة تفتيشية للتعليم الثانوي في عموم سورية ، فعينت عضواً في اللجنة الفنية للتربية ومفتشاً اختصاصياً لسورية لمادتي اللغة العربية والدين .
وعن هذا الطريق عرفت جميع المحافظات السورية التي كنت أزورها بصفة مفتش عام . وكثيراص ما كنت أكلف تفتيش مواد اللغة الفرنسية والفلسفة لعدم وجود مفتش لهذه المواد يومئذ . وفي هذه الفترة بالذات كلفت بوضع مناهج اللغة العربية والدين للمدارس الثانوية منفرداً ، وعملت في ذلك عملاً جاداً استغرق نحو شهرين ، أنجزت خلالهما وضع مناهج هاتين المادتين لجميع سنوات التعليم الثانوي الست . وكان ذلك العمل تغييراً جذرياً غير مسبوق في جميع البلاد العربية الأخرى التي كنت اطلعت على مناهجها . وأقرت تلك المناهج بعد جدل طويل مع المشرف يومئذ على وزارة المعارف وهو الأستاذ ساطع الحصري ، الذي كان يصر على أن يكون منهج الدين مقصوراً على العقائد والعبادات ، وقد أعانني الله عليه وأقرت المناهج كما وضعتها ، وبقيت معمولاً بها ولا تزال حتى تاريخ كتابة هذه الأسطر (1396 ـ 1976 م) لم يلحقها إلا تعديلات قليلة ، وكانت أسبقيتها هذه من حيث بناؤها على أساس أن الإسلام مذهب شامل ودين كامل يستوعب الحياة من جميع جوانبها ، ومن حيث تصنيفها تصنيفاً حديثاً يتدرج حسب سنوات الدراسة وتقوم على التوجيه إلى الكتاب والسنة في موضوعاتها . وقد كان لهذه المناهج أثر عميق في تكوين عدة أجيال متلاحقة ، ورسم خط السير لأساتذة الدين ، ولا سيما بما أضيف إليها من وضع خطة لإعداد المدرسين المختصين بعد الدراسة الثانوية ، وكانوا يعينون بطريقة عشوائية لا تلتزم فيها دائماً المؤهلات العلمية الصحيحة ، ولا تشترط فيها أي شروط . ومنذ ذلك الحين بدئ لأول مرة بإرسال البعثات للتخصص في الدين بعد استكمال الدراسة الثانوية .
وفي سنة 1946 أقصيت عن التفتيش واقتصر عملي على عضوية اللجنة الفنية ، وذلك بسبب ما قمت به من نشاط إسلامي في المحافظات التي كنت أزورها للتفتيش ، وذلك بإلقاء المحاضرات العامة في أهم الموضوعات المتعلقة بالإسلام والتعريف بدعوته أو بالقضايا المعاصرة ، مع أنه لم يعين أحداً بدلاً عني في التفتيش تلك السنة .
وفي عام 1947 قدمت استقالتي من وزارة التربية وذلك لكي تمكنني من ترشيح نفسي للانتخابات النيابية عن مدينة عن مدينة دمشق تلبية لرغبة رابطة العلماء والجمعيات الإسلامية . واستمر نشاطي الإسلامي السياسي حتى عام 1958 الذي تمت فيه الوحدة بين مصر وسورية ، وحينئذ انصرفت بكليتي للعمل الجامعي العلمي .
عملي في التدريس الجامعي :
لم يخل نشاطي السياسي منذ أواخر 1947 عن الاستمرار في التدريس ، فقد كلفت أوائل العام 1948 بتدريس مادة فقه اللغة ، ثم الدراسات القرآنية ، في قسم اللغة العربية من كلية الآداب بجامعة دمشق . واستمر تدريسي هذا نحواً من عشر سنوات ، وانقطعت عنه سنوات درس خلالها هذه المواد زميل صديق ثم عدت لتدريس فقه اللغة حتى 1966 .
وفي العام 1954 ـ 1955 الدراسي أسست كلية الشريعة في جامعة دمشق ، تنفيذاً للدستور الذي ينص على اعتبار الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع ، وعينت بسبب سابقتي التعليمية وتدريسي في دار المعلمين العليا سابقاً وفي كلية الآداب أستاذاً في هذه الكلية ، وشاركت مشاركة أساسية في وضع خطتها ومناهجها ، ولا سيما مناهج المواد التي اقترحت شخصياً وضعها لأول مرة في أمثالها من الكليات ، وهي : "نظام الإسلام " و " حاضر العالم الإسلامي " ، ودرست فيها مواد متعددة في المدة التي عملت فيها من 1954 ـ 1966 وهي فقه اللغة ، ونظام الإسلام ، والعقيدة ، وعلم الاجتماع . وحينما أنشئت الأقسام كنت رئيس قسم العقائد والأديان ، ثم عينت عميداً لها عام 1958 حتى 1963 و 1964 .
ثم انتدبت من جامعة دمشق إلى جامعة أم درمان الإسلامية في السودان ، تلبية لطلب مديرها ، وعملت فيها من 1966 حتى 1969 أستاذاً ومشاركاً في التخطيط ورئيساً لقسم الدراسات الإسلامية . وخلال هذه المدة 1968 قدمت استقالتي من جامعة دمشق . كما أنني درّست في كلية الحقوق في جامعة الخرطوم مادة السياسة الشرعية .
وفي عام 1969 اقترح علي معالي وزير المعارف في المملكة العربية السعودية العمل فيها ، فقبلت ورحبت بهذا الاقتراح ، وبخاصة أني اخترت الإقامة في مكة المكرمة بجوار بيت الله الحرام . فعينت بالتعاقد أستاذاً ورئيساً لقسم الشريعة والدراسات الإسلامية في كلية الشريعة بمكة المكرمة ، وكنت عارفاً بوضعها لأني كنت اشتركت في وضع خطتها وبعض مناهجها عام 1964 ، وبقيت في هذا العمل أربع سنوات ثم عينت أستاذاً باحثاً ومستشاراً في جامعة الملك عبد العزيز بجدة .
التخطيط الجامعي :
ترجع بداية عملي في التخطيط التربوي إلى عام 1942 حيث انشئت الثانويات الشرعية في سورية، وعينت عضواً في عمدتها المنبثقة عن وزارة الأوقاف (مديرية الأوقاف العامة يومئذ) التي هي مرجعها الأعلى في الإدارة والتنظيم ، وشاركت حينئذ مشاركة أساسية في خطتها ومناهجها ، ثم استمرت عضويتي هذه بصفة ممثل لوزارة المعارف (التربية حالياً) عدة سنوات ، وكانت بعض المواد كحكمة التشريع من اقتراحي ومناهجها من وضعي .
وفي عام 1945 ـ 1947 كنت عضواً في لجنة التربية والتعليم في وزارة المعارف أشارك في اقتراح وإقرار الأنظمة عموماً وفي الأمور المتعلقة بمادتي اللغة العربية والدين بوجه خاص . وقد وضعت ، كما سبق القول ، مناهج هاتين المادتين وأحدثت في كل منهما تعديلاً هاماً . أما اللغة العربية فقد كان منهج الأدب العربي فيها مقصوراً على الشعراء والكتاب بالمعنى الضيق لهذه الكلمة ، فجعلت الأدب العربي عبر العصور شاملاً لجميع الإنتاج الفكري ولجميع فنون النثر الفني والتاريخي والفلسفي والديني والسياسي والعلمي .. بالإضافة إلى الشعر، كما عنيت بدراسة النصوص التي تمثل مختلف هذه الجوانب والفنون الأدبية . وهذا هو الفهم الذي تأخذ به الأمم المعاصرة في تاريخ آدابها .
ثم شاركت في عام 1954 في وضع خطة كلية الشريعة التي أنشئت يومئذ ، واقترحت بعض المواد الجديدة التي سأذكرها بعد قليل .
وفي عام 1960 كلفني وزير التربية المركزي في الجمهورية العربية المتحدة السيد كما الدين حسين تكليفاً شخصياً بوضع تقرير عن التعليم في الأزهر بجميع أقسامه ، فدرست الموضوع ثم قدمت له تقريراً يجعل التعليم العام تعليماً إسلامياً لا ازدواج فيه ، وتكون كليات الأزهر متعددة التخصصات كسائر الكليات ، وتكون الشهادة الثانوية الأزهرية حينئذ مقبولة في جميع الوظائف والجامعات ، وتكون هي الأصل الذي يجب أن يعمم .
وفي عام 1961 ألفت لجان لوضع الخطط لكليات الأزهر ولوضع الصيغة التنفيذية لقانون الأزهر الجديد ، فاشتركت في جميع هذه اللجان ، وكان لي فيها عدة اقتراحات هامة حازت القبول والتقرير.. منها : أن تكون شهادة كلية الشريعة معادلة تماماً لشهادة كلية الحقوق . ومنها : إحداث فرع للتخصص في التاريخ . ومنها : إحداث مواد حديثة كدراسة نظام الإسلام ، والمجتمع الإسلامي المعاصر، وإن كان بعض هذه المواد ألغي أو استبدل فيما بعد .
وكان مجلس جامعة دمشق اختارني في عام 1960 ممثلاً له في المجلس الأعلى للتخطيط الجامعي للجمهورية العربية المتحدة في القاهرة لذلك العام .
وفي أواخر عام 1961 م (1381 هـ) أنشئت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، وألف مجلس استشاري أعلى لاقتراح أنظمتها وخططها ، وأعضاؤه من بلدان مختلفة من العالم الإسلامي ، وكنت أحد أعضائه حتى عام 1396 هـ 1976 م واشتركت في وضع خطط هذه الجامعة ، واقترحت عدداً من المواد الإسلامية وأقرت ، ووضعت في مناهجها ، واستمرت مشاركتي في هذا المجلس مدة خمس عشرة سنة .
وفي عام 1964 (1384 هـ) دعيت للمشاركة في وضع خطة لكلية الشريعة في مكة المكرمة ولكلية التربية فيها من جهة الثقافة الإسلامية ، وقد أحدثت تبديلات هامة في الخطة والمناهج ، وأدخلت مواد حديثة ، كما أحدث تغيير في بناء الكليتين وتركيبهما من حيث الأقسام ، فقد اقترحت أن ينقل قسم التاريخ واللغة العربية من كلية التربية إلى كلية الشريعة ، وتم ذلك فعلاً ، واقترحت أن يكون من الكليتين ، وكانت تابعتين لوزارة المعارف جامعة تسمى جامعة أم القرى .
وفي صيف عام 1966 اشتركت في وضع خطط الكليات والأقسام في جامعة أم درمان الإسلامية في بداية تأسيسها ، وكان من المتفق عليه أن تكون جميع الفروع والأقسام مصطبغة بالصبغة الإسلامية ومشتملة على الثقافة الإسلامية .
وفي العام 1971 دعيت للمشاركة في وضع خطة الدراسة لمعهد القضاء العالي في الرياض .
وبذلك اشتركت في التخطيط الجامعي ، ولا سيما في المواد الإسلامية ، في أربع بلدان عربية إسلامية هي : سورية ومصر والمملكة العربية السعودية والسودان . وكانت لي اقتراحات تجديدية في تدريس الإسلام والثقافة الإسلامية أخذ بأكثرها . وقد أدى هذا الاشتراك إلى نتيجة هامة ، هي التنسيق بين جامعات هذه البلدان من حيث الدراسة الإسلامية وموادها ومناهجها .
المقترحات الجديدة في الدراسات الإسلامية :
لقد تولدت عندي نتيجة التجربة في التدريس من جهة ، وفي الدعوة الإسلامية من جهة أخرى ، ونتيجة التفكير في بداية الدعوة الإسلامية ، والتأمل في الآيات القرآنية وفي السيرة ، والاطلاع كذلك على المذاهب والدعوات الأخرى في العصر الحاضر، عدة أفكار أساسية صغتها في مقترحات تقدمت بها للمجالس التخطيطية التي اشتركت فيها في البلدان الأربعة المذكورة ، وهذه أهمها :
1 ـ إعطاء فكرة عامة شاملة مترابطة عن الإسلام من غير تجزئة ، لإشعار المتعلم أن الإسلام مذهب شامل من جهة ، ولتوليد عمق في فهمه وتلقيه بسبب هذا الارتباط بين أجزائه الاعتقادية والأخلاقية والتشريعية . وقد اقترحت تسمية هذه المادة " نظام الإسلام " وقد قبلت هذه التسمية وراجت وأقرت الفكرة في عدد من الجامعات .
2 ـ تدريس مادة المجتمع الإسلامي المعاصر، أعني مجتمع المسلمين في صورته الواقعية لمعرفته معرفة علمية ومعرفة بعده عن الإسلام والعوامل المؤثرة فيه ، ومحاولة تغييره في اتجاه الإسلام على الصورة المثالية . وكذلك مادة حاضر العالم الإسلامي التي يراعى فيها الدول والأقسام السياسية الحالية .
وقد أقرت هاتان المادتان أو إحداهما في كثير من الجامعات الإسلامية لأول مرة .
3 ـ محاولة تكوين علم اجتماع إسلامي ، وقد بدأت هذه المحاولة في تدريسي لعلم الاجتماع في كلية الشريعة بجامعة دمشق ، ثم أفردت لي حصتان في السودان في كلية البنات باسم " النظرية الاجتماعية والإسلامية " وقمت بتدريسها . ولا تزال هذه المحاولة تحتاج إلى زمن لإقرارها في الرأي العام العلمي ، وتقتضي مني تفرغاً لإخراج مؤلف في الموضوع شرعت به منذ زمن ولم أتمكن بعد من إتمامه .
المواد التي درستها في الجامعات والمعاهد العليا :
" الأدب العربي " درسته في دار المعلمين العليا بدمشق 1942 وقبل ذلك في سنوات الشهادة الثانوية في دمشق .
" فقه اللغة " درسته سنوات عديدة في قسم اللغة العربية في كلية الآداب بدمشق وفي معهد الدراسات العربية العالية في القاهرة .
" علوم القرآن ودراسة النصوص القرآنية " في كلية الآداب بدمشق وكلية الشريعة فيها .
" نظام الإسلام " في كلية الشريعة بدمشق وكليات أم درمان ومكة وجامعة الملك عبد العزيز .
" العقيدة " كلية الشريعة بدمشق .
" علم الاجتماع " كلية الشريعة بدمشق وكلية البنات بجامعة أم درمان الإسلامية .
" المجتمع الإسلامي المعاصر" في كليتي الشريعة والتربية بمكة وفي كلية الاقتصاد بجدة .
" السياسة الشرعية " في كلية الحقوق في جامعة الخرطوم .
" النصوص الفرنسية " في كلية الآداب في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق .
هذا عدا بعض المواد الأخرى التي درستها في المدارس الثانوية في بداية عملي التدريسي ما بين 1939 ـ 1945 بالإضافة إلى اللغة العربية كالمنطق والأخلاق والترجمة .
ملاحظات وتحليلات :
بعد هذه الجولة الواسعة مع صاحب الترجمة لا يملك القارئ نفسه من الإعجاب العميق بهذه الحياة ، التي تبلغ من الخصب مثل هذا المبلغ ، بل لا يملك إلا أن يردد على نفسه القول بأن وراء هذه الحياة وهذا النشاط يد الله التي تيسر كل امرئ لما خلق له .
لقد جاء هذا العرض مغنياً عن كل تعقيب ، بما انطوى عليه من تفصيل وتحليل ، فكل إيضاح لأي جانب منه لا يعدو كونه تكرراً لا فائدة فيه ولا لزوم له . ومع ذلك فلا مندوحة عن تذكير القارئ بأنه تلقاء صورة متكاملة من تاريخ الفكر الإسلامي في بلاد الشام بخاصة ، ومعظم الأقطار الإسلامية بعامة خلال العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية إلى يوم الناس هذا .
إنها الفترة التي بلغ فيها التحاكّ بين الفكرين الغربي والإسلامي ذروته ، وقد بدأ إملاء قهرياً بسلطان الاستعمار، ثم تطور حتى صار صراعاً بين الجيلين من أبناء المسلمين ، أحدهما ينوب عن الاستعمار المهزوم بتفجير الألغام في ما تبقى من معالم الحياة الإسلامية ، والآخر يحمل عبء المواجهة لذلك الهجوم الشرس ، الذي سخرت له كل وسائل التأثير الإعلامي والتنفيذي .
والمدقق في جوانب هذا النشاط الثرّ يلاحظ أن موضوع التعليم قد استغرق النصيب الأكبر منه تعليماً وتفتيشاً وتنظيماً ، فهو ـ معلماً ومفتشاً ـ مشبع بشعور المسئولية ، لم يستطع مزايلتها لحظة قط منذ فتح عينيه على دنيا العلم .. إنه بقية من ذلك الطراز النادر الذي يوقن أن التعليم ليس مجرد عرض للمعلومات ، ولكنه إلى ذلك وقبل ذلك عملية تقويم وتبصير، تستهدف بناء الإنسان المؤمن العامل الواعي لمسئوليته أمام الله . وقد شاء الله أن أعرف فيه هذه الخاصة منذ لقيته لأول مرة قبل ثلاثين عاماً ، إذ قد زارني مفتشاً لمادة العربية ، التي كنت أتولى تدريسها أيامئذ في طرطوس ـ سورية ـ ولست بذلك أكثر علماً من المدرسين الذين لقوه في دوراته التفتيشية الجادة . وطبيعي أن إعفاءه من عمل التفتيش غنما كان بسبب هذا الاتجاه الإسلامي ، إذ لم يكن ـ كما هو الواقع غالباً ـ في جهاز المعارف ما يشجع على الإستمرار في هذا المسلك !. على أن أبرز خصائص الأستاذ التعليمية إنما تجلت خلال عمله في نطاق المناهج الدراسية ، سواء في المرحلة الجامعية وما قبلها . وقد رأينا بعض هذه الخصائص فيما أشار إليه من محدثاته التي كانت ذات آثار بعيدة في مخططات التعليم ، ليس فقط في ديار الشام ، بل في غير واحد من الأقطار العربية : كمصر والسودان والمملكة العربية السعودية ، ومن تأثر بمناهجهم من البلاد الأخرى . وليست معركته مع المستغرب المستعرب ساطع الحصري سوى شاهد على هذه الحقيقة ، إذ كان الحصري ممثلاً للتيار الغربي الذي لا يقيم للثقافة الدينية أي وزن ، وإذ وجد من المستحيل عليه إغفالها نهائياً عمد إلى تحديد أثرها في التكوين العقلي ، وذلك بحصرها في زاوية معزولة من أجزاء المناهج . وكان المبارك ممثل الفكر الإسلامي الأصيل في ذلك الموقف ، فما زال في جهاده حتى نصر الله به الحق ، وأخذت مادة الدين مكانها الطبيعي في مقررات الدراسة ، وبذلك سجل الفكر الإسلامي واحداً من أهم انتصاراته على دعاة العلمانية في سورية وغيرها . ونحن لن نستطيع تقييم عمل المبارك في تقويم المناهج الدراسية وربطها بمعايير الإسلام ، إلا إذا استحضرنا ملامح الصورة التي نشأت في إطارها تلك المناهج ، والأيدي التي تولت تأليفها فلم تتجاوز بها في الغالب نطاق الارتجال ، أو الترجمة عن مناهج لا تمت بأي سبب إلى شخصيتنا المميزة ، وإنما تغرف من نفس المجرى الغربي الذي أفسد به دنلوب مناهج الثقافة الإسلامية .
وإني لأتساءل ، وأنا أستعرض هذا المجهود الجبار يبذله المبارك في خدمة التعليم ، والتجارب العميقة التي أثرت ذلك المجهود ، ووسعت مداه ، حتى ترك بصماته على الكثير من مناهج المؤسسات التعليمية في العالم العربي وغيره .. أتساءل : أليس من الخير استمرار التعامل مع هذا الضرب من الخبرات النادرة في كل عمل أو مشروع يمت إلى التعليم !.
وإذا تجاوزنا التدريس والتفتيش والتخطيط إلى صعيد المؤتمرات العديدة التي شارك فيها الأستاذ ، وتأملنا ملياً في عمله هناك ، ألفينا الطابع نفسه الذي ألفيناه في سائر أعماله الفكرية . إنه الاستقصاء الدقيق لواقع الحياة والمجتمعات والمذاهب ، ثم التركيز على إبراز معطيات الإسلام في تفوقها الغالب على كل ما توصل إليه الإنسان في كل مكان وفي زمان .
أجل .. إنها مميزات (المعلم) الحق الذي لا يكون معلماً حقاً إلا أن يكون امتداداً لعمل النبوة في التربية والتعليم والتنظيم ، وحتى التوجيه في نطاق الأندية والجمعيات .
بقي التذكير بالجانب السياسي من حياة المترجم ، إنه كذلك صورة واضحة القسمات لتاريخ الصراع بين التيارات الوافدة ، والقيم الخالدة من مقومات هذه الأمة . وقد حدثنا بما فيه الكفاية عن هذا الأمر، فهو ـ كأقرانه أيامئذ ـ لم يكن ليخطر في باله أن يتجاوز حدود التعليم والدعوة إلى مباشرة العمل السياسي .. ولكن غزو الأحزاب العقائدية ، المناوئة للإسلام ، عن طريق الانتخابات البرلمانية ، أشعرهم بالخطر الذي ينذر بالفتنة . وبعد مذكرات كثيفة في نطاق الجماعات الإسلامية ، انتهى الرأي إلى وجوب المشاركة في الانتخابات . وكان الأستاذ ممن اختيروا لتمثيل الاتجاه الإسلامي في البرلمان نائباً عن دمشق خلال ثلاثة انتخابات ، وقد أسندت غليه وزارة الأشغال العامة ثم وزارة الزراعة ، فلم يدخر وسعاً لخدمتهما بكل ما يملك من جهد وخبرة ، إلا أن مجرد اختياره لهاتين الوزارتين ، دون المعارف التي هو أولى الناس بها ، لو جرى الاختيار في ضوء الإسلام ، كاف للدلالة على خوف (أولي الأمر) من السير بالتعليم في الطريق الإسلامي منذ هاتيك الأيام .
وكان طبيعياً أن يواصل مسيرته في خدمة الإسلام عن طريق السياسة في ظل النظام البرلماني ، ما دام لحرية الرأي مكان هناك .. لذلك كان طبيعياً أيضاً أن يعتزل العمل السياسي كلياً منذ عام 1958 الذي كان الخاتمة الحاسمة لتلك المرحلة .. وهكذا عاد (المعلم الحق) إلى مكانه الحق الذي له خلق .
كثافة المناهج :
وقبل الانتقال إلى النقطة التالية رأينا أن نقف على وجهة نظر الأستاذ في حجم المقررات التي يثقل المناهج في مختلف ديار الإسلام، وعلى مختلف المستويات الدراسية ، لعلنا نلتقي معه على رأي مفيد في هذا الجانب ، الذي كثر الإهمال له ، حتى لم يعد يلحظ أثر تلك الكثافة في عجز التعليم عن تخريج المزودين بالعلم الحق .
وحول هذا الأمر يقول أبو هاشم :
إني شخصياً لا أعتقد أن كثرة المقررات وثقلها هو الذي يولد الضعف العام ، وإنما أرى أن تخريج معلمين ومدرسين ضعفاء في مادتهم بسبب التساهل في إعطاء الدرجات والامتحانات والأسئلة ، والاكتفاء بالقدر الذي قرره الأستاذ ، من أهم الأسباب المؤدية لذلك الضعف .. إن عدداً من الطلاب في زماننا كانوا يقرؤون المواد المدرسية ، ويقرؤون علوماً أخرى خارج المدرسة ، ويجمعون بين الثانوية العلمية والثانوية الأدبية ، ويتفوقون في أكثر من مادة . والمهم أن نوعية المدرسين هي من الأمور التي يتوقف علها حسن التعليم . إن ارتقاء الأغبياء والضعفاء والمحدودين إلى أعلى المستويات الدراسية عن طريق المساعدة والرحمة والشفقة إجرام بحق العلم ، وتخفيض لمستواه ، وإضرار بالأجيال التي تأتي من بعد ، وتتخذ من هؤلاء البلداء والضعفاء أساتذة ومدرسين .. ليس من الضروري أن يبلغ جميع الناس التعليم الجامعي ، ويحصلوا الشهادات الجامعية وفوق الجامعية ، وقد يكون عندهم من الذكاء العملي ما يجعلهم متفوقين في ميادين أخرى يحتاج إليها المجتمع . ويمكن أن نخص فئة المعلمين والمدرسين والأساتذة بالعناية الخاصة والشروط المشددة لتأهيلهم لمناصب التعليم، وحينئذ تحصل نتائج عظيمة في التعليم ، ولا تضر كثيراً حينئذ كثرة المقررات ولا ثقلها . ولست أقصد أننا يجب أن ندرس مواد لا فائدة منها أو قليلة الفائدة بل يجب الخروج على التقليد الأعمى في التدريس . وأضرب مثلاً أعرفه ومارسته مادة البلاغة ، فالمقصود بهذه المادة تكوين الملكة الأدبية والتمكين من تذوق النصوص وجمالها وحسن تفهمها ، فإذا هي تصبح مادة أغرقتها المصطلحات والتعريفات ، وتخصص لها الساعات الطوال لقراءة كتب سقيمة عقيمة ، يصر بعض الشيوخ على ضرورة قراءتها ، وليس ذلك إلا لأنهم تعودوها ، والمحصلون لهذه المقررات ـ مثل شروح التلخيص ـ هم أبعد الناس عن تحصيل الفوائد المرجوة من البلاغة . فههنا ، وفي مثل هذه الأحوال ، أرى الحذف والاختصار وسلوك أقرب الطرق الموصلة إلى الهدف المقصود . هنالك مسألة أساسية هي موضع الخلاف بين الأمم وبين المربين وهي : هل يقتصر في التعليم على المواد التي تنفع الإنسان في تخصصه وما يعد له نفسه من مهنة وعمل ، أو أن هناك ثقافة عامة في العلوم والآداب ، يجب تحصيلها على الجميع ، لما تكسبه من ترويض للعقل وللذوق ، ولما تكسبه من ملكات !. فالفرنسيون مثلاً يفضلون الأخذ بالثقافة العامة ، ولو لم تكن ضرورية للهدف العملي ، والأمريكيون يرون الاقتصار على الضروري للإعداد المقصود . ولا بأس في رأيي من التوسط بين الرأيين مع حذف ما تقل منه الفائدة أو ما لا فائدة منه .
التعليم الإسلامي :
وعلى هذا أرى أن ثمة ثلاثة أهداف للتعليم في أي بلد أو مجتمع إسلامي :
1 ـ معرفة الإسلام نفسه معرفة أساسية كافية بحيث تكون في المسلم عقيدته وفكره ونفسيته وسلوكه .. على أن تكون هذه المعرفة مركزة قوية مبنية على القرآن والسنة مع عرضها بأسلوب جديد ووفقاً لمشكلات العصر وتصنيفات المعرفة المعاصرة .
2 ـ تقوية الانتماء إلى الأمة الإسلامية ، أي إلى الجماعة المسلمة أو المجتمع الإسلامي ، ودراسة كل ما يؤدي إلى ذلك .
3 ـ معرفة العلوم التي تقوم بها دنيا المسلمين وتحصل بها قوتهم على مستوى الثقافة العامة ، وعلى مستوى التخصص . أي أن كل طالب علم يجب أن يأخذ فكرة إجمالية عن الفيزياء والكيمياء وعلوم الأحياء والفلك والرياضيات .. وأما المتخصصون فيدرسونها الدراسة التي يقتضيها تخصصهم على مختلف المستويات .
أما العلوم التي لها خلفيات وأسس فكرية وعقائدية كالحقوق والاجتماع والفلسفة وما إليها ، فيجب أن تدرسها فئة متخصصة من المسلمين المتمكنين في إسلامهم ، والمعدين إعداداً خاصاً . وذلك بغية تحرير التعليم والثقافة في البلاد والمجتمعات الإسلامية من تأثيرها ونظرياتها .. والاقتصار بالنسبة لجمهور المسلمين على الصياغة الإسلامية لهذه العلوم ، تلك الصياغة التي يجب أن تتم ليكون هناك علم اجتماع إسلامي الاتجاه ، وعلم نفس وفلسفة وحقوق إسلامية كذلك ، وهذا أمر يحتاج ، إذا خطط له ، إلى عشرين سنة على الأقل ".
تلك هي وجهة نظر فضيلته في كثافة المناهج ، ومع إقراره لجانب الكثرة يتفق معنا في ما لهذه الكثافة من أضرار، إلا أنه يراها أضراراً غير كثيرة إلى جانب ما تقدمه من نتائج . ثم يختم ذلك بالإشارة إلى محذورات المواد ذات الخلفيات العقائدية ، فيقطع بوجوب قصرها على ذوي الاختصاص من المتمكنين في حصانتهم الفكرية .. لا كما هي الآن مفروضة على كل دارس دون نظر إلى عواقبها البعيدة .
أما رأينا في هذا الرأي فسيلمسه القارئ مع تعليلاته المدروسة في أكثر من موضع من هذا الكتاب .
في ميدان التأليف :
يقول الأستاذ : لقد باشرت البحوث العلمية في وقت مبكر من حياتي ، وكنت لا أزال طالباً ، فقد بحثت في تاريخ الرياضيات عند المسلمين ، ونشرت بحثاً في الموضوع ، وبحثاً في التجارب العلمية عند المسلمين ، ونشرت نصاً لتجربة أبي الريحان البيروني في الكثافة ، وكان ذلك في عام 1934 م في مجلة " الرسالة ".
وكتبت مذكرة في التشريع الإسلامي مع مقارنته بالتشريع الغربي ، وقع عليها طلاب الحقوق يومئذ، وقدمت للجنة المؤلفة للنظر في الموضوع ، وذلك في عام 1935 م وقد نشرت نصها في كتابي "الفكر الإسلامي" .
وكان أول ما ألفت رسالة في " فن القصص " في كتاب " البخلاء " للجاحظ في عام 1940 م وقد طبع ثلاث طبعات .
ولكن تأليفي العلمي تأخر حتى عام 1957 م أي بعد تخرجي بنحو 19 سنة حيث أخرجت كتابي في فقه اللغة الذي كنت أدرس موضوعه في كلية الآداب ، ثم " خصائص العربية " الذي ألقيت موضوعاته في معهد الدراسات العربية العالية في القاهرة ، وسلكت في تأليفي في اللغة مسلكاً خاصاً يختلف عن المؤلفات الأخرى .
وفي عام 1959 م ألفت كتاب " الأمة العربية في معركة تحقيق الذات " وهو متضمن إثبات ضلال من يفصلون العرب عن الإسلام وخيانتهم للعرب ، وخطأ جعل القومية مذهباً عقائدياً في نظر التطور الاجتماعي ، وبيان دور العرب قديماً وحديثاً في نشر الإسلام وإقامة الحياة على أساسه على الصعيد العالمي والداخلي . ثم أخرجت إتماماً للنظرية كتاب " الأمة والعوامل المكونة لها " وأخرجت في تلك الفترة كتاباً في دراسة النصوص القرآنية دراسة أدبية وفكرية سميته " من منهل الأدب الخالد " ثم سميته في الطبعات التالية التي بلغت الخمس " دراسة أدبية لنصوص من القرآن " وهو نتيجة لتدريسي مدة طويلة للنصوص القرآنية في كلية الآداب منذ عام 1949 م وقبلها في دار المعلمين الأولية بحلب في عام 1939 م وهو منهج غير مسبوق في تحليل النصوص .
أما تآليفي في الدراسات الإسلامية فكان مقدمتها كتاب " نحو إنسانية سعيدة " الذي خرج عام 1957م وهو مجموع أحاديث في العقيدة . ثم توالت أجزاء كتابي " نظام الإسلام " وكان الأول في العقيدة والعبادة ، والثاني في الاقتصاد ، والثالث في الحكم والدولة . وهذا الكتاب الذي بقي منه قسمان : الأخلاق والأسرة ، هو نتيجة تفكير طويل وإعداد استمر سنين طويلة قصدت به عرض الإسلام كاملاً مترابطاً ، ملتزماً فيه الكتاب والسنة في تحديد المعالم والمفاهيم ، وحداثة الأسلوب في العرض والتعبير وتجنب المسائل الفرعية والجانبية . وحاولت فيه أن أتجاوز بالتأليف في الإسلام المرحلة السابقة ، أعني مرحلة الدفاع والمقارنات بالمذاهب الأخرى ، ورد الشبه ، وسلوك الطريق الإيجابي المشتمل ضمناً على ما يؤدي كل هذه الأغراض من غير انشغال به ، واعتبرت المخاطب به هو الإنسان مطلقاًً ، مسلماً كان أم غير مسلم ، فتجنبت الحماسة والعواطف والإلزام بالقبول استناداً إلى النقليات ، وتلك هي طريقة القرآن في مخاطبة عقول الناس جميعاً لإقناعهم بما يدعوهم إليه ، ثم بيان الأحكام لهم بعد أن يصبحوا مؤمنين بما دعاهم إليه .
وقد تلقي هذا الكتاب تلقياً حسناً في العالم الإسلامي ، وخاصة العالم العربي وباكستان وتركيا لموقع الحاجة إليه . وقد كان البدء بإخراج القسم الأول من هذا الكتاب عام 1968 م.
أما الكتب الإسلامية الأخرى ففيها معالجة لكبريات مشكلات العالم الإسلامي ، كمشكلة الثقافة ، ومشكلة المرأة ، ومشكلة الغزو الأجنبي ، والتيارات غير الإسلامية ، وأمثال ذلك ، فقد أخرجت كتاباً تضمن مجموعة بحوث من هذا النوع وهو كتاب " الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية" وذلك في العام 1969 م . وأخرجت بعده كتاباً جامعياً لدراسة " المجتمع الإسلامي المعاصر" بهذا العنوان في عام 1971 م . وربما كان هذا الكتاب أول كتاب جامعي وبحث اجتماعي في اتجاه إسلامي في الموضوع الذي يعالجه ، مع اشتماله على الخطوط الأساسية لبحث المجتمع المسلم المعاصر، وقد الفته بعد أن قبل اقتراحي لتدريس هذه المادة في الكليات الجامعية في بعض الجامعات، وخاصة كليتي الشريعة والتربية بمكة المكرمة . ولكن الكتاب في حاجة إلى إضافة بعض البحوث وإلى شيء من التفصيل والتوسع .
ومما أخرجته من الدراسات الإسلامية كتاب " الدولة ونظام الحسبة عند ابن تيمية " عام 1967 م وكان نشر منه عام 1961 م قسمه الأول بعنوان " الدولة عند ابن تيمية " وهو بحث قدمته لأسبوع الفقه الإسلامي وابن تيمية الذي أقيم عام 1960 م في جامعة دمشق ، وقد جعلت عنوانه في الطبعة الأخيرة " آراء ابن تيمية في الدولة ومدى تدخلها في المجال الاقتصادي " .
وهناك عدد من البحوث العلمية الإسلامية التي أعددتها في السنوات الأخيرة لمؤتمرات أو مناسبات، ولم تنشر بعد .
وألخص منهجي في البحث والتأليف في السير وفقاً لخصائص المرحلة التي سميتها منذ عام 1957م " ذاتية الإسلام "، وذلك في كلمتي في المؤتمر الذي عقد في لاهور في تلك السنة ، وفي محاضرة بهذا العنوان في جامعة دمشق بعد ذلك ، متجاوزاً بذلك مرحلة الدفاع ومرحلة التوفيق بين الإسلام والحضارة الغربية ، ومؤكداً على خصائص الإسلام الذاتية المستخرجة من مصدريه الأساسيين : الكتاب والسنة ، مع استيعاب مشكلات العصر المختلفة دون جعلها أو جعل حلولها الغربية قائدة ومشيرة لنا ".
إن عناية الأستاذ بالدراسات اللغوية والأدبية ، باللغتين العربية والفرنسية ، قد نبه عقله إلى قيمة الكلمة وأثرها في بناء الشخصية . ومن هنا جاء اهتمامه بالتأليف وكتابة البحوث وإعداد المحاضرات التي يقدرها بالمئات . ونظرة إلى السماء التي تخيرها لكتبه تنبئنا بالطابع الذي يميز شخصيته العلمية والأدبية . فإذا تجاوزنا رسالته الأولى عن فن القصة في " بخلاء الجاحظ " واجهنا اللون الأساسي الذي يغمرها جميعاً .. فهي كلها دائرة في فلك الإسلام لغة وأدباً وثقافة ودراسات . ومن خلال هذا الأفق نشرت على العالم كله بما يحتوي من أفكار ومذاهب ونظريات ودعوات . ولا غرابة في ذلك ، فالإسلام بالنسبة إلى الأستاذ هو القلب الذي به يعيش ، والرئة التي بها يتنفس ، وقد أسعفته دراساته الواسعة في مختلف فروع العلم ، وتجاربه اليومية في متابعة الحركات الفكرية في العالم ،أن يستشعر شمولية النظام الإسلامي الذي لم يدع ، من شئون الحياة والكون والإنسان ، صغيرة ولا كبيرة ، إلا أحصاها . فبالإسلام ينظر، وعليه يقيس ، وإليه يطمئن .. وبحقائقه يواجه كل مشكل يعترض الإنسان، وتبارك الذي أنزل كتابه : " تبياناً لكل شيء ، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ".
بقي أن نوجه إلى فضيلة الأخ الحبيب كلمة عتاب على ما كلفنا إياه من مشقة بسبب إغفاله المراعاة المنشودة لنقاط الاستطلاع .. فلقد ترك الجواب المباشر على الأسئلة 8 و 11 و 12 و 13 و فلم يفرد أياً منها بالإجابة الخاصة ، علاوة على بعض التقديم والتأخير في الإجابات الأخرى . إلا أننا نعتبر ـ ولعل القارئ معنا في ذلك ـ أن النقاط المغفلة قد اندمجت في النقاط المفصلة إلى حد ما ، فأعطت القارئ ما يجب أن يعرفه عن آرائه ومختاراته ، وما إلى ذلك من شئون وشجون .