الدكتور عبده بدوي
عاش من أجل الأصالة أدبياً وشعرياً
رحيل الدكتور عبده بدوي..
شاعر إفريقيا والعرب الكبير
صلاح رشيد /مصر
عاش مجدِّداً ورحل رائداً.. وبين الحياة والموت نسج قصة الشعر عندما يكرمه صاحبه. في عام 1927 كان ميلاد الشاعر الدكتور عبده بدوي بمدينة البحيرة بمصر صاحب الصوت الشعري الإفريقي الذي ذهب بعيداً ليطلب المجد الشعري عبر البوابة الإفريقية المتمخضة لدوحات جديدة فيها الخيال البكر والأساطير المستجدة، والذي غادر حياتنا منذ عدة أيام قلائل.
نال درجة الماجستير عام 1961 عن الشعر في السودان بعد أن تخرج في كلية دار العلوم جامعة القاهرة عام 1954م، وحصل على الدكتوراه عام 1969م عن رسالته الطريفة العويصة: "الشعراء السود واتجاهاتهم الشرعية وبيئاتهم"، ونال جائزة البحث العلمي من جامعة عين شمس والجائزة الأولى في داكار بالسنغال عن عمل درامي وجائزة شاعر مكة محمد حسن فقي الثقافية عن أفضل ديوان شعري عربي عام 1997م، وله أيادٍ بيض على الحياة الثقافية والأدبية بمصر والعالم العربي في فترتي الستينيات والسبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن العشرين حيث أصدر مجلة الشعر عن اتحاد الإذاعة والتليفزيون بمصر، وظل رئيساً لتحريرها مدة عشر سنوات وعمل مديراً لتحرير مجلة نهضة إفريقيا الصادرة عن وزارة الإرشاد والثقافة بمصر في الستينيات، وفيها اتصل بالأقاليم الإفريقية، واكتشف عمق أساطيرها وسحرها الفواح، كما اشتغل مديراً لتحرير مجلة الرسالة في إصدارها الثاني، ولا ننسى عمله الكبير في إدارة مجلة الثقافة المصرية، وهو في هذا العمل الصحفي الثقافي كان يلتقط أية موهبة أدبية ليفسح لها المجال، ويعتني بها ويعطيها الفرصة في الحياة، كما كتب للإذاعة المصرية أعمالاً درامية عديدة.
غبن شديد
لكنه للأسف الشديد تعرض لغبن شديد وظلم فادح بعد قيام العراق بغزو الكويت عندما كان أستاذاً في جامعة الكويت لمدة ثلاثة عشر عاماً حيث عاد تاركاً أمواله ومكتبته، وعندما عاد رفضت كلية الآداب بجامعة عين شمس التحاقه بها مرة ثانية فعمل في جامعات الإمارات وبغداد والكويت ومصر الدولية، وعاش في أخريات حياته مريضاً بالفشل الكلوي على هامش الحياة، منعزلاً عن الوسط الثقافي الأكاديمي بلا سبب سوى الجحود والنكران.
دراساته ودواوينه
ومن دراساته الفذة: الشعر والشعراء دراسات تطبيقية والشعراء السود، والحضارة، وأبو تمام، وقضية التجديد في الشعر، ودراسات في النص الشعري، وقضايا حول الشعر، وحضارتنا بين العراقة والتفتح، وطه حسين وقضية الشعر، وشعر إسماعيل صبري، ونظرات في الشعر الحديث.
ومن دواوينه التي كشفت عن شاعريته الكبيرة: شعبي المنتصر، والجرح الأخير، وهجرة شاعر والأرض العالية، وهي ملحمة درامية عن إفريقيا و"محمد{" وهو قصيد سيمفوني أدخل فيه لأول مرة إلى الشعر العربي الموسيقي السيمفونية متأثراً بالشعر الفرنسي خاصة بالشعراء اليهود الذين خلدوا أنبياءهم في قصيد سيمفوني حديث؛ لذلك آثر الدكتور عبده بدوي أن يتناول سيرة الرسول الأعظم { في سيمفونية درامية موسيقية تظهر جوانب العظمة فيها، وهو في هذا كان الرائد غير المسبوق.
كما أخرجت عنه جامعة الكويت عام 2000 كتاباً تذكارياً حمل عنوان "عبده بدوي" تناول فيه تلاميذه شعره وأدبه بالدراسة والبحث والتحليل والكشف عن ريادته. كما أنه يرجع إليه الفضل في اكتشاف بحر شعري جديد له جذور تراثية أهمله القدماء والمعاصرون على حد سواء.
وتعتبره الشاعرة العراقية نازك الملائكة من رواد شعر التفعيلة، ومن السابقين إلى تأصيله، إذ فضّل هو أن يعرف كشاعر عمودي بدلاً من هذا النعت. وهو كما يذكر الكثير من النقاد والأدباء صاحب أقوى قلم نقدي في ثلث القرن الأخير مصرياً وعربياً.. تشهد على ذلك أبحاثه العلمية ودراساته ومؤلفاته القمة.
ومن أشعاره قوله:
أنا قلب أفريقيا الذي قد دق أبواب القدر
الشمس تنبع من جبيني ثم تغرب في الشعر
أنا قصة الشرق الذي أبهاؤه من أمنيات
أنا ذلك الشعب الذي جمدت يداه على السلاح
انظر إلى إصراره تلق الرماح على الرماح
في قلبه فجر يسلسل خطوة نحو الصباح
استكشاف المتنبي: والى الدكتور عبده بدوي يرجع الفضل كذلك في استكشاف المتنبي من جديد، فهو درسه دراسة جديدة تغاير من سبقه، وتبحث في أسباب خلود شعره إنسانياً، وهو رائد الشعر العربي المتأثر بأعماق القضايا الإفريقية كما كان يناديه بذلك أستاذه العقاد.
ويقوم أحد الباحثين بجامعة عين شمس بمصر بإعداد دراسة جامعية عنه كشاعر موهوب استطاع أن يدخل على قريضنا العربي ثقافات جديدة وأخيلة مختلفة لم نقرأها من قبل، وهو في هذا الاتجاه يخالف الحداثيين والعلمانيين الذين اتجهوا صوب أوروبا والولايات المتحدة ليقلدوا الأصوات الشعرية الغربية التي ماتت في بيئاتها بينما كان صنيع عبده بدوي هو البحث عن أرض أخرى ليستحلب ماءها ورواءها شعرياً وهو صوت المعذبين في الأرض والفقراء والكادحين في كل مكان، وهو المعبر عن آلام الناس والعالم الثالث ضد جبروت الإقطاع والرأسمالية الطاحنة للإنسانية.
ثلاثة عشر كتاباً
ومن العجيب أن للدكتور عبده بدوي ثلاثة عشر كتاباً أصدرها في الكويت ولا يُعرف عنها شيء في مصر، ولم تحاول دور النشر الحكومية إعادة طبعها مرة ثانية للاستزادة مما فيها من فكر خصب وأدب ونقد.
وأعتقد أن للدكتور عبده بدوي دواوين شعر لم تر النور لا تزال في حيز الإهمال والنسيان فمتى يتم نشرها حفاظاً على آثار هذا الشاعر الكبير؟
التأريخ للصحابة
وكان يتمنى من أعماقه أن تمتد به السنوات لينجز مشروعه الرائد وهو التأريخ للصحابة الكبار في قصيد سيمفوني آخر تتجلى فيه روعة حضارتنا وشموخ الرعيل الأول الذين حملوا على عاتقهم مهمة نشر الدين بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكي يظهر للغرب والهائمين حباً في الحداثة أن بمقدور شعرنا العربي العمودي أن يتعاطى مع كافة التيارات والأشكال الجديدة ولكن أين من يؤدي هذه الأمانة مثل شاعرنا الفذ عبده بدوي؟ ولا نعلم هل أتم عمله هذا أم لا!
أما السر الكامن في عذوبة أفكار ودراسات وإبداع عبده بدوي فهو كما يقول أحد الباحثين المتعمقين في كتاباته "إن عبده بدوي أخلص لقضيته وتراثه، واضطلع بدور محوري بفضل تفكيره الفلسفي العميق ورؤيته الثاقبة وتحليله الجوهري وآرائه الجديدة فكان مجدداً لا تابعاً ورائداً لا مقلداً".